دمعة قلم في رثاء عَلم
بقلم: د. عاشور توامة-
أُراني لست ممن يعرضون الكلم قبل فحواه، ولست ممًن يستجدون قلمهم في الرًثاء قبل دمعاه، ولست ممًن يسطرون سطرا دون أن يؤتي معناه، لأنًني وبكل بساطة أنثر حرفا حارقا من مدمعي، أقدًمه بلسما شافيا من نار الصًبابة والأسى ومن بهما فؤاده قد اكتوى لفقد الأحبة من العلماء، الذين لم يوًرثوا دينارا ولا درهما وإنًما أوتوا العلم والسؤدد، أقدم دمعا مصفًى فيه دفء وشفاء للأيتام من التاريخ ممًن فقدوا فصلا منه أو جزءا، وعلما من أعلام الجزائر والأمًة، وهرما من أهرامات العصر، ومدرسة من مدارس التًاريخ والفكر، إنًه ساعد التًأريخ وسعادة العلم ” أبو القاسم سعدالله ” أو”سعد السعود” وهو اللقب الذي كان يفضل أن يدعوه به رائد الإصلاح الجزائري العلامة الشيخ ” محمد البشير الإبراهيمي “
لقد قرّر سعد السعود الرحيل من باب التّاريخ الواسع إلى عالم أرحب وحقيقة ألزم وتاريخ أرحم بعد أن نفخ الرّوح من فيض قلمه السيّال على صفحات تاريخ الجزائر المجيد، فكان سراجا للسّالكين من الباحثين ونبراسا متقدا للدّارسين الشغوفين.
لقد عقد العزم أن تحيا الجزائر فأشهدها بعشرات من الكتب والمؤلفات، وزانها بوشاح من الأبيات، فكانت باكورة أعماله ” النصر للجزائر” مطلع ثورة الخمسينيات، فكان خليفة آل خليفة متلقيا ومقدما لشهادة الماجستير التي نالها في أرض الكنانة والمعجزات.
لقد تشّرب من معين مادة التّاريخ صنوف الحوادث والأفكار، مبتعدا عن زيف الحقيقة والتعصّب والأهواء وملذّات الإغواء، فتشبّع بالمنهجية الأنجلوساكسونية الصّارمة، فألزم نفسه بيقين المعرفة والتدقيق العلمي والضبط المنهجي، وفتح ورشته التّاريخية لينجز طيلة حوالي نصف قرن الكثير من الأعمال والدراسات والأبحاث.
غادرنا قدوة المؤرّخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله المتعدد في العطاء والرائد في كل فضاء والمطاول لكل فكر وسماء.
غادر ابن قرية ” قمار” بعد أن خاض غمار الحرف والكلمة فأعطى للعلم كله ليعطيه بعضه وأعطى لشعب الجزائر جله ليمنحه حبه.
تركنا “ابن وادي سوف” بعد أن صاغ من ملاحم الجزائر وبطولات شعبها شعرا ونثرا، فمنحته خلودا في القلوب وذكرا ترويه للأجيال شهائد الأحبّة وقصائد تترى.
ودّعنا مؤرّخ الأجيال بعد أن أمّد الجزائر من يمّ علمه موسوعته الشّاملة، وأيقونته المكنونة الجامعة المانعة” تاريخ الجزائر الثّقافي”، ليمدّ يد العون إلى كل موئل ظامئ للتّاريخ الجزائري لربط أواصر الأخوّة بين أبناء الباحثين العرب، ومدّ جسور المعرفة والمصير المشترك، فالظلم آت ولا أجدى نفعا من سلاح الهوية يوم المعترك.
غاب عنّا حارس الذّاكرة الجزائرية والأمّة بعد أن خاط عباءة المثقف الجزائري في كل محفل دولي، فصار صوته مدويا بعدما كان يتهادى من طرف خفي.
ودّعنا داعية التأميم الثّقافي ومجزئر التّفكير والذّوق من التوجه العام، بعيدا كل البعد عن تموقع الذّات مثلما توهم البعض، إنّه الموّحد المعتدل الذي لا يفرق بين القضايا الجزائرية وقضايا الأمّة العربية والإسلامية، أوليس القائل:«إن الجزائر قبل كل شيء هي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، وهذا الوطن يؤمن بحضارة مجيدة ساهمت الجزائر نفسها في الدفاع عنها وتدعيمها، وإن محاولة الفصل بين الجزائريين وأشقائهم التي قام بها الاستعمار لا يمكن أن تصبح نهائية، وهكذا فإن الجزأرة في الحقيقة ما هي إلا عملية استعادة المياه إلى مجاريها أي ربط الثقافة في الجزائر بمصير الثقافة العربية الشاملة».
حلّ وارتحل الشّيخ بعد أن شكّل رؤية أصيلة في النظر إلى التّاريخ، وجعله في صلب اهتمامه باعتباره أستاذا جامعيا وناقدا حصيفا وموجها حكيما ومرشدا، ولا أدّل على ذلك من نظرته الثّاقبة المثقلة بجاذبيه الهويّة والأصالة وذلك في مثل قوله:« التاريخ الحقيقي هو الذي يكتبه أبناء البلد عن أنفسهم لأنه جزء منهم ولهم، أما وجهة النظر الأجنبية فتظل عملا مساعدا فقط«.
علا وسما سعد السعود بقدر ما كان يتألّق في مدارج الفضل والامتياز لتشكيل صورة حقيقية ومتكاملة عن المثقّف الجزائري الأصيل، فهو نموذج للكاتب الجزائري القادر على التأثير في وسطه الاجتماعي في ظل التفاعل مع الآخرين، وذلك على حد قوله: «نعني بالمثقف الإنسان الذي بلغ درجة من المعرفة جعلته ينظر إلى مجتمعه، وإلى العالم كله بمنظار واع شامل ونافذ، وبهذا المعنى لا يمثل طبقة بعينها، ولكنه شخص بلغت به خبرته وذكاؤه إلى أن يرتفع فوق مستوى الإقليميات والطبقات والطوائف «
إنّه نموذج المثقّف الرفيع والشريف النزيه الذي لم يغريه بريق المناصب اللامعة، ولا لذائذ المواقع المفرغة، لأنه وبكل جسارة رجل المواقف الخالدة والمبادئ السّامقة والشهادات الحية.
إنّه النموذج لكل باحث ينشد الحقيقة، والمؤنس لكل متردد حاد عن المسيرة، إنه مثال المجتهد والمكافح الصابر والمصابر، والمجاهد العالم الثائر والمثابر.
إنّه العالم بهدوئه الجليل، والملتزم بسلوكه القويم، وحيائه الجميل، وسمته الوسيم، إنّه مثال التواضع من غير ذل، والرفعة من غير كبر.
رحل عنّا شيخ المؤرّخين بعد أن استقصى حقائق وتفاصيل التّاريخ استقصاء العالم النّحرير، وجال بلاد العرب والعجم باحثا ودارسا ومدرسا جولان الرحّالة العلّامة الكبير، من مسقط رأسه قريته “قمار” إحدى ضواحي وادي سوف، إلى الجزائر العاصمة إلى تونس إلى مصر إلى الأردن إلى أمريكا إلى فرنسا… ثم العودة إلى الجزائر، ورحلاته الداخلية إلى أدرار وتندوف وغرداية والأغواط وبوسعادة… هذه الأخيرة المدينة العتيقة التي كانت قبلة الأمراء والفنّانين والعلماء كـ “الأمير الهاشمي بن الأمير عبد القادر الجزائري”، والرسّام العالمي الفرنسي المسلم “الفونسو إتيان ديني أو الحاج نصر الدين دينيه” بعد إسلامه، والعالم الجليل وأحد أبرز علماء الزاوية القاسمية “محمد بن عبد الرحمن الديسي”، وهي المدينة التي اتخذها –أيضا – قدوة المؤرّخين الجزائريين محطّته الأخيرة، بعد أن اشترى منزلا بواحة بوسعادة وسط أحد بساتينها، هروبا من الأضواء الكاشفة وطلبا للرّاحة والهدوء متى تسّنى له ذلك.
إن اختيار الشّيخ لمدينة بوسعادة ليس نتيجة ما قد يتوهم البعض إلحاح زوجته التّي تنحدر أصولها من هذه المدينة الثّرية فقط، وإنّما من أجل قضاء ما تبقى من عمره في هذه المدينة لما أسره فيها من جمال واحة بوسعادة الملهم للكتابة والملهب لوقود الإبداع، لاسيما ذلك الجزء المميز من الواحة الهادئ الذي يبعث على التأمل والسكينة ومسك القلم.
لقد كان يسحره منظر أسوار البساتين المرصوفة لبناتها بدقة متناهية، والتي تحمل معها عبق التّاريخ البوسعادي، أو ربما تعكس إحساسه بدنو أجله وعودة الإنسان وحنينه لأول حمأ مسنون من صلصال كالفخار خلق منه أبو البشرية جمعاء سيدنا آدم –عليه السلام – أو ربما قد تعكس صورة علاقة الفلاّح بأرضه القائمة على الوفاء والعطاء في وجدان شاعرنا المرهف الإحساس، فهو فلاّح من الطراز الأول فقد قال” كنت بمجرد ما أنزل من الطّائرة أتوجّه مباشرة إلى وادي سوف لسقي النّخيل” الشاهد من ذلك أن اختياره لواحة بوسعادة كان توقا للأرض وشوقا لعمتنا النّخلة، وما تحمله من دلالات دينية ونفسية واجتماعية وتاريخية كثيرة، قد لا يسمح المقام هنا للحديث عنها، كما كان يعجب ويطرب لنغمات خرير مياه سواقي البساتين المحاذية لجنبات بيته المتواضع، والذي اختاره أبو القاسم بعناية ودقة وبالغ اهتمام، طبقا لما كان يعرف عن الرجل من هذه السّمات، التي ربما استمدها من كثرة التّقصي والبحث والتمثل لشروط الروح العلمية التي كانت واضحة وجلية في جل كتاباته التاريخية.
هذا البيت الهادئ هدوء الرجل وسط بساتين واحة بوسعادة السّاحرة، كان أبو القاسم يؤثثه ليتّخذ من طابقه الأسفل فضاء للسكن والسكينة وعيشة راضية مرضية مع عائلته الكريمة، أما الطابق العلوي فقد اتّخذ من جناحه شرفة راح ينأى بها عن ضوضاء المدينة وصخب الحياة، باحثا عن الهدوء الموحي لقلمه كي يضيف إلى المعرفة معرفة جديدة، وإلى مباحث التّاريخ صفحة سديدة، وإلى الثّقافة قيمة مضافة وإلى الجزائر عربون محبّة ووفاء وأصالة.
إن هذا المنزل الأخير الذي نزله أبو القاسم سعد الله لم يشتريه ليجني منه مالا وفيرا بعد بيعه، وإنّما من أجل قطف وجني ثمار العلم في “جنان لبطم”، وهي المنطقة التي تسمّى بها هذه الرئة من بساتين واحة بوسعادة، إنّه الفضاء المفتوح الذي كان يحلم أبو القاسم سعد الله أن يقضي فيه زهرة خريف عمره، فلم يكن اختياره له عبثا أو انعزالا عن المجتمع والحياة بل كان يرى فيه بداية الحياة.
لقد غاب عن الديار بعد أن وقف فيها مليا وشامخا كما وقف أصحاب المعلقات، ليحييه بروحه الخالدة على صفحات التّاريخ المشرقة، مخاطبا الربع والطلل مثلما كان يفعل كبار الشّعراء العرب الجاهليين.
هذا المنزل الطلل بعد مغادرة صاحبه له كان يشّكل هاجسا عميقا في وجدان أبو القاسم سعد الله تعكسها قصدية الشعور وصدقية الحيرة والقلق من الحياة والموت، وعدم اليأس من إصلاح أحوال النّاس، ووجدانية العاطفة المشبوبة بحب الأهل والجيران والحنين إلى الديار، أوقد يكون اختياره لهذا المكان نابع عن صناعة الأمل وبعث لروح التفاؤل والعمل، وتصور لغد حالم وعالم أفضل، دعامته الصلبة جذور التّاريخ الممتدة كجذور النّخلة الضاربة في عمق التّاريخ والإنسان والباسقة بفروعها في كل سماء.
غاب عنّا فارس التّاريخ وترك لنا بقية الصفحات لنكمل مسيرة القرطاس والقلم كيف لا وهو القائل عن منزلة القلم والكتابة: «قلمي لا يهدأ له بال، ولا يستقر له بلبال… فالكتابة عندي هي دوائي وهي دائي، هي غذائي وهي هوائي، فإذا كتبتُ رضيتُ عن نفسي وإذا لم أكتب سخطتُ عنها ومرَّ اليوم كأنَّه سُرق من عمري«.
رحل رجل المنابر الصحفيّة وعميد المجلات الوطنيّة، ومهندس القضايا الثّقافيّة والنقاشات الجدليّة مخلفا إرثا تنوء به الأمّة والإنسانيّة.
ورغم ذلك كله فإنًه وإن غادر فحبًه والله باق كالدفء كالنًور كالدًر يستبطن الأعماق، ودام صوتكم ذكرى يا معشر العشًاق، وداعا يا شيخ المؤرخين إلى يوم التلاقي.