المجاهد المثقف علي بدوحان
بقلم: أحمد حداد -
يقول المؤرخ الجزائري ” أبو القاسم سعد الله”:” نحن نصنع التاريخ ولكن لا نكتبه”، فالجزائري صانع التاريخ لا يكتب ولا يدون ما قام به، ويترتب عن ذلك فجوة، ستملى حتما بحقائق أو أباطيل، بحسن نية أو من دونها، وفي نفس السياق يضيف المؤرخ التونسي ” عبد الجليل التميمي ” بقوله من غير الممكن أن يكتب الفرنسي تاريخ بلاده من وثائق وأرشيف غيره “.
غير أننا في الجزائر لا نكتف فقط بالاعتماد على الأرشيف الخارجي بل نمجده وما دون سواه باطل وغير موضوعي وغير أكاديمي، ولو كان شخصا فاعلا في الحدث لم تسمح له الظروف بالتدوين فيروي شفويا. وقلة اهتمامنا بتدوين تراثنا والترجمة لعلمائنا ومجاهدينا وزهدنا في الكتابة يعود لجملة من الأسباب، يأتي على رأسها ما رسخه الاحتلال الفرنسي والمدرسة الغربية المعاصرة من صفات الاستعلاء وأن الغرب هو مركز المعرفة التاريخية (مبدأ التاريخ ومنتهاه)، وتبنينا – نحن – لمناهج مفروضة علينا بعد أن تحررت الأرض، حتى وصل الأمر بالفاعل في الحدث إلى أن لا يتكلم ولا يكتب، مما ترك فراغا ملأته المدرسة التاريخية الفرنسية التي أصبحت لدى البعض المصدر الوحيد للكتابة عن تاريخ الثورة التحريرية.
وهكذا لم نلتفت ونقدر ذواتنا، ولم نول عناية للذين يعيشون بين أظهرينا ، حتى طواهم النسيان غير أن مساعي المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر الذي يعمل تحت إشراف وزارة المجاهدين، ومساعي بعض الجمعيات وقلة من المجاهدين في كتابة مذكراتهم أو حضورهم ومشاركاتهم الإذاعية أو في الملتقيات، أعطت بصيص أمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مادة خبرية، تكون قاعدة أصيلة لأبحاث مختلفة عن الطرح الذي لا يعمل إلا بما سطره المنهج الغربي.
ومن هؤلاء المجاهدين الذي لا يزال يواصل نشاطه المجاهد علي بدوحان – أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية – مجاهد مخضرم مثقف، ثلاثي اللغة، كانت له بصمته في النضال من أجل طرد الاحتلال الفرنسي، وبصمته في بناء جزائر الاستقلال.
يعود أول لقاء لي به إلى سنة 2014 أثناء أشغال يومين دراسين حول أعلام منطقة جيجل، إذ رأيت جسد شيخ يحمل عقل الشباب والحيوية، يناقش ويثري المداخلات بمعلومات غزيرة، بلغة سليمة وبمنهج محكم. حينها قلت في نفسي: لماذا لا تمنح المنابر لأمثاله للكلام والتوجيه، ولماذا لم يفرض أقرانه أنفسهم ويكونوا منصات لتبليغ رسالتهم للأجيال، التبليغ الخالي من البروتوكولات، غير أن الجواب وجدته أثناء محاورتي لبعض المجاهدين المخلصين الذين قالوا : تربيتنا خلال الثورة كانت على فكرة أن المجاهد إذا طلب المسؤولية أو تكلم عن نفسه فهو خائن. ضف إلى ذلك وجدت الأغلبية من الصامتين فضلوا الانطواء خوفا من الوقوع في الرياء وما عملوه كان لله وحده ولا يزكون أنفسهم. وإن تكلموا فذلك نوع من الامتنان الذي يذهب الأعمال والحسنات. ووجهة نظري أن نقلهم لتجربتهم لا يتعارض أبدا مع تواضعهم وشهامتهم وعدم تزكية أنفسهم، وإذا كان الامتنان مكروها ومنهي عنه في أعمال الخير المألوفة، فالشهادة التاريخية واجب (ومن يكتم الشهادة فهو آثم قلبه) خاصة وأن تاريخنا يتعرض للمسخ والتشويه المنظم والشامل وعلى المدى الطويل.
المولد والنشأة :
ولد علي بدوحان في 08 ماي 1933 بوسط مدينة جيجل، أبوه أحمد بن صالح بن مبارك ( تاجر) وأمه بوشارف جازية. تتلمذ بالمدرسة الأهلية الفرنسية المسماة حاليا ابتدائية الشهيد “مقيدش” ، وبالموازاة كان يتعلم القرآن الكريم في الكتاتيب على يد الشيوخ الآتية أسماؤهم: الشيخ بوجنانة، الشيخ عبد الله بوالشعير، الشيخ أحمد بولمية. كما زاول تعليمه بالمدرسة الحرة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي مدرسة الحياة التي أدارها ودرس بها محمد الطاهر الساحلي، وكان “علي بدوحان” شاهدا سنة 1939 على وضع الشيخ بن باديس للحجر الأساس لتوسيع المدرسة إذ استقبله سكان جيجل بطلقات للبارود تعبيرا عن فرحتهم وبالأناشيد، ومما يتذكره مترجمنا أنشودة مطلعها: ” أهلا بكم ومرحبا يا سادة الكرام”.
واصل تعليمه بقسنطينة وبالجزائر العاصمة، تحصل خلالها على شهادات في التعليم كالباكالوريا الدورة الأولى والثانية، هذا خلال الاحتلال الفرنسي. وبعد الاستقلال اشتغل بالتعليم كأستاذ للغة العربية كما عمل مترجما في المناسبات الرسمية للدولة الجزائرية. عرضت عليه مناصب في الجيش الوطني الشعبي والسفارة الجزائرية بالخارج لكنه رفضها بلباقة، وآخر ما تقلده قبل تقاعده هو منصب مدير ثانوية.
المدرسة الأولى للتكوين والنضال:
الكشافة الإسلامية
نشأ علي بدوحان في كنف الكشافة الإسلامية الجزائرية ، إذ التحق بها قبل إكماله الست سنوات عن طريق أخيه “محمد” وتشبع بمبادئها، تعلم فيها الانضباط الذي يشبه مبادئ الجندية العسكرية، فقادة الحركة الوطنية استخدموا الكشافة، كقاعدة خلفية لتكوين جيش الثورة والدليل على ذلك أن أغلبية أعضاء لجنة 22 تكونوا ومروا عبر هذه الهيئة.
شارك الكشاف ” علي بدوحان” في مسيرة جيجل 8 ماي 1945، إذ على غرار باقي ولايات الوطن المحتل أين خرج الشعب الجزائري في مسيرات سلمية احتفالا بنهاية الحرب، ومذكرا الاحتلال بحقه في الحرية، تتقدمها فرق الكشافة الإسلامية، كانت جيجل من المدن التي شهدت مسيرة كبرى رفع فيها العلم الوطني، وكان علي بدوحان ضمن الكشافة الإسلامية بلباسها الرسمي تتقدم الجموع، وقد رفع العلم الوطني الكشاف حسين خلف الله ويروي علي بدوحان أنهم أنشدوا أناشيد وطنية وأن رفع العلم كان استفزازيا للشرطة الفرنسية التي تدخلت لتفريق المتظاهرين دون تسجيل ضحايا، لكن الانتقام سيكون في اليوم الموالي وستدفع الثمن العناصر الكشفية التي تحدت الاحتلال ومنهم علي بدوحان إلى جانب 10 تلميذ تم طردهم من المدرسة الأهلية الفرنسية إذ أخرجهم المعلم العنصري ” روك ” من القسم ورمى بمحافظهم في ساحة المدرسة قائلا لهم ” التحقوا بأمهاتكم وانشطوا معهن، فأنتم مطرودين لأنكم أردتم طرد فرنسا من الجزائر” وقام بضرب كل واحد منهم 40 ضربة بعصا صلبة على الأرجل المجردة من الأحذية.
أما أخوه محمد الذي يكبره فقد أعتقل إلى جانب العشرات وذلك بسبب حمله لقفة تحتوي على متفجرات من مخلفات الجيش الإنكليزي الذي نزل بجيجل أيام الحرب وقد حكمت عليه المحكمة بسنتين سجنا.
لم يخبر علي بوحان عائلته بطرده وهم على مقربة من امتحان الشهادة الابتدائية، إذ يتظاهر بالذهاب للتمدرس، لكنه كان يقضي اليوم على شاطئ البحر يصطاد السمك، حتى جاء اليوم الذي انكشف أمره بعد أن نسي السمك في المحفظة ففاحت رائحتها بالبيت، حينها اتصل والده بالنائب عن مدينة جيجل بمقاطعة قسنطينة “أحسن بن خلاف” الذي اتصل برئيس البلدية ووبخ مدير المدرسة آمرا أياه بإرجاع التلاميذ المطرودين وبالرغم من تفوقه إلا أن المدير أعاد له السنة.
الإنخراط في الثورة واستمرار النضال:
كانت بداية احتكاكه بالمجاهدين أثناء مزاولته لدراسته بالثانوية الفرنسية المسلمة franco musulmane بقسنطينة من خلال بعض زملائه من بينهم الشهيد بشير بورغود ومصطفى بونميرة اللذين كانا يتكفلان بإحضار المناشير المحرضة على الانضمام للثورة. شارك علي بدوحان في إضراب الطلبة في 19 ماي 1956 ومن أجل ذلك استدعته الشرطة الفرنسية بجيجل عن خلفية تلك المشاركة وهو المعروف بسيرته ونتائجه الدراسية الجيدة حسب ما أبلغت الشرطة والده. وأول اتصال رسمي له بالثورة كان في السنة نفسها من خلال مجاهد صديق لأبيه يسمى “ريشان” وهو صاحب معصرة زيتون في تاكسنة، ومجاهد آخر يدعى “نايتلو فرحات” المكلفان بجمع التموين للثورة، ولما أكتشف أمرهما ألقي عليه القبض هو الآخر، وتعرض للضرب والتعذيب في سجن مدينة جيجل قبل أن يطلق سراحه لثباته على إنكار صلته بالثورة ومن يمثلها. بعد حصوله على الإفراج المؤقت اتجه للعاصمة أين عمل في مخبر للأشغال العمومية قبل أن يتم طرده بسبب مشاركته في إضراب الثمانية أيام وعدم التحاقه بمنصب عمله.
وفي اعقاب ذلك انضم بدوحان إلى الحركة الثورية الجديدة المسماة مجموعة 81 وهي المجموعة التي أرادت إعادة هيكلة المنطقة المستقلة للجزائر العاصمة التي تم تفكيكها.انخرط في هذه المجموعة التي يشبه تنظيمها تنظيم المنظمة الخاصة إذ لم يتعرفوا على بعضهم إلا وهم يتقاسمون العذاب في سجون الاحتلال، من عناصرها شقيق ديدوش مراد محمد، الشيخ عبد اللطيف القنطري، محمد دبزي ( تبسة) الربيع بوشامة مدير مدرسة الثباث بالحراش التابعة لجمعية العلماء المسلمين، برادعي محمد، عبد الكريم العقون، محمد الطاهر فضلاء، كيسوري محمد السعيد، سعادنة عبد النور الذي استشهد فيما بعد رفقة 18 فردا من المجموعة. وكان بدوحان ينتمي لفرقة الشهيد سعادنة (طالب طب سنة الأولى والقادم من سطيف للدراسة في العاصمة)، وظيفة هذه المجموعة شراء الدواء وإرساله للمجاهدين، ألقي القبض على “بدوحان” أواخر سنة 1957 في ديار المحصول سجن في سجن الطاحونتين (سانث أوجين بولوغين حاليا ) ثم نقله أعوان السفاح “بيجار” إلى فيلا الزهور القريبة من شارع الشهداء حاليا، أين تعرض لمختلف أنواع التعذيب ( الكهرباء، الكي، أنبوب الماء، غرف باردة عدم النوم إذ كانوا يضعون 5 أفراد في زنزانة ضيقة بحيث ينام اثنان وتنتظر البقية دورها. بعد ثلاثة عشر شهرا من السجن أطلق سراحه، فانتقل إلى فرنسا أين واصل نضاله ضمن فيديرالية جبهة التحرير الوطني.
الخاتمة: كتب الباحث في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية ” عبد الوهاب المسيري” في كتابه “رحلتي الفكرية في البذور، الجذور والثمر :سيرة غير ذاتية غير موضوعية” قائلا: ” ولتكن هذه السيرة دعوة للمفكرين العرب أن يكتبوا سيرهم غير الذاتية غير الموضوعية التي تحتوي على تلخيص لأفكارهم وبذورها وكيفية تشكلها، ليضعوا خبرتهم تحت تصرف الأجيال الجديدة، ومما يجعل المسألة أكثر إلحاحا تعاظم الفجوة بين الأجيال، مما يؤدي إلى عدم توارث الحكمة والمعرفة، فأخشى ما أخشاه أن تبدأ الأجيال القادمة من نقطة الصفر”.
وبما أن الكثير من مجاهدينا لم تتح لهم الفرص للكتابة ( أو لم يستغلوا تلك الفرص )، فالمطلوب من أبنائهم وذويهم وضع أرشيف آبائهم وأجدادهم تحت التصرف ليكون مادة خبرية، لتأتي مهمة الباحث في المقارنة والتنقيح والتعليل حتى لا يحتل تاريخنا كما أحتلت أرضنا ذات يوم. وما قام به المجاهد علي بدوحان يندرج في هذا الإطار إحساسا منه بمواصلة نضاله حتى لا تضيع حلقات التاريخ الجزائري الناصع في خضم المستعجل والإنزال المستمر للمعلومات الصحيحة والخاطئة، الهدف منها إدخال الشك حتى نفقد الثقة في ذواتنا، تاريخنا تحت غطاء الموضوعية والبحث الأكاديمي.
أحمد حداد : قسم التاريخ، جامعة عبد الحميد مهري، قسنطينة2.