وطنية العلامة الإمام: عبد الحميد بن باديس
بقلم: محمد لعروسي حامدي-
احتضن ابن باديس وطنه الجزائر وعاش من أجله فكان ابن باديس وطنيا بامتياز ولكنّ حبّه للجزائر باعتبارها قطعة من الوطن الإسلامي الكبير، يرى نفسه أنّ واجبه الديني يفرض عليه أن تنصبّ جهوده حولها قبل غيرها باعتبارها مصدر وجوده وموطن نشأته ففيه تربّى وترعرع وعاش وتعلّم، وخير من يجسد وطنية ابن باديس هو مقال كتبه صدّره بسؤال هو:
س : لمن أعيش أنا؟
ج : أعيش للإسلام والجزائر
قد يقول قائل : إنّ هذا ضيق في النظر، وتعصّب للنّفس، وتصوّر في العمل، وتقصير في النّفع.
فليس الاسلام وحده ديناً للبشرية، ولا الجزائر وحدها وطن الإنسان ولأوطان الإنسانية كلّها حق على كل واحد من أبناء الإنسانية، ولكل دين من أديانها حقّه من الاحترام.
فأقول : نعم إنّ خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحديث عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها و نزعاتها، هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا و تربية من إلينا عليه، و لكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصّل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة، فوجب التفكير في الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة و إيصال هذا النفع.
ونحن لمّا نظرنا في الإسلام وجدناه الدين الذي يحترم الإنسانية في جميع أجناسها فيقول: [ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ](2) ويقرّر التّساوي و الأخوة بين جميع تلك الأجناس و يبين أنّهم كانوا أجناساً للتمييز لا للتفضيل وأنّ التفاضل بالأعمال الصالحة فقط فيقول: [ يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقَنْاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعوباً وقَبائلَ لِتعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقَاكُمْ ](3) ويدعو تلك الأجناس كلّها إلى التعاطف والتراحم بما يجمعها من وحدة الأصل و وشائج القرابة القريبة والبعيدة فيقول: [ يَا أيُّهَا النّاسُ اتقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً ونِساء وَاتقُوا الله الذِي تساءلون بِهِ وَ الأرْحَام ](4). ويقرّر التضامن الإنساني العام بأنّ الإحسان إلى واحد إحسان إلى الجميع، والإساءة إلى واحد إساءة إلى الجميع فيقول: [ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْر نَفْسِ أو فَساد في الأرضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمنْ أحْياهَا فَكأنَّمَا أحْيَا النّاسَ جَميعًا ](5). ويعترف بالأديان الأخرى ويحترمها ويسلّم أمر التصرف فيها لأهلها فيقول : [ لَكُمْ دِينكُمْ وَ لِي دِينِ ](6).
ويقرّر شرائع الأمم و يهون عليها شأن الاختلاف و يدعوها كلّها إلى التسابق في الخيرات فيقول:
[لكلّ جَعَلنَا مِنْكُم شَرْعةً وَ منْهاجاً وَ لْو شَاءَ اللّه لجَعَلكُمْ أمَّةً وَاحدةً وَلكنْ ليبلوَّكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فاستبقُوا الخَيْراتِ إلى الله مَرجعكُمْ فَينّبئكُمْ بِمَا كُنتم فِيهِ تَخْتلِفُونَ ](7)، ويأمر بالعدل العام مع العدو والصديق فيقول: [وَ لاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنآن قَوْم عَلَى ألاّ تَعْدلُوا](8)، ويحرّم الاعتداء تحريما عاما على البغيض والحبيب فيقول: [ وَ لاَ يَجْرُمَنّكُمْ شَنآن قَوم أنْ صدُّوكُمْ عَن المَسْجِد الحَرَام أنْ تَعْتَدوُا](9). ويأمر بالإحسان العام فيقول: [ إنَّ الله يأمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسَانِ ](10). و يأمر بحسن التخاطب العام فيقول: [ وَقُولُوا لِلنّاسِ حٌسْناً ](11).
فلمّا عرفنا هذا وأكثر من هذا في الإسلام – وهو الدين الذي فطرنا عليه الله بفضله – علّمنا أنّ دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلاّ به، وأنّ خدمتها لا تكون إلاّ على أصوله، وأنّ إيصال النّفع إليها لا يكون إلا من طريقه، فعاهدنا الله على أن نقف حياتنا على خدمته ونشر هدايته، وخدمة كل ما هو بسبيله ومن ناحيته. فإذا عشت له فإنّي أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها، في جميع أجناسها وأوطانها وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنّا لنكون هكذا إلاّ بالإسلام الذي ندين به ونعيش له ونعمل من أجله.
أمّا الجزائر: فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط فهذا – أيها الأخوان – معنى قولي: «إنّني أعيش للإسلام » كلّ مقوماتي الشخصية ممتدة منه مباشرة، فأرى من الواجب من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليّ تلك الروابط أن تكون خدماتي أوّل ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة. وكما الروابط لأجله – كجزء منه – فروضا خاصة، وأنا أشعر بأنّني كلّما أردت أن أعمل عملاً وجدتني في حاجة إليه: إلى ماله وإلى حاله وإلى آلامه، كذلك أجدني إذا عملت قد خدمت بعملي ناحية أو أكثر مما كنت في حاجة إليه. هكذا هذا الاتصال المباشر أجده بيني وبين وطني الخاص في كل حال وفي جميع الأعمال، وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لا بدّ أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.
نعم إنّ لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا هي دائما منّا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنّه لا بد أن نكون قد خدمناها، وأوصلنا إليها النفع والخير من طريق خدمتنا لوطننا.
وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ما هما والمغرب الأوسط إلاّ وطن واحد لغة و عقيدة وآداباً وأخلاقاً و تاريخا و مصلحة، ثمّ الوطن العربي و الإسلامي ثمّ وطن الإنسانية العام.
ولن نستطيع أن نؤدي خدمة لشيء من هذه كلّها إلا إذا خدمنا الجزائر.
وما مثلنا في وطننا الخاص – وكل ذي وطن خاص – إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كلّ واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية، و من ضيّع بيته فهو لما سواها أضيع.
وبقدر قيام كلّ واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، و بقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحط.
فنحن إذا كنّا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها، ولا للإضرار بسواها – معاذ الله - ولكن بنفعها ننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب.
هذا – أيها الإخوان – هو مرادي بقولي: « أنني أعيش للجزائر ».
ولآن – أيها الإخوان – وقد فهمتموني و عرفتم سموّ فكرة العيش للإسلام والجزائر فهل تعيشون مثلي للإسلام و الجزائر؟.
نعم.. نعم.. بصوت واحد
فلنقل كلّنا : ليَحْيَي الإسلام : لتحيا الجزائر.
ومن الجهود التي بذلها خدمة لوطنه الجزائر هو أنّ نهضته العلمية والإصلاحية سخرها من أجل الجزائر وخدمة لأبنائها، فرغم حياته القصيرة التي قضاها في هذه الحياة إلاّ أنّ الجهد الذي بذله يضاعف عمره وسنّه أضعافا كثيرة، ويمكن أن نعنصر جهود وخدمات ابن باديس الوطنية فيما يلي:
1-بعد عودته إلى الـجزائر، امتهن بادئ الأمر، من سنة 1913 إلى سنة 1925، التعليم والتنشيط الثقافي، قبل أن يكرس طاقته ويوجهها لإصلاح الـممارسات الدينية السائدة في البلاد. وخلافا للرأي الذي أشاع له مؤرخون وناشرون، فإن الـحركة الإصلاحية الدينية في الـجزائر لـم تولد من العدم على أيدي ابـن باديس ورفاقه، وكان هدف ابن باديس، العقل الـمدبر و القائد الـمنشط لهذه الكوكبة، الذي اجتـمعت فيه صفات النزاهة والأمانة الفكرية اللامتناهية و الذي هام حبّا بالـجزائر و لغتها و دينها، هو تطهير الإسلام في الـجزائر من كافة الـممارسات التي لا تتفق مع القرآن والسنة من حيث هما المصدران الوحيدان للعقيدة الإسلامية. هؤلاء الرجال الـمتفانون والـمتطوعون كانوا يرومون جميعهم، عن طريق التربية والكتاب و الصحافة، بعث سنة السلف الصالـح في عهود الإسلام الزاهـرة الأولى، مع تكييفها مع ما تقتضيه آفاق التفتـح على حداثة معتدلة. كان على الـمسلـمين، في نظرهم، أن يجعلوا السلف الصالـح مثلهم الأعلى فأطلقوا على أنفسهم، اسم السلفية، مثلـما كان الـحال في الشرق الأوسط. كما عرفوا باسم الإصلاحية.
2- كان ينظم، بـمقر رابطة الإغاثة الإسلامية بقسنطينة، وبـمساعدة تلامذته، دروسا مسائية للكبار، وكان برنامج الدراسة يتضمن تعليم اللغتين العربية والفرنسية.
وفي سنة 1918، أبان ابن باديس عن قدرته التنظيـمية الفائقة بإرسال الدفعة الأولى من الطلبة الـجزائريين إلى جامعة الزيتونة بتونس، وكان الـمأمول أن يصبحوا إطارات للتعليم الـحر، فاتـحين الـمجال لبعثات دراسية مبرمجة دوريا.
3- شجع ونظّم و أشرف على بروز العديد من الفرق الـموسيقية والـمسرحية والأندية الرياضية عبر التراب الوطني.
4 - كان من بين أوائل القادة الذين أدركوا مدى الـمساهمة التي يـمكن للـحركة الكشفية تقديـمها في تأطير الشباب و هيكلته ضمن منظمات جماهيرية.
5 - ومن جهة أخرى، ظهرت شيئا فشيئا إلى الوجود، بإيعاز منه وتـحت إشرافه، مراكز ثقافية كان أشهرها *نادي الترقي* بالـجزائر العاصمة الذي كان يشرف على إدارته الطيب العقبي، أحد رفاق الأستاذ الأوفياء.
4-وكان الهدف الأسمى لقائد الإصلاح الديني هو الـمحافظة على شخصية الـجزائر، موحدة ومتـجانسة وجزءا لا يتـجزأ، في كنف خصوصياتها العرقية، الدينية والثقافية.
إن انعدام الانتماء السياسي لابن باديس، الواضح والـجلي على الأقل في بدايات نشاطه، لـم يـمنعه من الاضطلاع بدور الصدارة في تنظيم ونشاط الـمؤتـمر الإسلامي الـجزائري الذي انعقد في يونيو 1936 بالـجزائر العاصمة وضمّ التيارات السياسية الرئيسية في البلاد، باستثناء دعاة الاستقلال، وطالب الـمؤتـمر بـمنح الـجنسية الفرنسية، مع الاحتفاظ بقانون الأحوال الشخصية، لنخبة من 20000 جزائري، أي لفئة اجتـماعية مكونة من الـحائزين على الشهادات ومن الـموظفين الـمتعلـمين الذين كان بإمكانهم، بالتالي، الـمشاركة في مختلف الانتخابات، مع الـمنتـخبين الأوروبيين أو الأقدام السوداء. ورغم اعتدال الـمطالب الهادفة إلى تـحسين الوضع الـمزري للشعب الـجزائري، فإنّ الـمعمرين والإدارة الاستعمارية قد أجهضوا، بكل ازدراء، هذا الـمشروع.
5- و يخطئ من يتصور أنّ نشاط الجمعية اقتصر على بعض الدروس الوعظية و تلقين بعض الأحكام الفقهية من أجل تفهيم العامة على ما أشكل عليها في أمورها التعبدية، و إحياء المناسبات الدينية، ومحاربة البدع المحدثة التي لصقت بالدين قصدا أو عن غير قصد، و الحق أنّ جمعية العلماء من خلال قانونها الأساسي الذي حدد أصول دعوتها اتّضح بما لا يدع مجالا للشك أنّ جمعية العلماء هي جمعية علمية دينية تهذيبية، فهي بالصفة الأولى تعلّم، و تدعو إلى العلم، وترغّب فيه، و تعمل على تمكينه في النفوس، بوسائل علنية واضحة لا تستتر.
فتأسيس *جمعية العلماء المسلمين* في تلكم الظروف التي مرّت بها الجزائر الذي عمل المستدمر الفرنسي جاهدا على تجهيل شعبها، وحرمانه من العلم الأصيل الذي يفهم رسالة دينه الحقّة، ويفهم واقعه الذي يعيش في أحضانه، ويتطلع إلى ما وصلت إليه الأمم المتطورة لمواكبة ومسايرة عجلة التطور، انجرّ عنه فراغ رهيب، وموت قبيح للعزيمة والإرادة فنام الشعب الجزائري في سبات عميق أسير الأمية و الجهل، فلا يعرف من دينه إلاّ الخرافة والجدل، والدروشة والخبل، ولا من وطنه إلاّ العيش مثل البهائم العور، ولا من حياته إلاّ النوم و الكسل، والارتطام في الأوحال والحفر، ولا من تاريخه إلاّ الأحاجي على الأشلاء و الصور.
ومن أجل هذه العوادي و الدواهي جاءت *جمعية العلماء المسلمين* إلى الوجود بقيادة ابن باديس يعاضده في أعبائها صديق دربه *البشير الإبراهيمي*هادية النفوس إلى صراط الله المستقيم، و غارسة في النفوس معانيه السامية و قيمه الحامية و مبادئه السمحة، و مواكبة في سيرها نجم الشمال في تحرير البلاد من المستعمر المحتل، و بناء دولة على أساس توجيها ت الإسلام ومبادئه السمحة ولذلك رفعت الجمعية شعارها الثلاثي المقدس * الجزائر وطننا و الإسلام ديننا و العربية لغتنا*.
وعلى هذا الثلاثي أنبنى عمل الجمعية و تحدّد نشاطها الذي تمحور في المحاور التالية:
- إرساء الأصالة العربية الإسلامية المستمدة من رسالة الإسلام و هدي القرآن.
- تخليص الشعب الجزائري من وصمة الدخيل المتمثلة في التجنيس و التمسيح و المسخ و الفسخ.
- بناء المدارس لنشر العلم الصحيح الديني و الوطني و العالمي في كامل ربوع الوطن.
إنّ هذا النشاط الذي أقدم عليه * ابن باديس* و رفاقه لهو أعظم الجهاد و أكبر الثورات لأنّ ثورة العلم أثرها في النفوس أقوى وأشدّ من ثورات السلاح ولذلك آثر ابن باديس ثورة العلم في النهضة و التغيير على ثورة السلاح التي كان يراها لاحقة و ليست سابقة.
ولقد ردّ ابن باديس على منتقديه في الاجتماع التاريخي الذي انعقد في الملعب البلدي بالجزائر العاصمة والذي حضره زعيم الأمة *مصالي الحاج* حيث فنّد وهمهم بأنّ الجمعية ترعى مطالب الإصلاحيين الذين يريدون الإبقاء على الجزائر فرنسية، فاعتبر ابن باديس أنّ استقلال الجزائر و حرية الجزائريين هي حلم الجمعية و غاية أعضائها ولكن السبيل إلى ذلك هو عمل دؤوب وجهاد متواصل قوامه غرس شجرة العلم في النفوس، إنّ الذي يروّع الظلمة و المستبدين و الغزاة والمستعمرين هو شيوع نور العلم، فهو يغشى الظلام و يكشف عن كمائن الغازين و أفخاخ الظالمين و يغرس في النفوس العزة و الكرامة، و يبين لها الحقوق و كيف تؤخذ و العهود و كيف تحفظ.
فثورة تقاد من الجهلة مجازفة تلقي بأصحابها في بحر متلاطم الأمواج يغوصون في أعماقه، و لا يقوون على الخلاص بأنفسهم من وهج أمواجه، ولذلك قال ابن باديس:" وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل أن يتركه بدون سقف، وما غايتنا إلاّ تحقيق الاستقلال "، وفي أوائل سنة 1940م قبل وفاته كان قد صرّح في اجتماع خاص مقسما فقال:
"و الله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنته. "
وحينما حمى وطيس الحرب العالمية الثانية اجتمع به جماعة من أنصاره طالبين منه إعلان راية الجهاد، فقال لهم:
"عاهدوني، فلمّا عاهدوه بالمصافحة، قال لهم: "إني سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب".
وروى تلميذ من تلاميذه، أنّه أي ابن باديس كان يريد الخروج على فرنسا إلى جبال الأوراس ليعلنها ثورة على فرنسا لو وجد رجالا يساعدونه، والأكثر من هذا كله أنّه أعلن رأيه في الاستقلال وتنبأ به في ردّه على أحد" الزعماء " الذين تنكّروا لوجود الأمة الجزائرية والوطن الجزائري وتاريخه، واختاروا لأنفسهم الوطنية الفرنسية واتّحدوا مع الوجود الفرنسي، ولم يتحرّج و لم يخش الحديث عن الاستقلال فقال:
" إنّ الاستقلال حق طبيعي لكلّ أمّة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة و العلم، والمنعة والحضارة، و لسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله، ويقولون أن حال الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد، فكلّما تقلبت الجزائر مع التاريخ فمن الممكن أنّها تزداد تقلبا مع التاريخ، و ليس من العسير بل إنّه من الممكن، أن يأتي يوم تبلغ فيه الجزائر درجة عالية من الرقي المادي و الأدبي، وتتغير فيه السياسة الاستعمارية عامة والفرنسية خاصة... وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة استقلالا واسعا، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحرّ على الحرّ" .
إنّ هذه المقولة بمثابة نبوة ألهمها الله في وليّ من أوليائه، تحققت علي يد جيل جديد، إنّه جيل نوفمبر الذي قاد راية الجهاد فتحقق له المراد، وتحرّرت البلاد والرقاب، و صارت البلاد بعد قهر وظلم دولة تعتمد عليها فرنسا و تتعاون معها تعاون الحرّ على الحرّ كما قال ابن باديس.
5- كان منهج ابن باديس جزائريّا في طريقة تدريسه و تلقينه للعلوم وفي دروسه الوعظية للكبار وفي منهج افتائه حتّى تفسيره للقرآن الكريم كان جزائريا حيث أسقطه على حال الجزائريين و واقعهم الذي عايشه وعايشوه، وكان ابن باديس جزائريا في شكله ومظهره وحتّى في هندامه وطريقة لباسه جزائريّا، وقد اعتمد على المرجعية الوطنية الدينية ووضع لبناتها وحافظ عليها وجدّد في إطارها ولم يعمل على تحطيمها.