أستاذنا المجاهد العالم المقاوم "زهير إحدادن"
محمد الطيب

أستاذنا المجاهد العالم المقاوم “زهير إحدادن”

بقلم: محمد الطيب-

الكاتب المؤرخ العالم الأستاذ الجامعي المختص في تاريخ الصحافة الجزائرية بجامعة الجزائر، رمز المقاومة، والمعرفة والكرامة الانسانية، شاهد على العصر، المعروف بإسمه الثوري "سي مبارك"، عرفه الجميع بكتابه "مدخل إلى علوم الإعلام والاتصال" الذي لازال إلى وقتنا الحالي مرجعا علميا يُرجع إليه رغم التطورات المتواصلة التي يعرفها هذا المجال، رافق العديد من قيادي الثورة وكان له دور بارز في الإعلام الجزائري.

وُلِد زهير في سيدي عيش ببجاية في 17 جويلية 1929، من عائلة مثقفة لها مكانتها بالجهة، كان والده محند السعيد قاضيا، الذي علم استاذنا وحباه بتربية ورعاية ركيزتها العلم كسبيل للقضاء على الاستعباد والاستعمار، أما نشأته الاجتماعية وهو طفل وتلميذ، يقصها في مساره، فقد تعلم قيم المقاومة من المرأة الجزائرية الأصيلة، من والدته، ومن القص الشفهي والشعبي لنانا جوهرة شقيقة جده، امرأة متواضعة يخلدها ويعظمها الأستاذ يقول عنها في مذكراته: "النا جوهرة هي شقيقة جدي، لم تدخل يوما المدرسة، لكنها كانت موسوعة حية، فقد غرست فينا تاريخ المنطقة، الإسلام، والفقه الإسلامي، والقانون العرفي، والطب التقليدي، والثقافة القبائلية، من خلال قصصها وشعرها وأغانيها، كان لي الحظ أن تعرفت عليها وأنا صغير، وعشت معها إلى أن بلغت سن المراهقة، فإلى جانب والدي لعبت دورا كبيرا في تكويني الثقافي"، فبالإضافة لأمه باية عبد الرحيم، وجدته، وكل قريباته من لالة زهيرة، ولالة نفيسة وغيرهن من نفيسات العائلة، يحكي أستاذنا دور المرأة الجزائرية الأساسي في استمرارية الشخصية الجزائرية، وفي ديمومة المقاومة، فوالد جده الحاج اعلي شارك في ثورة الشيخ أحداد، وكان أحد أبرز منشطي الثورة في منطقة توجة، كما أن خال والده اسماعيل احدادن كان رفيقا للأمير خالد وقد نفي للمغرب حيث عاش في مكناس ومات ودفن فيها، كما أن شقيقه الراحل رشيد كان مناضلا في حزب الشعب الجزائري، وشقيقه الأصغر الشهيد عبد الحفيظ أحد المتخصصين الأوائل في الذرة النووية، كما أن والده كان متعاطفا مع الشيخ بن باديس وجمعية العلماء، بالإضافة لذلك فللأستاذ علاقة قرابة مع المناضل والمؤرخ محمد الشريف ساحلي، وعلاقة مصاهرة مع رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، فشقيقته الكبرى تزوجت أحد أشقاء فرحات عباس.

كما حفظ منذ نعومة أظافره بعض من القرآن الكريم في الكٌتاب بمسقط رأسه، وتمكن من اللغة العربية، ودرس في المدرسة الفرنسية في الإبتدائي والمتوسط، والثانوية.

زهير ثمرة في شجرة إحدادن الوطنية من الشيخ الحداد إلى الأمير خالد إلى مصالي الحاج وبن باديس وفرحات عباس.. فقد انخرط مبكرا بحزب الشعب الجزائري في 1947 إلى غاية 1949 وهو طالب في عمر 18 سنة بقسنطينة، لينتقل بعدها إلى العاصمة لمواصلة دراساته العليا، حيث درس اللغة العربية وتحصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة الجزائر، وكان قد انخرط باكراً في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، الرفيق المقرب لثلة من شهداء الحركة الطلابية الذين التحقوا بصفوف جبهة التحرير الوطني، وعلى رأسهم الشهيد عمارة رشيد، الذي اجتمع رفقته ورفقة المناضل المجاهد الراحل لمين خان بالشهيد عبان رمضان، وكان موضوعه التساؤل حول ما تنتظره الجبهة من الطلبة الجزائريين، وكان رد عبان كما يقول أستاذنا: "يمكن للطلبة ان يضمنوا تغطية ثلاثة مجالات هي: الدعاية، الاتصالات، وبشكل خاص الصحة"، وهو ما تم، وقد تكلف الأستاذ بمجال الدعاية بعد النضال الطلابي".

كما عمل أستاذا منذ 1955 بإحدى المتوسطات بمليانة، حيث اعتقل ثم نفي إلى وهران ليعاد القبض عليه مرة ثانية قبل أن يهرب من السجن، ليتنقّل بين المدن والقرى الجزائرية، ثم سافر إلى فرنسا ليلتحق بشقيقه الحفيظ الذي كان من أبرز علماء الذرة بفرنسا، ومنها إلى تونس ثم المغرب، كما عمل بجريدة "المجاهد" إبان الثورة التحريرية من جوان 1956 إلى 19 مارس 1962 حيث كان ضمن فريق تحرير النسخة الناطقة بالفرنسية للجريدة بتيطوان في 5 أوت 1957 ثم بتونس في نوفمبر من نفس السنة إلى جانب رضا مالك، فكان مع الراحل محمد بوضياف الذي كان أول من أطلق جريدة "المقاومة الجزائرية"، وعمل مع حسين بوزاهر وصادق موساوي، وسي عبد الرزاق وغيرهم، وممن عرفهم كذلك المجاهد الراحل الوزير السابق لمين مشيشي...

بعد الاستقلال أعلن انسحابه من العمل السياسي بسبب الخلافات بين الثوّار بعد توليهم الحكم، ورغم اعتزاله السياسة، لم يتوقف نضاله، فالمقاوم لا يستسلم ولا يساوم، أخذ فقط استراحة المحارب، فأولوياته كانت التنشئة الثقافية والاجتماعية للمجتمع الجزائري، والدفاع عن تراثه الحضاري والثقافي بأبعاده الإسلامية الأمازيغية والعربية، فالأستاذ يقول في مذكراته ".. أزمة صيف 62 أقصت كل ما هو جزائري أصيل"، فكان أن قرر اقتراح مبادرة تأسيس "جمعية القيم"، قيم الجزائر والاسلام، في سنة 1964 برئاسة الراحل الهاشمي التيجاني. ومع كل المتاعب التي عرفها مع تجربة القيم، تفرغ للجامعة لتكوين أجيال الصحفيين، فنجح في انجاز مهامه، وأول مهامه كانت توحيد برنامج التعليم الذي كان فرنسيا في القسم المفرنس ومشرقيا في القسم المعرب. اتذكر جيدا استاذنا وهو يدافع بقوة العالم العلامة في مناظرة نهاية الثمانينات بمدرج المغرب العربي بمعهد علوم الاعلام والاتصال عن اللغة العربية ومدى مساهمتها في الحضارة الإنسانية، بعد الانفتاح السياسي في بداية تسعينيات القرن الماضي عاد للنشاط السياسي حيث ساهم في تأسيس حزب رفقة رئيس الحكومة المؤقتة الراحل بن يوسف بن خدة، لكنه انسحب بعد ذلك.

فقد تقلد استاذنا عدة وظائف سامية، بعد تدريسه بثانوية الإدريسي، ساهم في تأسيس المدرسة العليا للأساتذة بالقبة وعمل في مديرية النشر والتوزيع بوزارة الثقافة لمدة خمس سنوات، ومن ثم تحول إلى وزارة التعليم العالي والمدرسة العليا للصحافة، وفي سنة 1976 قرر متابعة دراسته العليا بفرنسا فدرس بـالسوربون، ونال منها درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ثم عاد إلى الجامعة الجزائرية فدرّس بها، وشارك في تأسيس عدد من الصحف، ليعود إلى "الجامعة الجزائرية"، ويُدرِّس في كلية الإعلام والاتصال أكثر من عقدين، هكذا واصل مساره حتى تقاعده عن عمله كأستاذ في الجامعة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بعدما تخصص في تدريس تاريخ الصحافة الجزائرية. ليتفرّغ بعد ذلك للبحث والتأليف إلى جانب تكليفه بإدارة المدرسة العليا للصحافة، وأخر منصب شغله كان عضوا بسلطة ضبط السمعي البصري.

يقول أستاذنا عن مساره "أن حزب الشعب عرف أزمات كانت منها لا تصل إلى الجميع، وعشت منها كموقف فصل الأمين دباغين من الحزب، وبعدها الأزمة البربرية، واكتشاف المنظمة السرية والاعتقالات التي تمت ضد أعضائها..، وإن الحزب كان مشكلا من ثلاثة مستويات، الأول الهيكل السياسي الممثل في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، والمستوى الثاني حزب الشعب السري وعمله التحسيسي، والثالث المنظمة الخاصة لأصحاب الخبرة العسكرية والسياسية والمناضلين السريين القدامى، وبعد أربع سنوات التحقت بالجامعة في العاصمة، وواصلت نضالي السياسي، والتزمت وزملائي الطلبة الحياد حينما قامت الأزمة بين المصاليين والمركزيين، واعتبرنا أن ذلك سيضر بالحزب وأهداف الحركة الوطنية، وأنه حتى عام 1955، كانت تنتاب الكثيرين شكوك حول هذه الثورة، مخافة أن يتعرض الحزب إلى خيانة جديدة، كنت مقتنعا بعد قيام الكفاح المسلح في تونس والمغرب أن هذا الخيار هو الوحيد للجزائريين، ورغم إيماني بحتمية الخيار العسكري لم ألتحق بالثورة، إلا بعد لقائي بعمارة رشيد الذي كنت أعرفه أنه صادق ووطني، فسألته هل تعرف هؤلاء الذين فجروا الثورة، فأجاب بنعم وأقام لي اتصالا مع مناضلين، وطلب مني آنذاك تجنيد المناضلين الذين كانوا في حزب الشعب للالتحاق بجبهة التحرير الوطني، حينها بدأت الممارسة الإعلامية الميدانية، وفي حزب الشعب كان نوع من التكوين الإعلامي الدعائي مع بن يوسف بن خدة وعبد الرحمان بن كيوان الذي كون لجنة إعلامية في الحزب، وكنت كوسيط بين عبان رمضان والمناضلين بجامعة الجزائر، بعدها تحصلت على ليسانس في الأدب العربي، وعُينت كأستاذ بمليانة في أكتوبر 1955 بثانوية فروخي حاليا، وفي جوان ألقوا علي القبض بعد إضراب الطلبة في 19 ماي، ثم نفوني عن العاصمة، وأرغموني على ركوب القطار والذهاب إلى وهران رغم مطالبتي بالعودة إلى قسنطينة، وفي محطة وهران اعتقلت من جديد حيث مكثت فيها ليلة واحدة، لأسافر بعدها إلى فرنسا التي كان لي أخ يدرس هناك، وفي باريس مكثت شهرين والتقيت ببلعيد عبد السلام وعرفني بأحد المحامين، لكني أردت الاتصال بالجبهة حتى أذهب إلى المغرب، وكان ذلك يتطلب جواز سفر، فسافرت إلى تونس التي كان السفر إليها بدون جواز، ومنها سافرت إلى المغرب، عندما وصلت إلى تونس في سبتمبر 1956 كانت وقتها أزمة كبيرة قام بها أحمد محساس وعبد الحي ضد عبان رمضان، ووقع انقسام وسط قيادات الثورة، وهي أزمة أكبر من أزمة حزب الشعب، وعندما وصلت إلى المغرب التقيت بعلال الثعالبي كان من رفقاء محمد بوضياف، فاتصلت به، وبعد 3 أيام قال لي ستسافر، فظننت أن سفري سيكون إلى الجزائر، لكن أخذوني إلى تيطوان في شمال المغرب، ووجدت هناك "علي هارون" الذي كان مديرا لجريدة "المقاومة الجزائرية"، والتي كانت تصدر بالعربية والفرنسية، فطلب مني العمل معهم، وبعد مجيء وفد من الجزائر أتوا بجريدة "المجاهد"، وطلب منا إيقاف إصدار جريدة "المقاومة الجزائرية" التي كانت تصدر في المغرب وتونس وفرنسا، وبدأنا بتيطوان في العدد الثامن من يومية "المجاهد" بعد صدور 7 أعداد منها في الجزائر، وأن طاقم المقاومة كان من ستة أشخاص وهم علي هارون والعياض بوعبد اللي، وبوزاهر حسن، وعلي عسول، وأنا وفاطمة الراقنة، إضافة إلى عاملين عمار وعاشور، وبعدها أضيف لنا رضا مالك كمسؤول عن الجريدة، وفرانس فانون كرئيس تحرير للقسم الفرنسي، ومحمد الميلي رئيس القسم العربي، وكانت تطبع بمقياس (60-40) وتوزع في الخارج عن طريق الجو، ثم تم تقليص الحجم، وكنا نطبعها في المغرب عند الإسبان الذين لم يضايقونا مُطلقا، أما الطبعة التي كانت ترسل إلى الجزائر فكانت في ورق شفاف لا يرى عليه خط الكتابة، وكانت توزع في الجزائر حوالي 5 آلاف نسخة، وبعد ما جرى في 1957 ضد عبان رمضان، طلب من هذا الأخير السفر إلى المغرب، إلا أنه رفض وفضل تونس، وبعد سلسلة من التعيينات، أتى لمين بشيشي ومجموعة أخرى من المناضلين وتمت المطالبة بإصدار الجريدة من تونس، حيث كانت تنقل نسخ المغرب إلى الجزائر ومن ثم إلى تيطوان، وقد بقيت أنا وعلي عسول كمشرفين على مكتب المغرب، حيث اقترحنا عليهم حينها أن يتم الطبع بتقنية جديدة كانت تستعملها جريدة العلم المغربية لسان حال حزب الاستقلال، بما أن الجريدة كانت تحط في الجزائر قبل نقلها إلى المغرب، وقد استطاع العدو معرفة ذلك وقام بتحريف ثلاث نسخ والتي صدرت على طبيعتها المحرفة في المغرب دون أن ننتبه لذلك رغم شكوكنا، إلا بعد تحريف خطاب فرحات عباس حول تقرير المصير، والذي جاء ردا على بعض البنود التي تحدث عنها ديغول، وبعد تفطننا لذلك كتبنا تصويبا، وكشفنا الحقيقة فانقلب السحر على الساحر بالنسبة للاستعمار، خلال وجودنا في المغرب كانت الإذاعة المغربية وإذاعة تيطوان تخصص ساعة لبرنامج تحت عنوان "صوت الجزائر"، والذي كان يستمع له في المغرب وفي الشمال الغربي الجزائري، وكان يقدمه "علي مرحوم" صهر العربي بن مهيدي، وكنت مع عسول من الذين يساعدونه في كتابة الخطاب والبرنامج الذي يذيعه، والحقيقة تقال إننا تلقينا كل التسهيلات في المغرب من قبل الملك محمد الخامس، ورغم العراقيل التي وضعت في طريق الثورة بعد مجيء الحسن الثاني من خلال تطويقه لعملية تهريب السلاح نحو الجزائر، إلا أن ضغطه لم يصل ليطال العمل الإعلامي الذي كنا نقوم به، ورغم العمل التوعوي والتحسيسي وكذا إبراز جرائم الاستعمار الذي كانت تقوم به جريدة المجاهد، إلا أن أبرز مقال أحدث ضجة كبيرة هو افتتاحية "الخبز المسموم" التي كتبها رضا مالك حول المفاوضات التي بدأها الرئيس التونسي الأسبق لحبيب بورقيبة مع فرنسا الاستعمارية لنقل البترول الجزائري عبر الأراضي التونسية، والذي بموجبه ستتلقى تونس مقابلا ماليا لسماحها بمرور شحنات البترول على أراضيها، وهو الأمر الذي كانت ترفضه جبهة التحرير الوطني، وكان لهذه الافتتاحية صدى كبير في تونس، حيث رفض التونسيون ذلك، ما دفع ببورقيبة إلى العدول عن مفاوضاته مع فرنسا ولم يذعن لضغوطها، غداة الاستقلال طلقت السياسة، بعد الصراعات التي عرفها مجلس الثورة في مؤتمر طرابلس وغيره، وغادرت العاصمة باتجاه قريتي بتوجة في بجاية لأعيش من عمل الفلاحة رفضا لمساندة مسار سياسي لم أكن مقتنعا به، كما توجهت بعدها إلى التدريس كأستاذ مؤقت في ثانوية الإدريسي بالعاصمة، رغم أنه كانت لي علاقة طيبة مع الراحل محمد خميستي الراحل وزير الخارجية الأسبق، ومع محمد الصديق بن يحيى الذي كان يُحبني كثيرا طلب مني العمل معه في سفارة الجزائر بروسيا، إلا أنني رفضت لعلمي أن تعيينه كان بهدف إبعاده، وحذرته من ذلك، وبعد سنوات التحقت بالمدرسة الوطنية للأساتذة، وبعد استلام هواري بومدين الحكم عين بن يحيى وزيرا للثقافة والإعلام، فدعاني هذا الأخير للالتحاق بالوزارة في 1966 وكلفني بإدارة النشر والتوزيع، وأسسنا مجلة "آمال" بالعربية و"بروماس" بالفرنسية، ووجهتها بالتحديد لنشر القصة القصيرة والقصيدة والمسرح، وفتحت الأبواب للكتاب الشباب، حيث نشرت مثلا لمرزاق بقطاش ولثلة من الكتاب الشباب، وعندما عُين بن يحيى وزيرا للتعليم العالي استدعاني من جديد وكلفني بإدارة المدرسة الوطنية للصحافة (القسم العربي) التي كانت وقتها تعيش أزمة، وعندما قصدتها رفضني وقتها رشيد توري مدير جامعة الجزائر آنذاك، والذي كان محبا ومفضلا للفرنسية أكثر من العربية، ولم يقبل بي إلا بعد تدخل بن يحيى، تسلمت مهمتي، لكن عندما وصلتها كمدير تم إعطائي مكتبا بدون نافذة ولا يتوفر على شروط العمل، لكن تركيزي على العمل جعلني لا أعطي لذلك أهمية، فوضعت برنامجا جديدا للقسم العربي مماثلا للقسم الفرنسي، وأدخلت مادتي "علم الاجتماع الإعلامي" و"الاقتصاد الإعلامي"، إضافة إلى إعادة تنظيم وحدة "فنيات التحرير"، كما أصدرت مجلة للجامعة، وبعد إلحاق قسم الإعلام بقسم العلوم السياسية تولى رشيد توري إدارة الكلية، وأنا لم أقتنع مطلقا بعمله فذهبت إلى باريس لتحضير الدكتوراه، رغم تمسك بن يحيى بي في برنامج التعريب الذي أقنع به بومدين وشرع في تطبيقه، بعدما حصلت على شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية من جامعة باريس 2، عدت إلى الجزائر فوجدت فوضى عارمة في معهد الإعلام، وطلب مني تدريس "نظرية الإعلام"، لكن بدلت المادة إلى "نظريات الإعلام"، وبعد ثلاث سنوات قمت بجمع الدروس والمحاضرات في كتاب حمل في البداية عنوان نظريات الإعلام، لكن الدكتور عزي عبد الرحمان اقترح أن يكون (مدخل إلى علوم الإعلام والاتصال) والذي بقي مرجعا إلى غاية اليوم...، وبالنسبة لي، تاريخ الثورة كتب والصحافة أعطته أكثر من حقه، فالتاريخ هو الخطوط الكبيرة والمراحل الهامة، والإدعاء بعدم كتابته خرافة، وأنا ضد من يقولون يجب أن نكتب الثورة لأنه غير مكتوب، فهذه مغالطة يجب الخروج منها، هل يوجد من لا يعرف تاريخ الثورة، فهناك تاريخ وتاريخ، فإذا كان المقصود الحكايات الصغيرة فهي لا تنتهي، فالرسول صلى الله عليه وسلم مازلنا إلى الآن نتعرف على جزئيات حياته، والتاريخ هو الخطوط الكبيرة والمراحل الهامة، والإدعاء بعدم كتابة التاريخ هو خرافة، فالجميع يعرف أول نوفمبر ومؤتمر الصومام وإضراب الطلبة، أما التفاصيل الصغيرة فتحتاج إلى آلاف السنين لكتابتها، فما عاشه حي أو قرية هي حكايات صغيرة ولن تنتهي.. أما الربيع العربي هي خرافات يضحك الغرب بها علينا لتقليده، ولا وجود لأي ربيع عربي...".

ترك أستاذنا أثرا طيبا حيث تزخر المكتبة الوطنية بعديد مؤلفاته من بينها "مدخل الى علوم الإعلام والاتصال"، و"شخصيات ومواقف تاريخية"، و"الصحافة الإسلامية الجزائرية من بدايتها إلى سنة 1930"، و"الصحافة المكتوبة في الجزائر من 1965 إلى 1982"، و"المختصر في تاريخ الثورة الجزائرية 1962-1954"، وكان يعدّ لنشر مذكراته بعنوان "مسار مناضل" والتي نشرت ايام قبل وفاته حسب ما أورد الأستاذ رضوان بوجمعة طالبه المرافق حتى آخر لحظاته، كتابه الأبرز كان "التاريخ المستقل للمغرب: الجزائر من 1962-1510"، حول التاريخ المعاصر والحديث لبلاده وبلدان المغرب العربي عموماً، وهو دراسة مقارنة لكتب المؤرخين حول الجزائر، يصحح من خلاله العديد من المغالطات التي تتعلق بنشوء كيانات سياسية مستقلة خلال خمسة قرون، كما يفند العديد من الآراء التي صاغها الاستعمار حول الشعب الجزائري وهويته، خلال أكثر من نصف قرن أمضاها في التدريس الجامعي والبحث العلمي، بالإضافة إلى مذكراته...

بعد هذه المسيرة النضالية والجامعية الطويلة، وبعد صراع مع المرض، توفي في المستشفى العسكري بعين النعجة بالعاصمة في 20 جانفي 2018، عن عمر ناهز 89 عاما، ووري الثرى بمقبرة العالية بحضور العديد الأكاديميين من الأساتذة والطلبة في معهد علوم الإعلام والاتصال.

نعاه إعلاميون جزائريون بأنه "الرحيل الكبير والخسارة الأكبر للصحافة الجزائرية لرجل أمضى عمره متشبثا بقلم لم يجف يوما في سبيل حرية الكلمة، وناضل لإعلائها في أحلك الأوقات، وأكثرها خطورة واعتبروا أن الإعلام الجزائري فقد برحيله أبا تخرجت على يديه أجيال اختارت حمل راية الإعلام الجزائري".

وذكر رئيس سلطة ضبط السمعي البصري السيد زواوي بن حمادي بـ "المسار الطويل والمتميز في بناء صرح الصحافة والإعلام والقطاع السمعي البصري مشواره الحافل بالعطاء بالصوت الحكيم والمسموع".

وركز الطيب زيتوني وزير المجاهدين على "مساره النضالي إبان الثورة التحريرية مشيرا إلى أن الجزائر تفقد المجاهد الفذ والرمز الوطني الرائد في ميدان المعارف والعلوم والرجل الخادم الوفي لوطنه بما قدمه من جليل الأعمال بكل حكمة وإقتدار"، وأضاف أنه "برحيل هذا الباحث اللامع والمثقف الطلائعي ومربي الأجيال الذي نذر حياته خدمة للوطن وأدى رسالته النبيلة تجاهه تفقد الجزائر الإعلامي المحنك والباحث الأصيل الذي أغنى المكتبة العلمية بمؤلفات وبحوث رصينة".

وقال الإعلامي علي ذراع "المدرسة الإعلامية الجزائرية فقدت 'بناءها' الأول رحيله خسارة كبيرة للصحافة والإعلام في الجزائر فهو -أبا للمدرسة الإعلامية الجزائرية- ورمزا من رموز حرية التعبير في الجزائر، وواحد ممن أرّخوا لهذه المهنة حيث تخرجت على يديه أجيال، وأطر الكثير من الأطروحات، وساهم في تكوين العديد من الشباب، وأضاف أنه أسس للمدرسة الإعلامية الجزائرية في ستينيات القرن الماضي، حيث كانت الكلمة صعبة جدا، والنضال من أجلها رسالة، فنضاله الطويل من أجل الجزائر كلها سمح له بتصدر المشهد الإعلامي والثقافي الجزائري، ودعا جيل اليوم إلى العودة لمسيرة الراحل والاستلهام منها وكذا الاقتداء به في تكوين شخصيتهم الإعلامية، والمساهمة في ترقية الصحافة الجزائرية.

وقال أ.د. عزي عبد الرحمان، في كلمته التأبينية، أن الفقيد كان "مناضلا مخلصا وعالما متواضعا وإنسانا اجتمعت فيه قيم النزاهة والشجاعة والعزة والكرامة، وكل من عرفه أحبه وتعلق به، فكان قدوة أصيلة لأجيال بحكمته واتساع معارفه ولغاته وتجاربه وحسه السياسي النابض ووعيه الأخلاقي الراقي وتعامله الإنساني البسيط مع من كان حوله، فكان بذلك خير خلف لخير سلف".

كما قال فيه الراحل المجاهد والوزير الأسبق الأمين بشيشي في تأبينية الراحل في 2020 بكلية علوم الإعلام والاتصال بأن الكثير من المجاهدين كانوا متفقين على تسميته بـ "الطاهر والطهور".

< p align="justify">ولذكرى الرجل الطيب العالم الفذ رسمت مؤخرا جامعة الجزائر3 في أكتوبر 2020 تسمية أحد مدرجات كلية علوم الإعلام والاتصال باسم الراحل، باسم ذلك الذي أفنى حياته مجاهدا من أجل تحرير وتنوير الجزائر. رحم الله أستاذنا العالم المتواضع المتعفف المخلص في خدمة الجزائر، في ميزان حسناته، ونفعنا الله بعلمه.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.