محمد غالم (1946-2021) والمعرفة التاريخية
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
توفي اليوم الأحد 3 يناير 2021 المؤرخ الجزائري الدكتور محمد غالم (1946-2021)، وينضم بذلك إلى قائمة أساتذة التاريخ الذين فقدتهم جامعة وهران في السنوات الماضية مثل الدكتور يحي بوعزيز والدكتور أحمد عبيد وغيرهما من الأساتذة والباحثين.
محطات في المسار
محمد غالم من مواليد في عام 1946 بالغرب الجزائري. تخرج من جامعة وهران في عام 1976 حاصلا على دبلوم الدراسات المعمقة في التاريخ الحديث والمعاصر، وكانت رسالته حول المقاومة الجزائرية في منطقة معسكر وانتفاضة سكانها ضد سياسة التجنيد الاجباري العسكري في بدايات الحرب العالمية الأولى.
وواصل دراساته العليا في باريس ونال شهادة الدكتوراه من جامعة باريس 7 في عام 1983 بعد مناقشة أطروحته حول المقاومة الجزائرية للتجنيد الاجباري في القطاع الوهراني بين 1911 و1916.
اشتغل الدكتور محمد غالم أستاذا للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة وهران، وعضوا مؤسسا لمخبر العلوم الاجتماعية والعالم العربي، ثم باحثا مشاركا في المركز الوطني للبحث في الأنتروبولوجية الاجتماعية والثقافية بوهران .
نشر مجموعة من المقالات والبحوث في مجلة “إنسانيات” التابعة للمركز الوطني للبحث في الأنتروبولوجية الاجتماعية والثقافية، وكذلك في المجلة التاريخية المغاربية التي تصدر بتونس حول قضايا تاريخية وتربوية متعددة، بالإضافة إلى قراءات نقدية وعروض لبعض الكتب الجديدة التي صدرت في الجزائر أو في الخارج في مجال اهتماماته المعرفية، وأذكر منها: رنين الحداثة للباحث الجزائري بختي بن عودة، العائلة الموريسكية للمؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي، والتاريخ والذاكرة للمؤرخ الفرنسي المعروف جاك لو غوف.
الأسطوغرافية الجزائرية المعاصرة
من أهم الموضوعات التي شغلت بال الدكتور غالم موضوع الأسطوغرافية الجزائرية المعاصرة التي خص لمعالجته جزءا كبيرا من مقالاته وبحوثه. فقد درس ما أنتجه المؤرخون الجزائريون في القرون الثلاث الأخيرة، وطرح قضايا ومقاربات جديدة لدراسة تاريخ الجزائر المعاصر.
تساءل عن مصادر المؤرخين الجزائريين، ودرس مدى تأثير الفكر الخلدوني عليهم وعلى إنتاجهم العلمي. فكان التأثير في نظره عابرا إذ لم يستفيدوا منه بالقدر الكافي الذي يسمح لهم بتجاوز مرحلة وصف الحدث ليقدموا مقاربات تحليلية على أسس حديثة تتلاءم مع تطوّر علم التاريخ، ويمكن لها أن تصلح وضع البحث التاريخي عندنا المتأثر دوما -حسب رأيه- بقراءات الآخرين لتراثنا التاريخي وانشغال مؤرخينا بترميم ما أفسده المؤرخون الاستعماريون.
وفي السياق نفسه، درس إسهامات المؤرخين في الجزائر خلال القرن الثامن عشر، وبيّن مدى الارتباط الوثيق بين المؤرخ ورجل السلطة العثمانية التي تشعر باستمرار بعزلتها وبرودة علاقاتها مع السكان الأصليين للبلد أي الجزائريون الذين يجدون أنفسهم دائما بعيدين عن المشاركة في الحكم وإصدار القرار. لذلك يلجأ الحكام العثمانيون إلى استغلال المعرفة التاريخية لتثبيت شرعيتهم الروحية في الحكم خاصة لما يكون المؤرخ أيضا فقيها فتكون تأثيراته مزدوجة. كما تطرق الدكتور غالم إلى الأسطوغرافية المتصلة بالمقاومة التي ترمي إلى التحرر من إرث المؤرخين الفرنسيين. ورغم كل الجهود المقدمة من طرف المؤرخين الجزائريين، تبقى الحصيلة لحد الآن محدودة.
لقد نوّه الدكتور غالم بأهمية الأرشيف في كتابة التاريخ لما يقدمه من المعلومات الغزيرة ووجهات نظر متعددة أو مختلفة تجاه الحدث. ويجبر المؤرخ على الاستفادة منه ونقده باستمرار نظرا للظروف التي جمعت فيها المعلومات، والسياقات التي كتبت فيها تلك التقارير. وتظهر هذه القيمة الارشيفية في دراسته حول ظاهرة الهجرة الجزائرية نحو البلاد الاسلامية والتي لم تكن بعيدة عن عيون السلطة الاستعمارية ومراقبتها المستمرة كما تشهد على ذلك الوثائق الاستعمارية المحفوظة اليوم في مراكز الأرشيف الفرنسية.
وتطرق إلى موضوعات جديدة قلما يهتم بها البحث التاريخي في الجزائر، وأقصد هنا التاريخ الطبيعي بينما تطوّر هذا المجال المعرفي عند غيرنا من المدارس التاريخية، ويكفي أن أذكر هنا الأعمال الرائدة للمؤرخ الفرنسي إمانويل لوروي لادوري حول تاريخ المناخ عبر العصور. أما الدكتور غالم المتأثر بمدرسة الحوليات التي يعد هذا المؤرخ الفرنسي من أعمدتها، فإنه تناول ظاهرة الزلازل وكيف تناولها المؤرخون.
ودرس تطوّر الذّهنيات في الجزائر وانعكاساتها على الانسان الجزائري في التاريخ وفي الواقع الذي سيتحول بدوره من بعد إلى تجربة تاريخية إذا اهتم به المؤرخ ووثقه في سجله للأجيال الحاضرة والقادمة. وقد استقدم رموزا ثقافية من التراث القديم كالمهدي المنتظر لدراسة المقاومة الجزائرية خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ويبقى وفيا لهذه المقاربة لما تطرق لموضوع تحرير مدينة وهران في 27 فبراير 1792، فلم يهمه الحدث وحده رغم أهميته القصوى، إذ درس أيضا المخيال الجمعي ووصف مشاهد الناس وانفعالاتهم وخوفهم ثم عودة الأمل والاستبشار بالبطل (محمد الكبير) واستعادة وهران والانتصار على العدو. هذه الدراسة ذكرتني بأعمال المؤرخين جون دوليمو وفيليب آرييس التي لا يسأم الانسان من قراءتها.
كما استحضر الأستاذ غالم الأحداث الراهنة كالانتخابات المتتالية في الجزائر وهي تعكس في نظره المستوحى من أعمال الدكتور ناصر جابي المختص في علم الاجتماع السياسي، صورا معاكسة للتاريخ السياسي الجزائري المشحون دائما بالأيديولوجيات المتعددة والرواسب التاريخية، وهيمنة الرموز الثقافية والأنتروبولوجية على عقل الفرد الجزائري في سلوكياته اليومية وفي طريقة تفكيره. وهي أفكار تحتاج حقا إلى الدراسة المعمقة من طرف المختصين في العلوم الاجتماعية والمناقشة الجادة والنقد البناء.
نقد الخطاب التاريخي المدرسي
لقد أشرف الأستاذ محمد غالم على عدة مشاريع بحثية، أذكر منها: “كيف يدرس التاريخ في الجزائر؟” (1992)، و”المعرفي والأيديولوجي في الكتاب المدرسي” (2011)، “القيم التربوية في الكتاب المدرسي” (2013).
وكانت كل هذه المشاريع تشتغل على الكتب المدرسية بخاصة في المرحلة الثانوية، وتدرس مدى انسجام مضامينها مع المعايير العالمية وملاءمتها مع المقاصد الجديدة للتربية والتعليم. وقد صدرت كل هذه المشاريع في كتب ليستفيد منها أهل الاختصاص، وكذلك يستعين بها المشرفون على إصلاح التعليم وتجديد المناهج الدراسية في الجزائر.
وشارك في كل مرة ببحث حول الكتاب المدرسي في مادة التاريخ في المراحل الثانوية المختلفة. وكانت معظم النتائج التي توصل إليها تصب في نقد المضامين العلمية لهذه الكتب التي تتسم في نظره بالوصف والتلقين وتكرار الموضوعات وتقديس المعلومات، وتخلو من النقد العلمي والروح الموضوعية والعقلانية التاريخية.
ويرى الدكتور غالم أن مسؤولية هذا الخلل تعود إلى المؤلفين الذين وضعوا هذه الكتب على ضوء مناهج تقليدية تجاوزها الزمن ولا تتماشى مع متطلبات العصر، وكذلك غلّفوا الموضوعات المدروسة بأيديولوجية واضحة المعالم والغايات، ويقصد بها الأيديولوجية العربية الإسلامية التي هيمنت دائما حسب قوله على وزارة التربية، وساهمت بشكل كبير في صناعة أزمة الهوية في الجزائر.
وعملت هذه الأيديولوجية كما قال على تقزيم تاريخ المغرب وتعظيم تاريخ المشرق، ثم تحولت إلى مجاملة الذات الوطنية وتمجيد الماضي المحلي، بينما يجب أن يتضمن الكتاب المدرسي القيم الإنسانية المشتركة، ويشجع على تفتح الفرد الجزائري على الثقافات والحضارات الأخرى.
ولا شك بأن في هذا الطرح مبالغة في تضخيم مسؤولية المعربين لوحدهم فالأزمة ساهمت فيها النخبة الفكرية والسياسية بشقيها المعرب والفرانكفوني، فالجزائر في حاجة إلى ترسيخ انتمائها الوطني المحلي، وتعزيز ارتباطها العربي والإسلامي، ودعم تفتحها على العالم المعاصر.
لقد حاول الدكتور غالم أن يتحرر في بعض أعماله من أيديولوجيته اليسارية والحداثية، وينقد هذه الازدواجية المتصارعة والتي تضر مستقبل الجزائر وتعيقه عن التقدم، ثم يدعو إلى السير في الطريق الثالث المطعم بالوسطية والعقلانية والواقعية والمصلحة العامة، لبناء رؤية عقلانية لتاريخنا، وتأسيس هوية وطنية حقيقية والتي تتشكل من المكوّنات التاريخية والثقافية الخمسة الآتية: العروبة، الإسلام، الأمازيغية، الحداثة، والمواطنة.
الأعلام تصنع التاريخ
وإلى جانب الموضوعات السابقة المتعلقة بالأفكار والتصورات، اهتم الدكتور محمد غالم بالإنسان الذي يصنع التاريخ بمفرده أو ضمن الجماعة أو الطبقة أو العُصبة…على حسب نظريات فلسفة التاريخ المتعددة. ومن هذه الأعلام الجزائرية التي درسها أذكر هنا: أبا راس الناصري، عدة بن غلام الله البوعبدلي، مبارك الميلي، مصطفى الأشرف وأحمد كرومي.
عاش أبو راس الناصري الراشدي المسكري بين 1755 و1823، وترك نحو خمسين كتابا في التاريخ وأدب الرحلة والتفسير والنحو والمنطق وغيرها من العلوم والآداب، ومن أشهرها كتابه: “عجائب الأسفار ولطائف الأخبار”. ولعل من أهم ما فعله الدكتور غالم أنه حقق هذا الكتاب الذي يتضمن معلومات جغرافية وتاريخية كثيرة عن مرحلة حاسمة من تاريخ الجزائر في العهد العثماني، ويكشف صفحات مشرقة من الكفاح الجزائري ضد الاحتلال الاسباني.
والاهتمام بالشيخ عدة بن غلام الله البوعبدلي جاء في سياق متابعة أعمال اليوم الدراسي الذي نظمته جمعية الفكر والثقافة لمدينة تيارت حول فكره وتصوفه. وقد تحدث الأستاذ غالم بالمختصر المفيد عن جهاد هذا العالم المتصوف ضد المستعمر الفرنسي، وعودته بعد ذلك إلى زاويته بقرية قرية جيديوية (دائرة وادي رهيو) للتعبد والاشتغال بالتعليم ثم التفرغ للتأليف في مجالات التصوف والفقه وعلم الحديث.
شارك الدكتور محمد غالم في أعمال الندوة الدولية الحادية عشر حول “الزيتونة: الدين والمجتمع والحركات الوطنية في المغرب العربي” المنعقد بتونس في ماي 2004، وقدم بهذه المناسبة محاضرة عن الشيخ مبارك الميلي الذي جمع بين العمل الإصلاحي والكتابة في مجال العقيدة والتاريخ.
لقد كان الشيخ الميلي معلما وداعية، ومؤلفا لكتاب “رسالة الشرك ومظاهره” في العقيدة الإسلامية وكتاب “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”. وإذا كان مهيئا للكتابة في القضايا الدينية باعتباره عالما زيتونيا فإن خوضه تجربة الكتابة التاريخية كانت وليدة أيديولوجية وطنية قبل أن تكون نابعة من حاجة علمية ومعرفية، فالتاريخ كان قبل كل شيء وسيلة للدفاع عن الهوية الوطنية التي كانت مهددة من طرف السياسة الاستعمارية الرامية إلى القضاء على كل مقوّمات المجتمع الجزائري.
لم يتوقف مصطفى الأشرف عن الكتابة حول أصول المقاومة الجزائرية وتطوّر الفكر الثوري عند الإنسان الجزائري عبر التاريخ، فكان الأشرف وعدد قليل من المفكرين الجزائريين أمثال محمد الشريف ساحلي ومالك بن نبي وفرانز فانون… الذين حاولوا التنظير لهذه الثورة التي كانت أنموذجا في التاريخ المعاصر بما قدمته من تضحيات جبارة في سبيل تحرير الإنسان من الاستعباد والاستعمار، وبما تمثله من مصدر الآمال للشعوب المقهورة والمستضعفة، وبما كانت تنشده من القيم الإنسانية بين الناس. هل مازلنا نحافظ على هذا الرصيد المعنوي لثورتنا التحريرية؟ هل ما زال العالم ينظر إلى ثورتنا التحريرية بتلك الصورة اللامعة؟ كيف نستفيد من قيم هذه الثورة الكبرى في حياتنا الراهنة وفي مستقبلنا؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى عقول جبارة تشتغل عليها باستمرار لكي لا ننسى، ولكي نسير دائما في الطريق الصحيح ولو بخطوات قليلة.
ولم يهتم الأستاذ غالم فقط بالأعلام المعروفة التي تطرقنا إليها سابقا، فقد كتب أيضا عن شخصية علمية غير معروفة باستثناء المختصين وقُراء مجلة “إنسانيات” التي كان يساهم فيها بموضوعات حول الحداثة والمواطنة والنخب والابستمولوجية والمعرفة المدرسية…. إنه أحمد كرومي الأستاذ بجامعة وهران. ولقد كتب عنه من باب الوفاء بالصداقة والاعتراف، ومن أجل التعريف بإسهاماته العلمية والفكرية، والتنويه بنشاطه السياسي وعمله النقابي ونضاله المدني.
في مشوار حافل حمل الدكتور محمد غالم على كاهله عبء المساهمة في وضع منهج سليم لتدريس التاريخ في المدرسة الجزائرية، وتأصيل ضوابط الكتابة وإنتاج المعرفة التاريخية، وإرساء قواعد متينة لبناء المدرسة التاريخية الجزائرية التي ينشدها كل المؤرخين الجزائريين بغض النظر عن اختلاف اتجاهاتهم الفكرية التي لا تخلو منها أية مدرسة من المدارس التاريخية الحديثة والمعاصرة.