المكاتباتُ العلمية بين محمد بن عبد الرحمن الديسي، ومحمد عبد الحيّ الكتاني المغربي
بقلم: محمد بسكر-
حظيت الرسائل الأدبية باهتمام القدامى من العلماء باعتبارها من « الفنّ النّثري الذي اتّخذ من الرّسالة وسيلته في التعبير والتواصل»، وأُطلق عليه في التاريخ الأدبي مصطلح (أدب الرسائل)، ويتميز بأساليبه المختلفة من إيجاز في العبارة، واقتصاد في الألفاظ، والملاءمة بتنزيل الألفاظ والمعاني قدر الكاتب والمكتوب، وقد رتب الأستاذ أحمد الهاشمي في كتابه (جواهر الأدب) أدبَ الرسائل في فصول متنوعة، جمع فيها أجمل ما وقع عليه اختياره من عيون الأدب القديم، وقسمها إلى الرسائل الأهلية، الرسائل المتداولة، والرسائل العلمية.
لا تتجلي أهمية هذا النوع من المكاتبات الأدبية في مقدرة الأديب على التصويرِ ونقلِ أحاسيسه وأفكاره، وإنّما تكمن قيمتها في ثرائها بالمعلومات التاريخية التي تقدم لنا رؤية حقيقة للواقع الاجتماعي والأسري والثقافي، وهذا الجانب شغل اهتمام علماء التاريخ والاجتماع، فتراثنا العربي يختزن الكثير من الرسائل والمراسلات الأدبية التي تعتبر من الروافد الأساسية للتّأريخ.
ومن بين الرسائل -على قلّتها- تلك التي عثرنا عليها أثناء بحثنا في تراث منطقتنا بين الشيخين محمد بن عبد الرحمن الديسي الجزائري، ومحمّد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي، والتي تضع أمامنا تصورا واضحا للنشاط الأدبي والعلمي بالجزائر مطلع القرن العشرين
زيارة الشيخ عبد الحي الكتاني الأولى للجزائر
كانت زيارة الشيخ عبد الحي الكتاني الأولى للجزائر ما بين سنة 1920/1921، وخاصة المنطقة الغربية، حيث زار تلمسان ومعسكر ومستغانم وتيارت، وتحدث عن الزوايا والمشايخ والمؤلفات التي وقف عليها في رسالته (الرحلة التونسية) وفي كتابه فهرس الفهارس. اشتهر الكتاني برحلاته العلمية الكثيرة إلى بلدان المشرق والمغرب، وحسب شهادة خير الدّين الزركلي فقد عاد بأحمال من المخطوطات، وكان « جمّاعة للكتب، ذخرت خزانته بالنّفائس»( )، وجمع خلالها الكثير من الأسانيد العلمية في أنواع العلوم المختلفة وخاصة علم الحديث، فسنده في علم الحديث-( في الجزائر)- يتصل بعلماء زاوية شلاطة بطرق مختلفة، منها « طريق محمد السعيد الزواوي المتوفى (1830م) الذي يروى الكتاني عنه غالبا، بواسطة المكي بن عزوز ومحمّد بن عبد الرّحمن الدّيسي، عن محمّد بن بلقاسم الهاملي (شيخ زاوية الهامل)، وله سند في رسالة ابن أبي زيد القيرواني الفقهية، ذكره في فهرسته أجازه به عالياً المعمر عالم زاوية الديس ومدرسها السّيد دحمان بن السنوسي بن الفضيل الديسي.
إنّ مراسلات الدّيسي مع الكتاني سبقت لقاءهما بعدة سنوات، فقد استكتَبَهُ الكتاني طالبا منه الإجازة، فأجاز إجازة عامّة بمؤلفاته ومروياته، جاء في نصّها:« وقد التمس منّا مجدد رسوم العلوم الحديثة، ومحيّ دارس الآثار المصطفوية بالمغربين، بل حافظ الخافقين، الخافق نوره بالمشرقين، بلا مرية، ولا مَين، سيّدنا ومولانا محمّد عبد الحيّ بن عبد الكبير الإدريسي الكتّاني »( )، وهي نثرية على غير عادته في منح الإجازات العلمية، فمعظمها نظمية، كان ذلك بتاريخ 9 شوال 1328هـ/ الموافق لـ13 اكتوبر 1910م، تحدث عنها محمد العيد بن البشير في رسالته "التحفة السّنية" ، وقال « إلّا إجازة الشيخ الكتاني فإنّها نثر »( )، وكان الواسطة في النقل بينهما القاضي شعيب بن علي التلمساني، فقد وقفنا على بعض رسائل الديسي الموجهة للقاضي شعيب، منها رسالة بتاريخ (26 أوت 1911م) طلب منه عرض أسئلته وبعض آرائه في قضايا تخص العقيدة، انتقد فيها ما أورده الكتاني في احدى رسائله التي اطّلع عليها الديسي، ولم يذكر اسمها، إلّا أنّه مدحها بقوله: « رسالة تشهد لمؤلفها بالبراعة، وبأنّه من فحول علماء الحديث المبرّزين في فنونه، الغائصين على جواهر علومه »، وممّا اعترضه عليه قوله:« إنّ الشيخ أخبر عن نفسه بأنّه سلفي العقيدة» فمقصوده اعتقاد المحدثين، باعتبار أنّ هذا اللّفظ يطلق الآن على أتباع مذهب الحنابلة، حيث قال: « يعني أنّه على اعتقاد المحدّثين، على أنّ اعتقاد السّلف الآن إنّما يطلق على مذهب الحنابلة الحشوية المجسّمة المثبتين للجهة، وهؤلاء عند أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية مبتدعة ضلّال، مثل ابن تيمية، وناهيك ما قال فيه الأئمة، ومتبوعوه وأتباعه إلى الشوكاني وحسن صدّيق في معنى المتشابه ، والأمر الثّاني الذي استثقله الديسي في رسالته، كلام الكتاني عن تشريد أهل البيت ونقله للأثر القائل في حقّ بني أميّة: « إنّهم الشجرة الملعونة » بغير استثناء، مع أنّ فيهم عمر بن عبد العزيز، ومنهم ملوك وإن ظلموا فلهم آثار حسنة في الدّين، من حماية بيضة الإسلام، والقيام بالجهاد، وحراسة الثغور، وإعزاز الدّين، وتعظيم العلم والعلماء
اتقاد كتاب قاسم بن سعيد الشماخي
وكان الديسي ألف كتابا سماه "توهين القول المتين"، أرسل نسخة منه للكتاني، انتقد فيه قاسم بن سعيد الشماخي العامري، الذي رأى بأنّه تحامل فيه على أئمة المذاهب السنية الأربعة، وانتصر لمؤسس مذهب الإباضية (عبد الله بن أباض)، وقد كتب القاضي شعيب رسالة للديسي ( بتاريخ 28 أوت 1915م)، يخبره بأنّ الشيخ استلم الكتاب، وأثنى على مؤلّفه، ونقل له جواب الكتاني عن سؤال سابق بعثه الديسي حول سند حديث أزهر بن قيس الذي ساقه البغوي في معجم الصحابة، ومعنى قول الصحابي « إنّه كان يتعوذ في صلاته من فتنة المغرب »، فكان جواب الكتاني: « أنّ التنبيه على ما وقع في سياق هذا الحديث من الغلط للبغوي »، وأجاب عن معناه بقوله: « إنّي لم أر أحدا من الأئمة تكلّم على معناه مع طول التّتبع وكثرة المراجعة واستيعاب المظآن من كلّ كتاب حديثي موجود في خزانتنا على كثرة ما فيها من كتب الحديث، ولكنّا نتكلم عليه بحسب ما يعطيه النّظر والفكر وإطلاق المادة في أبحر كلامه العظيمة كما أجابه عن سؤال حول حديث « أجزت نفسي من خديجة سفرتين»، وإشكاله من جهة أنّ المعروف في سفراته لخديجة رضي الله عنها مرّة واحدة مع ميسرة قبل تزوجها
الرحل التونسية
ومن الكتب التي تحدث عنها الكتاني في الرحلة التونسية، "هدم المنار وكشف العوار"، وهو من أعمال الديسي النّقدية كسابقه، وضعه تعقيبا على كتاب (منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف) للشيخ عاشور الخنقي، وهو أديبٌ كبيرٌ، وصاحب موهبة في الشعر واللّغة، وكتابه المذكور الذي غالى فيه في مسألة الشرف، استهجنته الطبقة المثقفة، فمادته العلمية لم ترق إلى المستوى الذي أَمِله المؤلف، ومع كثرة مآخذ الكتاب وما انطوى عليه من انحراف بيّن، يعتبر عملا أدبيا راقيا، في سبكه وأسلوبه ولغته القوية، يقول الشّيخ المهدي البوعبدلي في تقييمه: (ولمّا ظهر كتاب " منار الإشراف" لم يؤثر في الأوساط العلمية التأثير المرجو منه، فالجزائريون يعرفون تمام المعرفة صاحب التأليف، ويعرفون طبعه القلق، وعصبية مزاجه، وتحامله على جلّ معاصريه، وأنّ هجوه لمعاصريه المحفوظ على ألسنة النّاس يملأ الدّواوين، وإن كانت هذه الأوصاف لا تمنع من الاعتراف بأنّه سجّل لنا في كتابه (منار الأشراف) صفحات من تاريخ بلادنا الثقافي، عرّفتنا بقيمة المؤلف الذي كان عالما أديبا ذلّل اللّغة العربية نظما ونثرا.
لم يطبع "هدم المنار" في حياة مؤلفه - مثل (منار الإشراف) الذي طبعته المطبعة الثعالبية سنة 1914م- غير أنّ نسخه الخطّية شاعت وانتشرت داخل القطر الجزائري، وأرسل الديسي نسخة منه للشيخ "عبد القادر السجلماسي" طالبا منه عرضها على علماء المغرب لإبداء رأيهم في محل النزاع، وناصره الشيخ عبد الحميد بن باديس كما ورد في رسالة الديسي التي بعثها إليه: « وقد بلغني نصرتك للنقد الذي ما قصدنا به إلّا نصيحة الشرفاء وعوام المسلمين الذين وصلهم كتاب عاشور.
اطلع الكتاني على النقد الذي أوقفه عليه القاضي شعيب وهو في بلدة تلمسان، كما أشار في رحلته ، وساق في رحلته التونسية بعض ما عابه الدّيسي على عاشور ، لكنه لم يبد رأيه لا في المنار ولا في هدمه، واكتفى بعرض بعض أغلاط عاشور، وختمها بالإشارة إلى أنّ "عاشور" أساء الأدب مع "الديسي" في الترجمة التي نشرها لنفسه آخر مؤلّفه المذكور، وعقب قائلا:« والله يسامح الجميع.
أخذه الإجازة مكاتبة من الديسي
زار الكتاني الجزائر بعد عشر سنوات من أخذه الإجازة مكاتبة من الديسي، وطاف بمعظم مدنها، ووفد على زاوية الهامل قادما من (الجزائر)، وكان مكوثه بالزاوية من 10 أوت إلى 19 من سنة 1921م، واجتمع أول مرة بالشيخ الديسي، فوجده طريح الفراش، قد أعياه داؤه، وحسب ما ورد في جريدة الإقدام: « بقي ذلك الاجتماع أياما لا تحسب من العمر » وأثناء هذه الزيارة التي دامت بضع أيام سمى الديسي الكتاني بـ(سيف السنة)، وقد فرح شيخ الزاوية بلقاسم القاسمي بهذا اللقب وأقام وليمة وتصدق بالعين( الذهب)، و استغلّ الدّيسي وجود الكتاني فتباحث معه في قضايا مختلفة، وخاصة في تراجم الرجال ومؤلفاتهم، فالكتاني ينقل في فهرسته حديثه معه على احدى مؤلفات الشيخ المناوي ( كنز الحقائق في حديث خير الخلائق)، وأشار أنه كان بيده نسخة بخط مشرقي قديم، وأنّ لبعض الشاميين عليه شرح في أسفار، وأنّ الشّيخ الديسي اطلعه على تعليقه على الكتاب، وعند حديثه عن ثبت الشيخ محمد المكي بن عزوز البرجي، وصفه بأنّه مسند إفريقية، وله اعتناء بالرواية وولع بشراء الفهارس، ونقل عن الديسي أنّه اشترى ثبت السّقاط، وهو نحو الكراسين بأربعين ريالا.
وقبل مفارقة الكتاني الزاوية، طلب من الديسي أن يجيز أولاده، وهم بفاس، فأجازهم إجازة نظمية ، وقد ذكر الكتاني في فهرس الفهارس من روى عنهم من الشيوخ مشرقا ومغربا، ورتبهم على حروف المعجم، وذكر منهم الديسي في حرف الميم.
لم يكتف الكتاني بلقائه مع شيوخ الزاوية وطلبتها، وإنّما عرج أيضا إلى مسقط رأس الديسي ( بلدة أولاد سيدي إبراهيم)، والتقى هناك بالشيخ دحمان بن الفضيل بن السنوسي، المدرس بزاوية الديس، وهو أحد شيوخ الديسي، والذي وصفه بالمعمر، وتحدث الكتاني عن هذه الزيارة التي دامت ثلاثة أيام، في رسالة بعثها إلى الحاج بلقاسم بن سيّدي دحمان بن الفضيل سنة (1958) وصف فيها جانبا من الحياة العلمية بها، ومجالس العلم التي حضرها في قصرها وزاويتها العتيقة، وعادة أهلها في استقبال طلبة العلم في بيوتهم، ومكتبات القرية المعروفة عندهم بـ ( الطّارمة )، والتي قال بأنّها كلمة فصيحة، وهي الحُبلى بالتآليف الرائقة لكلّ مُحصّل ،كما جال بين « الورّاقين الشبّان المولعين بنسخ الكتب الذين اختلفوا لهذا الشأن العظيم ، فنَفَعوا ونُفِعوا
الرحلة الفاسية
وكانت للشيخ أحمد بوداود (نجل الشيخ محمّد بن عبد الرحمن الديسي)، رحلة إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى، مجهولة الدّواعي، تحدث عنها في رسالة -لم يكملها- سماها ( الرحلة الفاسية)، ونرجّح أنّها السفرية التي صاحب فيها الشيخ مصطفى القاسمي والوفد المرافق له المكون من أدباء وفقهاء الزاوية، تلبية لدعوة الكتاني سنة 1948م، ومن المؤكد أنّه حدّثه عن اهتمامه بالمحافظة على تراث والده ورغبته في نشره وطبعه، وكان من نتائج اللقاء ما نقله عنه سماعا ، من أنّ الكتاب إذا كان بخط مؤلّفه، أو ولده فإنّه يعتبر من نفائس الآثار، نقل (أحمد بوداود) ذلك في الصفحة الأخيرة من نسخةٍ من مؤلفات والده، كَتبها لشيخ الزاوية السنوسية سنة 1959م، ومما جاء فيها: «..ولما كنت أخذته من والدنا الرّوحي الأستاذ المحدث الكبير بالدّيار المغربية، مولانا أبي الإرشاد الشّيخ سيّدي الحاج محمّد عبد الحيّ الكتاني، وهو أنّ التأليف إذا كان بخط مؤلفه أو ولده نصّ علماء الأدب أنّه يعتبر من نفائس الآثار التاريخية »، وممّا عثر عليه أثناء تنقيبه في خزانة الكتاني، المليئة بالكتب والمخطوطات النفيسة، نسخة خطية من مقامة والده الأدبية (بذل الكرامة لقراء المقامة)، في المفاخرة بين العلم والجهل، وفي آخرها جملة بخط الكتاني، أنقل ما كتبه (أحمد بوداود) كما وجدته تعميما للفائدة، فقال (رحمه الله): « من فوائد الرحلة الفاسية ما وجدته على أول شرح المناظرة بين العلم والجهل، بخطّ يد مولانا الأستاذ الشّيخ سيّدي محمّد عبد الحيّ الكتاني، مؤرّخًا به وفاة الوالد الأستاذ (رحمه الله)، قال الشيخ: أمتعنا الله به..آمين : مؤلف هذه المقامة وشارحها هو العلّامة المشارك الأديب الصوفي الحافظ النفّاع الضرير، أبو عبد الله محمد بن عبد الرّحمن الدّيسي أصلا، الهاملي البوسعادي إقامة ومدفنا، نسبة إلى زاوية الهامل من صحراء الجزائر بالمغرب الأوسط، لقيته بالزاوية المذكورة، وقرأت عليه هذه المقامة بلفظه، وناولني هذا الشرح العجيب اللّطيف وأجازنيه، وكلّ ما له من مروي ونظم ونثر، كما أجزت له شفاها، كما كان أجازني واستجازني قبل ذلك مكاتبة، وكانت وفاته رحمه الله بعد مفارقتي له بثمانية أيام في حجة عام 1339هـ(الموافق لسنة 1921م)، ودفن بضريح شيخه الأستاذ سيّدي محمّد بن أبي القاسم بزاوية الهامل، رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان نادرة من نوادر العصر، نفع الله به النّاس في القطر الجزائري، وترجمته مبسوطة في "تعريف الخلف"، وفي "الزهر الباسم"، وفي "رحلتنا التونسية "» كما عثر على ظهر نسخة من شرحه (النصح المبذول لقراءة سلم الأصول) في أصول الفقه، إملاء من والده وبخطّ المكي بن المختار القاسمي، مقيّد عليها إجازة والده لأولاد الكتاني بهذا الشرح، جاء فيها: « قد أجزتها لأولاد الشيخ عبد الحيّ الكتاني، فتح الله عليهم، وأبقى بركة العلم والإفادة فيهم، وفي أعقابهم، ما بقيت الأيام بجاه النّبي عليه الصّلاة والسّلام.