حقائق وأباطيل في ذكرى الأمير عبد القادر… البطل الجزائري والشخصية العالمية (1)
بقلم: عبد الحميد عبدوس -
في البداية استسمح روح شيخي الراحل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في استعارة عنوان كتابه المشهور: (حقائق وأباطيل) لاستعماله في جزء من عنوان هذا المقال عن شخصية جزائرية ملأت شهرتها الدنيا وذاعت مناقبها بين العرب والعجم في كل أرجاء العالم، ألا وهو البطل القائد الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري ،فقد مرت يوم الثلاثاء 26 ماي2020 الذكرى الـ 137 لوفاة مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الذي وافته المنية بدمشق في 26 مايو 1883 عن عمر ناهز 76 عاما، (ولد سنة 1807 في قرية القيطنة بولاية معسكر) ودفن بحي الصالحية بجوار قبر الشيخ محيي الدين بن عربي تنفيذا لوصيته، ثم أعيد دفن جثمانه بالجزائر في مقبرة الشهداء بالعليا في الذكرى الرابعة لاستقلال الجزائر في 5 جويليه 1966 بمراسيم رسمية بحضور الرئيس الراحل محمد بوخروبة ( هواري بومدين) عليهما رحمة الله.
وبمناسبة ذكرى وفاة الأمير الأمير عبد القادر عرضت القناة السادسة للتلفزيون الجزائري سهرة يوم الأربعاء 27 ماي2020 فيلما وثائقيا بعنوان «عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية» للمخرج سالم إبراهيمي وهو في نفس الوقت كاتب سيناريو الفيلم، بالاشتراك مع السيناريست الفرنسية أودري براسور.
الفيلم من إنتاج وكالة الإشعاع الثقافي التابعة لوزارة الثقافة في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية سنة 2011 في عهد خليدة تومي الموجودة حاليا بسجن الحراش منذ 4 نوفمبر 2019 بتهمة تبديد أموال عمومية خلال تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، والتي شغلت منصب وزيرة الثقافة في عهد عبد العزيز بوتفليقة، لمدة 12سنة كاملة من2002 إلى غاية 2014.
مزج الفيلم الطابع الوثائقي بالأسلوب الروائي وقدم الأمير عبد القادر للمشاهدين برؤية تتماهى مع النظرة الغربية للأمير حيث تطرق في 96 دقيقة إلى عدة محطات في حياة مؤسس الدولة الجزائرية كمرحة مقاومته للاستعمار الفرنسي، ومعالم تأسيسه الدولة الجزائرية الحديثة، ثم إلى وصوله إلى السجن في فرنسا بعد توقيع معاهدة الاستسلام، ثم خروجه من السجن ورحلته إلى تركيا ثم دمشق في سوريا.
وما يشد الانتباه في الفيلم هو تركيزه عند الحديث عن التجربة الصوفية في حياة الأمير عبد القادر على الكثير من الممارسات الطرقية المنحرفة التي كان الأمير ووالده الشيخ محيي الدين معارضين لها في حياتهما .وإذا كانت علاقة الأمير عبد القدر بالتصوف لا ينكرها أحد، فجده مصطفى هو من أسس الزاوية القادرية، نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، بعد أن زار مدينة بغداد عام 1791م. وأبوه الشيخ محي الدين هو شيخ الطريقة الشاذلية والمشرف على الزاوية التي تلقى فيها الأمير عبد القادر تعليمه الأولي، وكان الشيخ محيي الدين عالماً فقيهاً وحكيماً وشجاعًا، امتاز بالأخلاق الإسلامية، والصفات الحميدة، والنبل الكريم، وعلو منزلته العلمية، ولم تكن زاويته التي اشتهرت بالعلم، والورع، و الجهاد حضنا للدروشة والممارسات الشركية التي صورتها بعض لقطات الفيلم في محور الحديث عن تصوف الأمير عبد القادر، وحتى الأمير عبد القادر أثناء حكمه وفي عهد دولته حارب أصحاب الطرق المنحرفة، ووقف في وجه نشر دعوتهم.
وفي مقابل تركيز الفيلم على المشاهد الطرقية المنحرفة، تجاهل تماما الحقبة التي كان الأمير عبد القادر فيها عاكفا في دار الحديث المشرفية بدمشق على دراسة ومدارسة صحيح البخاري، وهو الذي اشترى دار الحديث من تاجر خمر إيطالي يدعى يانكو، وجعلها حانة للمسكرات، ثم تجرأ فصار يخزن دنان الخمر في مسجد المدرسة، وظل الحال على ذلك إلى أن سكن الأمير عبد القادر دمشق فاشترى دار الحديث من تاجر الخمور النصراني وأوقفها على دراسة الحديث وأمر بترميم المسجد والمدرسة على نفقته، وأعادها إلى دورها التاريخي الذي كان لها منذ أن افتتحها الملك الأشرف مظفر الدين ابن الملك العادل شقيق الملك صلاح الدين الأيوبي في شعبان سنة 630 هـ،/1233 م، وكان من أبرز الشيوخ المدرسين بها الحافظ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، والحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، وشيخ الإسلام أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني. وفي أول يوم من رجب سنة 1274 هـ/1858 افتتح الأمير عبد القادر الجزائري التدريس بدار الحديث بصحيح الإمام البخاري، وختمه آخر يوم من رمضان.
ويعتمد الكثير ممن يستعرضون خلال حديثهم عن الجانب الصوفي الممارسات الطقوسية المنحرفة المبنية على عقيدة «الحلول والاتحاد» على محتوى كتاب «المواقف» الذي ينسبونه زورا إلى الأمير عبد القادر، وهو الأمر الذي دفع الأميرة بديعة الحسني الجزائري، حفيدة الأمير عبد القادر إلى إصدار كتاب بعنوان «براءة الأمير عبد القادر من كتاب المواقف وكتاب ذكرى العاقل» وأكدت الأميرة بديعة بالوثائق والشواهد التاريخ بطلان تأليف كتاب «المواقف « من طرف الأمير عبد القادر. وقالت إنه «خلال عملية البحث، عثرت على نسخة مخطوطة من كتاب «المواقف» في قسم المخطوطات النادرة في مكتبة الأسد في دمشق، بخط فارسي يرجع تاريخ كتابتها إلى عام 1307 هجرية، أي بعد سبع سنوات من وفاة الأمير عبد القادر الذي كان خطه مغربياً. كما توجد نسخة أخرى كتبت بخط نسخي جميل، لكن تاريخ كتابتها وكاتبها مجهولان ولا يوجد ما يشير إلى أنها كتبت في دمشق، أي لا يوجد مخطوط بخط الأمير عبد القادر، ومع ذلك اعتبر كتاب المواقف في الجزائر إنتاجا فكريا للأمير عبد القادر، إذ قدّم إلى المكتبات هناك بشكل مخطوط على أنه بخط الأمير عبد القادر».
لقد كان الأمير عبد القادر هدفا للكثير من الأباطيل ولم يسلم هذا القائد، المجاهد، العالم، الشاعر حتى من تهم الخيانة والانتماء إلى الماسونية وهو ما سنتناوله بإذن الله تعالى في الحلقة المقبلة.