سكرتيره الخاص محمد الشافعي صادق العناني: قادة الثورة كانوا يستشيرون البشير الإبراهيمي في أعمالهم
حاوره: محمد دحو-
الطريق إلى بيت الأستاذ محمد الشافعي صادق العناني بالعاصمة القطرية الدوحة، كنا أنا ورفيقي نفكر في زحمة صباح جديد، وننتظر إشارة المرور الخضراء، كانت العيون معلقة بأبراج الدوحة، وكانت سيارتنا تقطع بنا الطريق بهدوء، لكن ذلك لم يكلفنا كثيرا من الوقت، وما إن وطئت أقدامنا عتبة بيته قريبا من فيلاجيو، حتى بدأنا بالطيران في رحلة شيقة من الذكريات الثمينة، كنا نشعر بأننا شرعنا نقلب حقا صفحات تاريخ مجيد، هنالك حيث قاهرة المعز، ومجد الخمسينيات، وأحلام الشعوب العربية، وعلامة الجزائر الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
ثمانيني يتذكر
على محياه وقد جاوز الثمانين حولا، تشعر رغم تعب السنين، ببريق خفي، هو من وهج شباب السكرتير الخاص للعلامة الشيخ البشير الإبراهيمي، في خمسينيات القرن الماضي، ناظرا إلى وجهينا بابتسامة وترحيب، مستهلا أطراف حديث شيق، (كنت في مصر قبل هجرتي، أعمل سكرتيرا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مقرها الذي كان بالعمارة رقم 36 بشارع شريف باشا، الدور السادس بوسط القاهرة بدءا من عام 1952)، يغالب طنين ذاكرة لا تعجزه، يرفع رأسه بوقار، يقول بامتنان وعرفان، (لقد كان ذلك فضلا كبيرا علي).
فضل الشيخ على التلميذ، كما يسميه السكرتير الشاب، هاتفا بذلك دون أن تسأله، مكن الفتى المصري الغر من التعرف على بعض قادة الثورة الجزائرية، وزعماء جزائريين آخرين، فاقترب من قمم فكرية وأعلام دين، ورجالات سياسة ومقاومة، وتعرف على علماء أفذاذ، ممن كانوا رواد نهضة وكفاح، ضد الهيمنة والاستعمار الأجنبي، لأوطانهم العربية والإسلامية، وكل من كان يضمهم مجلس الشيخ الإبراهيمي، في تلك الحقبة الذهبية.
كان الفتى الشافعي حينها أصغر الحاضرين، كما يصف نفسه، كان يسمع بشغف كلام شيخه مع ضيوفه وزواره، كان يسجل ما يمور حوله في حضرة علامة الجزائر، من إشعاع فكري وحضاري، وأحلام سياسية تحررية، (كانوا يأتون إلى مقر الجمعية عصر كل يوم، للاستماع إلى الشيخين الجليلين المهيبين، البشير والورتلاني، وكان الحديث ربما يبدأ بمثل، أو بيت من الشعر، ويتفرع إلى سبل شتى في الفقه واللغة والسياسة والتاريخ والأدب..)
الشيخ الإبراهيمي في مصر
لم تكن رحلة الشيخ البشير الإبراهيمي إلى مصر عام 1952 إلا لحاجة في نفس يعقوب، ولم يكن من شيء في قلب عالمها الجليل، سوى حال الجزائر، وحال المسلمين تحت نير الاستعمار الجائر، وصدق من قال، وأذكر من أولئك اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، عرفته أو تعرفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين، كان لكلامه دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل قد رزق بيانا ساحرا، وتأنقا في العبارة، يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها،). محمد الغزالي، من مقدمة كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، جمع وتحقيق نجله، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي دار الغرب الإسلامي.
منذ الوهلة الأولى امتثل التلميذ لشيخه وبات مدونا لتلك الأيام العظام التي صنعها الإبراهيمي، بعد أن ترك الديار والأهل والوطن، وحل بمصر حاملا أرضه ووطنه وحلمه، يرتعش التلميذ لذكرى شيخه، (لم تكن رحلة شيخي الجليل إلى أرض الكنانة لمال يرجوه أو جاه يريده، وهو العالم المبجل الموقر، ولا لمال وهو الغني ببيانه وفكره، الحامل لقضية شعب بأكمله، وأمة بجراحها وعذاباتها،)، يسترسل الفتى الشافعي، يمد بصره وعقله فيرى ما لا تره عيناك، كانت تلك الجلسات، جلسات شيخي عليه رحمة الله، مدرسة من مدارس الفكر العظمى، التي كانت تعج بها القاهرة في ذلك الوقت، حيث كان هناك أيضا مجالس أحمد محمد شاكر، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهم من العمالقة، الذين اختصت بهم قاهرة المعز بواديها الخصيب، ونيلها الفياض).
الشيخ الورتيلاني كان طاقة جبارة وثورة متحركة
لقد صنع علامة الجزائر الكبير فضاءه الرحب في القاهرة، (وكان من أهم رموز تلك الجمعية الأستاذ الفضيل الورتلاني، الزعيم الديني السياسي، خليفة جمال الدين الأفغاني في الشرق عامة، والشرق الأوسط، على وجه الخصوص، وقد كان الشيخ الفضيل ثورة متحركة في زمانه، وطاقة جبارة لا تستطيع أن يستوعبها إلا من عمل معه).
كان ثمّة أقطاب وأعلام، وسياسيون وأدباء آخرون، (كان المجتمع هناك في الجمعية، علميا ثقافيا، لا يكاد يمر دون جلسة ونقاش ومداولة، يحضرها لفيف من رموز العلم والسياسة والأدب آنذاك، وكان من أهمهم، الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين والأمين العام للمؤتمر الإسلامي في القدس، وأحمد حلمي باشا رئيس حكومة عموم فلسطين، ومحمد علي الحوماني، الشاعر اللبناني الكبير، وعبد العزيز العلي المطوع، من رجال الكويت المعروفين، والشيخ الأجل محي الدين القليبي، زعيم الحزب الدستوري بتونس، والزعيم علال الفاسي، رئيس حزب الاستقلال في المغرب، والحبيب بورقيبة رئيس تونس، وكان أيامها لاجئا بالقاهرة، الأستاذ كامل كيلاني، الأديب القاص المصري المعروف، رائد أدب الأطفال في العالم العربي).
كان الشيخ العالم أحمد الشرباصي، صاحب كتاب (يسألونك في الدين والحياة)، من ضيوف الشيخ في مقر الجمعية، وكان من ضيوف الجمعية وشيخها الجليل، الشيخ عبد المنعم النمر وهو أحد كبار علماء الأزهر.
وسط العلم والعلماء، والسياسيين والأدباء وقادة وزعماء كبار، قضى سكرتير الإبراهيمي أجمل فترات عمره مزهوا بشيخه الجليل وبأولئك الضيوف الكبار والقامات الشامخة، التي كانت تصغي باحترام وتقدير لعلامة الجزائر، وتنهمل من علمه وأدبه، وهو يطوف في رحاب الفكر والأدب والسياسية، برجاحة عقله وجلال قدره، كان يستنهض الهمم، ويدعو إلى تحرير الأوطان، كان همه الإنسان والحرية والكرامة والعدل والانعتاق من ظلم المستعمر، وعن ذاك يضيف الشيخ العالم محمد الغزالي، (إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق، وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجر ضد الاستعمار، ورغبته الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم، ويستنقذوا أمجادهم وخيل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلا لا ينقطع حتى يحرروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خطابه يزأر كأسد جريح، فكان ينتزع الوجل من أفئدة الهيابين، ويهيج في نفوسهم الحمية لله ورسوله فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء..).
الإبراهيمي كان يعطي بومدين 5 جنيهات كراتب شهري
أيام السكرتير الخاص، حتى وإن كانت بعيدة في الزمن، إلا أنها ستظل قريبة من النفس، هي سيرة حياة مشرقة، ودفتر مليء بالذكريات والصور، تتزاحم فيه وجوه جزائرية عديدة، قلت له ماذا عن هواري بومدين الذي لجأ إلى القاهرة، وعاش فيها طالبا؟
هز الشيخ الشافعي رأسه مفكرا، صوب سهام التذكر ملتفتا إلى ذكرياته، نعم أتذكر هواري بومدين، لقد جاء إلى مصر من تونس، عبر الأراضي الليبية، والتحق بالجامع الأزهر، حيث درس وتفوق في دراسته، لقد كان شيخي الجليل، يحتضن الجزائريين طلاب العلم ممن هاجروا إلى القاهرة، كان يساعدهم ويدعمهم ماديا ومعنويا، لم يكن يبخل على أحد، أنا رأيت ذلك بأم عيني وأنا شاهد عليه، أذكر أن شيخي الجليل كان يعطي هواري بومدين 5 جنيهات كراتب شهري، كنت أحملها إليه بين فترة وأخرى، وأحيانا يسلمها له الشيخ الفضيل، وكان بومدين يزورنا بين فترة وأخرى.
الإبراهيمي… خطيب ثائر وفقيه نادر
لم ينس الشيخ الشافعي بعد كل هذا العمر الطويل، فضل شيخه الذي التحم به روحيا، كان له بمثابة الأب والمعلم، وكانت حياة الشيخ الإبراهيمي كما يقول سكرتيره، حياة خطيب ثائر، وفقيه نادر، وعالم جليل قل نظيره، كان الشيخ صاحب موقف وقضية، كان يجلجل في خطبه وأحاديثه ودروسه، داعيا إلى وحدة المسلمين والعرب، بل إنه من أوائل الذي نادوا بأهمية الوحدة بين مختلف الدول والأقطار العربية، وحين سقطت فلسطين وأنشئت على أرضها دولة اليهود، كان شيخي الجليل، عليه رحمة الله، يقول: ما أضاع فلسطين إلا العرب.
عاش شيخ علماء الجزائر في مصر عشر سنوات، كان خلالها محط تقدير واحترام وتبجيل المصريين والعرب والمسلمين، يستطرد الشيخ الشافعي، ويضيف مفاخرا، لقد نال شيخي الجليل كل التقدير والترحيب من العلماء والأدباء والسياسيين، كان صوت الجزائر في تلك الفترة المظلمة تحت نير الاستعمار الفرنسي، وكان صوت الجزائريين أينما حل وارتحل، وكانت له العديد من الزيارات من الدول والعواصم الإسلامية، حصل منها على الكثير من المساعدات المالية، كان شيخي معجبا بمصر وبقاهرة المعز التي استظل بظلالها، كان يشيد بجامع الأزهر ويدعو إلى إصلاح مناهجه، كما كان على تواصل دائم مع الصحافة المصرية، يدفع بصوت الجزائر في كل مكان، داعيا إلى حق النصرة والمساعدة المعنوية للجزائر ضد المستعمر الفرنسي الغاشم.
هذه علاقة الإبراهيمي بقادة الثورة
يقول سكرتير الشيخ البشير الإبراهيمي، إن شيخه الجليل كان يعيش مع الجزائر ليله ونهاره، ويستطرد متذكرا، لم أره إلا منافحا عن وطنه، معرفا بقضيته، داعيا إلى نصرته، كان يرفع صوت بالحق ويجهر به عاليا، وكان رجال الجزائر وقادة ثورتها يكنون له كل التقدير والاحترام، من أمثل كريم بلقاسم ومحمد خيدر، بل كانوا يعرضون عليه بعد العودة من أسفارهم ما قاموا به في تلك الزيارات، كانوا يستشيرونه ويعرضون عليه أعمالهم ورؤاهم وبرامجهم، وكذلك كان حاله في القاهرة، في دروسه ومحاضراته، وإن أنس، فلن أنسى درسه الذي هز به الحاضرين في جمعية الشبان المسلمين عام 1954، التي كان يترأسها الأستاذ حسن البقوري، حضرها جمهور غفير كان في مقدمتهم المراقب العام للإخوان المسلمين الشيخ حسن الهضيبي، والسيد قطب، وقد استهل الإبراهيمي كلمته بقول للإمام علي كرم الله وجهه، اعرف الحق تعرف رجاله، وقد تبحر شيخي في أفانين البيان والسحر والبلاغة والشرح والتمكن النادر الذي سحر به الحضور، وبهرهم بعلمه الغزير.
وماذا عن الإبراهيمي الوالد والزوج؟
رداعلى هذا السؤال يذكر سكرتير الشيخ، عليه رحمة الله، أن قلب الأب الوالد الإبراهيمي كان شديد التعلق بنجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذي زاره رفقة والدته عام 1954 في القاهرة، قضى معها الشيخ أجمل الأوقات والساعات والأيام، ثم سافر نجله وزوجته إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج.
الوصية
في الأول من مارس عام 1955 وقبيل رحيلي من القاهرة، بساعات، يتذكر الشيخ الشافعي ذلك بكثير من الحب واللوعة، عرجت على شيخي الكريمين، في مقر الجمعية لأودعهما وأستمع إلى نصائحهما الأخيرة. دلفت إلى المقر فوجدت شيخي الجليل البشير الإبراهيمي، فسلمت عليه وقبلت يده ورأسه مودعا، فأجلسني بجواره وقال لي:
يا بني، إنك ذاهب إلى لتعيش بين أفراد مجتمع جديد عليك، فحاول، بل وابذل جهدك لأن تترك فيه أثرا صالحا، وتذكر ما قلته لك من قبل، احذر محاولة الظهور، وتسربل دائما بنكران الذات حتى لا تؤلب عليك الأحقاد، وليكن حبلك المتصل بالله متينا، إذا حز بك أمر فالجأ إلى الله، (وأشار بأصبعه إلى السماء)، فهو الناصر والمعين. يا بني تخير أفضل من في المجتمع الذي ستعيش به، أقصد أفضلهم خلقا، وأحسنهم دينا، وأعظمهم عفة، واجعل منهم رفاق خير، لأنك لن تستطيع أن تعيش وحيدا، فأنتم- يا أهل مصر- يقال إن الواحد منكم لو رأى ليلة القدر فإن دعاءه لربه سيكون بأن يرزقه الله بقرة وجميزة ولو كان لكم طول بال على الهجرة، لحلت مشكلة السودان من زمان بعيد.
يا بني: احذر أصدقاء السوء، ولا تكن كصاحب الكير… اذهب يا بني والله حارسك.
قبلت يده ورأسه مرة أخرى، ودموعي تنهمر، وقبل مغادرتي المكان سلمتني (سلوى) ابنة الشيخ الحوماني هذه الوصية مكتوبة بخطها، وانصرفت إلى المطار.
ويختم الشيخ الشافعي كلماته المؤثرة، لم تتركني كلماته تلك أبدا، بل رافقتني طيلة رحلة حياتي، ولا تزال تعاودني من فترة لأخرى، إذا حز بي أمر، أو ضاقت بي الحياة.
المصدر: جريدة الشروق اليومي 16/02/2020