التلمساني… رائد العمل النقابي في المغرب الأقصى
بقلم: محمد بسكر-
يكتسي التّعريف بأدباء المهجر أهمية كبيرة، لما يمثّله من استرجاع للرصيد الثّقافي المغيّب نتيجة الإهمال، والبحث في تاريخ هجرة العلماء وآثارهم لم يأخذ بُعده عند المؤرّخين الجزائريين، لأنّ استقصاء قائمتهم يحتاج إلى جهد كبير، رغم الجهود التي بذلها البعض، أمثال الدكتور “عمار هلال” مؤلّف كتاب ”العلماء الجزائريون في البلدان العربية الإسلامية فيما بين القرنين التاسع والعشرين الميلاديين“.
حديثي في هذه الورقة عن مؤرّخ جزائري مهاجر، يجهله الكثير منّا، أستعرضُ فيها ما عثرت عليه من معلومات حول تاريخه ومؤلفاته، ألَا وهو :“ ألبير عياش”، منَ الكتّاب المُختصين في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الأقصى، لا توجد معطيات كثيرة تشير إلى أصوله ونشأته، ما عدا كَونه من مواليد بلدة تلمسان سنة 1905م، هاجرت أسرته واستقرّت بالمغرب بعد فرض الحماية الفرنسية سنة 1912م، ويعتبر تاريخ الاحتلال الفرنسي للمغرب الأقصى مرحلة جديدة شهدت هجرة أسر ونخب جزائرية من المثقفين ورجال الإدارة، الذين وجودوا مجالًا جديدًا للعمل الإداري والتعليمي والمهني. وبعض من ترجم لألبير عياش ذكر بأنّه استقرّ في مدينة وجدة الحدودية، وانصهر مع أهلها وارتبط مساره بمسارهم، وعمل هناك أستاذًا للتاريخ والجغرافيا بثانوية الفتيان ما بين سنة (1932 و1939) ؛ أي أنّ تعلّمه ونشأته كانت في حاضرة تلمسان، انتقل إلى المغرب شابًا موظفًا، وقد أهّله انخراطه في مجال التربية خوض غمار العمل النّقابي في مدينة وجدة ونواحيها ضمن الكونفدرالية الفرنسية العامّة للشغل بداية من سنة 1936م، وفي سنة 1939م أجبر على التجنيد خلال الحرب العالمية الأولى ، وبعد عودته سنة 1943م أعيد إلى عمله أستاذًا بثانوية الدار البيضاء.
اختار – في المجال السّياسي- الانخراط في الحزب الشيوعي المغربي الذي أسّسه “ليون سلطان” سنة 1943م، وهو محامي من مواليد مدينة قسنطينة سنة 1905م، ويعتبر ” ألبير عياش” أحد الأعضاء الأساسيين للجنة الاقتصاد والأسعار والأجور التّابعة للاتحاد العام للنقابات الكونفدرالية ( C.G.T)، وهو اتحاد يشرف عليه مناضلو الحزب الشيوعي الفرنسي، ثمّ عين سكرتيرا لهذه اللّجنة (1944- 1946)، وبفضل كفاءته وصل سنة 1948م إلى قيادة الاتحاد العام للنقابات الموحدة (U GSCM) ، كما ساهم خريف سنة 1946م في تأسيس مركزية نقابية جديدة للدفاع عن حقوق العمال الكادحين.
وبغض النّظر عن توجّهه اليساري، والإيديولوجية الشيوعية التي تبنى فكرها، فإنّه يعتبر من الباحثين الكبار في تاريخ المغرب الاجتماعي والسياسي، « يَدينُ له الباحثون بإسهامات علمية عميقة وعنيدة حول تاريخ البُنيات الاقتصادية والاجتماعية التي رسمها الاستعمار في المغرب العربي، وفي المغرب على الخصوص»، ولقد تربصت به الإدارة الاستعمارية لنشاطه السّياسي فأبعدته عن المغرب سنة 1952م، واعتقلت الكثير من أصدقائه المناضلين معه.
اهتم خلال مشواره الثقافي الطويل بالكتابة والتّأليف في تاريخ الحركة الوطنية ، وقدّم للمكتبة المغربية دراسات ومقالات وبحوث كثيرة، منها: كتابه ” جغرافيا المغرب” بالاشتراك مع (ف.جولي، ج.فاديل، ل.سوش)، نشره سنة 1947م، وتاريخ شمال إفريقيا القديم (سنة 1964م)، ومونوغرافية مقالة استعمارية، وشيوعيو المغرب والمغاربة، واليمين واليسار في الحماية الفرنسية بالمغرب، ودراسة حول الحياة النقابية بالجزائر، وغيرها من الدّراسات التي نشرها طيلة حياته الثقافية. وأهم ما خدم به التاريخ المغربي تأليفه لكتابين هامّين هما:
1- المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية:
كتبه باللّغة الفرنسية سنة 1956م، بتشجيع من صديقه الباحث الفرنسي جان دريش” j.Drech”، وكافأته وزارة التربية المغربية عن هذه الدّراسة بجائزة سنة 1957م، ميّز فيها بين ثلاث مراحل، مرحلة المقاومة، ثمّ حركة المطالبة بالإصلاحات، فحركة المطالبة بالاستقلال، فهي نص تحليلي حول حصيلة الاستعمار الفرنسي بالمغرب، مهّد فيه لفهم سليم لتاريخ المغرب الأقصى، واحتلت الدّراسة الاجتماعية والاقتصادية فترة الحماية ثلثي الكتاب المتكون من 57 صفحة. اعتبره الدّارسون من أهم المصادر المؤرّخة لفترة الحماية، واستقطبت مواضيعه كافّة القرّاء والباحثين المهتمين بالتحولات الاجتماعية والسّياسية التي شهدها المغرب في العهد الاستعماري. حاول فيه ردّ الاعتبار للمغرب ككيان تاريخي، فاهتم بتشكيل الشعب والدولة، وكيف أنّ التحولات الاقتصادية وتفكّك البنية الاجتماعية والسّياسية منذ بداية الحماية الفرنسية سنة 1912م، هي التي شحذت الشّعور بالوطنية، فتحليله للواقع الاجتماعي ركّز فيه على تأثير العامل الاقتصادي على الطبقة الكادحة، إضافة إلى تاريخ الاستثمار الاستعماري بالمغرب، من حيث تمويله وأشكال توظيفه وأهم مراحله.
قدّم لمزايا هذا الكتاب وفوائده صديقه في النضال ” جان دريش” حيث قال: « إن ألبير عياش لم يتخوف من إنجاز هذه المهمة، فهو بصفته أستاذا للتاريخ والجغرافية، وبصفته مناضلا نقابيا مكث في المغرب عدة سنوات، مُهيأ أكثر من غيره لهذه المهمة، ولم يدخر جهدًا في جمع وثائق كثيرة، وفي التنقيب في الكتب والمجلات والوثائق ».
2- الحركة النقابية في المغرب:
وهو كتابه الثاني من حيث الأهمية، حقّق به طموحه العلمي، وأرّخ فيه للحركة النقابية في المغرب. صدر عن دار الحضارة سنة 1988م ونقله إلى العربية نور الدّين سعودي، أصدر الجزء الأول من دراسته ثم أعقبها بالجزء الثاني والثالث، وخم كتابه بقاموس لتراجم ومسارات معظم المناضلين النّقابيين المغاربة والأجانب، الذين شاركوا في تأطير العمل النقابي، تحدّث فيه عن جذور الحركة النقابية التي أرجع بدايتها إلى ولادة عسيرة مع بداية سنة 1919م، فالخوض في تاريخ الحركة النقابية وتتبع مسار نضال الطبقة العمالية ومشاكلها، تتخلّله الصعوبة لقلة المصادر؛ لأنّ المنظمات الأولى في عهد الحماية لم تكن مهتمة بالأرشيف، وحينما تكوّنت هذه الأرشيفات تمّ تخريبها في شهر جوان من سنة 1940م ممّا صعّب الحال على الباحث.