تطبيقات في تجارب الاغتراب: الاغتراب اللغوي نموذج الكاتب والروائي مالك حداد (1937-1978)
د: ياسين مشتة-
لم يكتف الاستعمار الفرنسي من احتلال الأراضي الجزائرية ونهب خيراتها، بل امتد لنهب الممتلكات الرمزية لهذا الشعب، من خلال تدمير بنيته الرمزية المتمثلة في اللغة والثقافة والعادات والتقاليد التي تعتبر الركيزة الأساسية لبناء هوية المجتمع، أن ما تعرضت له اللغة العربية من تدمير وتشويه يتجلى من خلال اعطاء دورا بارزًا للنظام التعليمي الكولونيالي بهدف فرض لغة المستعمر، فمارس الاستعمار عنفا رمزيا على اللغة المحلية ولهجاتها وعلى مختلف اشكالها التعبيرية عنها من الفنون والأدب.
لقد أدركت فرنسا تمام الادراك أنه حتى يتسنى لها فرض وجودها الاستيطاني في الجزائر، وحتى تستطيع ترسيخ اركان وجودها وتضمن الاستمرارية في ذلك لابد عليها من التركيز على اللغة، لأنها تلعب دورا محوريا في بناء شخصية الفرد من خلال اعادة انتاج النظام التمثلي للمجتمع، وهي بذلك تخلف في نفسية الجزائري ارتباك في نظرته لوجوده وللعالم، من خلال فصل عرى لغته المحلية، طالما أن وجود الإنسان مرتبط بشجرة اللغة، وإدراكاته اللغوية لهذا الوجود، ومن ثم فإن تغيير نظام تعبيره أو على. الأقل إزاحة نظامه التقليدي سيخلق فيه تمزقات نفسية وانفصامات ذهنية وارتكاسات قيمية من شأنها أن تتركه عرضة للازمات الهوياتية الوجودية.
فالمسألة في جوهرها كما يعرفها الباحث الاسترالي Bill Ashcrofth هي تثبيت الوجود الاستعماري. من خلال النظام اللغوي الاستعماري وضمان استمراريته الأبدية حيث يتغلغل هذا الوجود في لاشعور المستعمرات ويصبح جزءا من وجودها الجديد، وهنا تؤدي اللغة هذا الدور الخطير في إبراز الطابع المهيمن لهذا النظام والقائم عل تراتبية القوى في مقابل النظر إلى. الآخر بدونية واعتبار منظومته القيمية من دين ولغة منظومة دنيئة لا تعبر إلاّ عن تخلف أصحابها وبدائيتهم .
تلخص المشروع إذا في جعل الجزائري ينف. من لغته و يقبل متوهما على لغة المستعمر، كتاشيرة للاعتراف به أو لميلاده الجديد، لكن الشيء الذي لم يتكهن به المستعمر هو أن هذا الواقع القائم على. تراتبية سلطوية سيد/ عبد قوي/ ضعيف، متحضر/ متخف والتي سخر لها اللغة لتعزيزها. كانت سببا لانبثاق وعي من داخل هذه المستعمرة يسائل ذاته و يشكك في مدى نزاهة لغة المستعمر، وفي مدى براءتها من أي نوايا سيئة، بل إن هذا الوعي قد جسدته كتابات خرجت من أعماق هذه المستعمرة، وعمق الشعب الجزائري ومعظمها كان نتاج المدرسة الكولونيالية فهمت أم المقاومة هي فعل لغوي، وهي استعادة للصوت المستعبد. اللغة الفرنسية عند حداد هي ذلك المنفى الذي تحول إلى وضع درامي، بلغ به مبلغا من التالم الروحي، حيث لم يجد من ينكي هذه الجراح إلاّ اختيار أشد الحلول قسوة وهي التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية، بعد الاستقلال. فصاحب رواية “التلميذ والدرس “أراد أن يقدم درسا لفرنسا حول التزام الكاتب بقضايا وطنه مؤمنا أن لا استقلال إلاّ من خلال فك الارتباط بفرنسا لغويا واستعادة علاقة الجزائر بمكوناتها الهوياتية وعلى رأس هذه المكونات اللغة العربية .
لم يقدم لنا حداد لاسيما في مقاله الطويل “الاصفرار تدور في فراغ” محاكمة للغة الفرنسية لكنه أراد أن يكشف عن الانسداد الذي طال أنظمة التمثيل الثقافية عند الكتاب الجزائريين وما عانوه من عزلة قاسية كان من أهم أسبابها غياب القراء بل وانعدامهم، لأن معظم الجزائريين كانوا أميين وبذلك فإن ما يكتبه الجزائري كان أشبه بمونولوغ داخلي لا يصل إلى هؤلاء الذين كانوا ضحايا التاريخ وضحايا السياسية الاستعمارية الذي ضربت بكل قوتها بهدف تجهيل الشعب الجزائري، فعندما صدع بعبارة “الفرنسية منفاي” لم يكن يقصد بهذه العبارة الشهيرة أن يحاكم اللغة الفرنسية إنما أراد أن يشير إلى الطريق المسدود الذي وجد فيه الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية عامة والأدب الجزائري خاصة.
يضعنا حداد أمام رؤيتين لتفسير مأساة الكاتب الجزائري:
1 الرؤية الأولى تتعلق بغياب القارئ.
2 الرؤية الثانية تتعلق بالحنين إلى اللغة الأم.
إن المفارقة في موقف حداد من لغة المستعمر، إنه اجتهد لكي يفصل بين نظرته اللغة الفرنسية باعتبارها هي منفاه الرمزي، وما أحدثه ذلك في حياته الأدبية من شروخ في عزلته وتيتمه. وبين الاعتراف بالوجه التنويري في هذه اللغات بالذات. وكان لسان حاله يقول: “قد تكون الفرنسية منفاي. لكنها أيضا بوابتي إلى العالم، وإلى فكر الأنوار وإلى الحضارة.
لابد أن نظرة حداد للغة في سياقها التاريخي حيث كانت لمقولات كالالتزام والنضال السياسي. ووظائفية الكتابة والتزامها التاريخي والاخلاقي مقولات ذات دلالات متجذرة في تلك المرحلة بل مفتاحية لفهم الطبيعة التاريخية لأفكار جيل من الكتاب نشؤوا داخل فضاء ثقافي اخل بالتوازنات الثقافية واللغوية في وعي الكتاب الجزائربين. ولم يكن مالك حداد الوحيد الذي أحس بهذا الخلل وأم كان الصوت الأكثر وضوحا وجراة في طرح القضية باشكالها وأبعادها.
الكتابة عند مالك حداد هي انخراط في الحياة و في التاريخ فهي بذلك من أدوات النضال السياسي الذي يهدف إلى أحداث اليقظة الوطنية والوقوف في وجه الامبريالية الغاشمة، وهي ايضا تمثيل كل تلك الطبقات الكادحة التي تعجز عن تمثيل نفسها. ومحاولة انتشالها من براتين الصورة النمطية التب حاولت ترسيخها السرديات الأروبية وحاولت من خلالها إقناع هذه الشعوب بتخلفها التاريخي، وببدائيتها ووحشيتها إلى غير ذلك من الصور التي تزخر بها الادبيات الكولونيالية.
يعي جيدا حداد أن الكاتب الجزائري الذي يكتب بلغة المستعمر هو ضحية التاريخ، ضحية أقداره المشؤومة، وهو مؤمن بأن الكتابة باللغة الأم يكون أصدق وأكثر قدرة على التعبير عن حقيقة أفكاره لكن لا بديل له في ذلك الظرف التاريخي. فقد صارت لغة المستعمر بالنسبة للمستعمر وسيلة تحرير فعالة. ويستشهد بما قاله الكاتب الكبير “مصطفى كاتب”.
إن الاعتراف بالوجه التنويري ووجود وجه مشرق في لغة المستعمر من طرف مالك حداد قاده للاستشهاد بمقولة الكاتب الكبير “مصطفى كاتب” في قوله قاومنا “بيجو” لكننا لم نقاوم “موليير” وهذا ما يسميه حداد”المفارقة التاريخية العجيبة” فموليير بالنسبة للجزائريين ليس غريبا عنهم وليست له صلة بالقوة الاستعمارية، بل على العكس من ذلك يمثل ادبه صرخة في وجه الاضطهاد، الذي عانى منه شخصيا في حياته، ويقدم درسا في التاريخ على أن معنى الاضطهاد هو الذي يتاسس من الداخل، فالعدو الحقيقي هو السيد الاقطاعي الذي نزع عنه موليير قناعه من خلال مسرحياته، الاقطاعي الذي يمد يده للمحتلين في الجزائر.
ندرك أن حداد كان يسير نحو فكرة “الازدواجية اللغوية” كحل لا مفر منه، فحتى لو ان اللغة العربية ستعود بعد الاستقلال لتتبوا مقعدها وموقعها الطبيعي، فهذا حسبه لن يشكل خطرا على اللغة الفرنسية فالمستقبل هو للتعايش بين اللغتين في الجزائر.
ما تطرحه الازدواجية اللغوية هو نبذ فكرة محاكمة اللغات وتمريغها في وحل الايديولوجيات، بل هي طريقة لممارسة الحوار ونحو مزيد من الوعي بالذات، وهي كذلك تضمن تخصيب الوعي واللسان معا.
يقول حداد في هذا الاطار ان الفرنسية منفاه، وفي نفس الوقت يشكرها لأنها مكنته من خدمة بلده الجزائر الحبيبة، فاللغة عنده هي وسيلة لا غاية.
التساؤل الآخير الذي طرحه حداد هو “من هو الكاتب الجزائري؟ وما هي المعايير التي تكشف عن هويته؟ هو تساؤل عن الكتاب الجزائريين وليس عن الكتاب في الجزائر، فبين العبارتين هناك اختلال في الدلالة، هذا التساؤل هو نفسه الذي طرحته مجلة فرنسية قامت بعملية سبر آراء كتاب يفترض أنهم جزائريين ولكن معظمهم كانوا من الكتاب الفرنسيين المقيمين في الجزائر.
فقد كان الكتاب الفرنسيين يدعون لهوية جزائرية لما يكتبونه وبرزت عدة تيارات وحركات مثل حركة الجزارة التي دعت إلى تأسيس جمالية مغايرة للجمالية الميتروبوليتانية، لأنهم كانوا يعتبرون انفسهم كتابا جزائريين، وكان يحدوهم هدف تاسيس حركة أدبية جزائرية تعلن عن ميلاد أدب جزائري جديد، يكتبه كتاب فرنسيون ولدوا في الجزائر وعاشوا فيها أمثال Albert camus .
يقول حداد اذا كان هؤلاء يعتبرون انفسهم جزائريون فمن يكون حداد، كاتب ياسين، محمد ديب ومولود فرعون؟ فمالك حداد يطرح فكرة الاصل بمعناه التاريخي، أي ذلك الجذر الذي يمكن الرجوع اليه للقاء الاجداد والالتقاء بالتراث والعادات والتقاليد، والمنظومات التصورية والذهنية والرمزية التي انتجتها الجماعة منذ قرون، لذلك فهو يرفض اعتبار الجزائر امة بلا تاريخ.
*مختص في سوسيولوجيا العمل .