ابن باديس والجامع الأخضر

بقلم: د. محمد حاج عيسى-

إذا ذكر ابن باديس قرن باسمه "الجامع الأخضر" فهما شيئان متلازمان لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر، إذ هو المكان الذي علم فيه وأرشد منذ عام 1332هـ إلى أن وافته المنية سنة 1359هـ.

ولقد كان يمر بي هذا الاسم أثناء مطالعاتي عن ابن باديس وجهوده فأحسبه مسجدا ضخما مترامي الأطراف ضاربا في الشموخ والارتفاع لما اشتهر به من كثرة الطلاب الوافدين عليه من مختلف مدن البلاد، ولم يزل هذا الأمر مستقرا في نفسي, ماثلا في ذهني حتى وفق الله لزيارته، فلما رأيته وقفت منبهرا مشدوها لصغره وضيقه وقلة مرافقه, وكرت بي الأيام راجعة إلى الماضي:

أهذا المسجد الضيق هو الذي طار صيته في البلاد وملأ الدنيا شهرة، وتخرج منه ذاك الرعيل الصالح من الفضلاء الدعاة إلى الله تعالى أمثال مبارك الميلي والفضيل الورتلاني وأضرابهم؟

هذا المسجد على ضيقه قام بما عجزت عنه الجامعات، فقد كان منارة يهتدي بها الناس ويؤمها طلبة العلم من أرجاء البلاد، وكان قوتا للقلوب وغذاء للألباب يستفيد فيه العامة والطلبة دروس الوعظ والإرشاد كل ليلة.

ورأيت في هذا المسجد مقصورة ابن باديس التي وصفها محمد الحسن فضلاء بـ"منبع سرِّ النهضة الوطنية الكبرى" فتعجبت من صبر ابن باديس وشخصيته الفذة وجهاده العظيم، فإن رجلا صبر على العيش في مثل هذه الحجرة الضيقة وبذل أوقاته في الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد متحملا ويلات الاستعمار ومخلفات الجهل والأمية، وقضى حياته بعيدا عن ألوان الرفاهية وصنوف النعيم وقد كانت منه على طرف الثمام =لرجل نفيس ضحى من أجل دينه وأهل بلده تضحيةً أيّ تضحية.

لقد صدق فعله قوله حين قال: "إنني لست لنفسي وإنما أنا للأمة أعلِّم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها" اهـ

وقال: "إنني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما....وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن هذا عهدي لكم، وأطلب منكم شيئا واحدا وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن" اهـ

إن الإمام ابن باديس قد أدى ما عليه وقضى ليله ونهاره في نشر العلم والفضيلة، ومحاربة الكفر والبدعة والرذيلة، في وقت قلَّ فيه المعين وعزَّ فيه النصير:

إن الزعامة والطريقُ مخوفة     *    غير الزعامة والطريق أمان

وقد شهد له أهل الفضل والإنصاف بأنه كان قلب الأمة النابض ولسانها اللافظ، ولكن الغريب الذي لا يكاد ينقضي منه العجب أن يظهر من بني الجلدة من يقلب له ظهر المِجَنِّ ويسعى لتصيد أخطائه، ويقابل وفاءه وجهوده بالتنكر وكفران الجميل، وهذا منتهى اللؤم وغاية الغدر, ومن سلك هذا السبيل فقد تجشم ورطة صعبة ونادى على نفسه بقلة الإنصاف،  وإذا صار فقعة القاع يطعن في الرجل الصريح فعلى الدنيا السلام.

إن الداء الذي سرى في الأوصال والعلة التي فتكت بكثير من الغافلين هي كما يقول الأديب محمود شاكر رحمه الله: "علة العصر الذي صار أبناؤه يتلمسون المعابة لأسلافهم وآبائهم في خبر مطروح أو كلمة شاردة أو ظاهرة محدودة، فيبنون عليها تعميما في الحكم يتيح لأحدهم أن يشفي ما في النفس من حب القدح، والتردي في طلب المَذمَّة، أو أن يتقلد شعار التجديد أو الإغراب طلبا للذكر وحبا للصيت" اهـ

إن"الجامع الأخضر" الذي كان مشعل هداية وقبسا مضيئا مع ضيقه وقلة مرافقه يفيدك –يا طالب الحق- فائدة عملية أودِعْها قلبك وأسْكِنها أعماقك وهي أن العبرة ليست بتزيين الجدران وزخرفة البنيان فإنها نقوش تبهج الأبصار ولكنها لا تحمي الذِّمار ولا تحفظ الديار، وإنما العبرة بالإخلاص والعلم النافع والعمل الصالح المتواصل فهو الذي يبني الرجال ويربي الأجيال.

وقد أدرك الإمام ابن باديس هذا الأمر إدراكا تاما فقال مبينا رسالة المسجد: "إذا خلت المساجد من الدروس كما هو حالنا اليوم في الغالب، فإن العامة تعمى عن العلم والدين وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه فتخسر نفسها وأبناءها، وتمسي والدين فيها غريب" اهـ

وقال أيضا: "المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه وسلم يوم استقر في دار السلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه ويجلس لتعليم أصحابه، فارتباط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة" اهـ

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.