ابن سبعين نَزيلُ بجاية… فكره وفلسفته
بقلم: محمد بسكر-
إذا تحدثنا عن بجاية ( الناصرية) فترة القرن السابع الهجري، فإنّه ينطبع في أذهاننا الوصف الذي أطلقه المؤرّخون عليها عندما سمّوها “مكة الصغرى”، لكثرة ما طوته تربتها من أولياء وعلماء، حيث أقام بها تسع وتسعون وليًا صالحًا، ويقال: إنّه لو زاد ولي آخر لأصبحت أرضا مقدسة، وخلال هذا القرن الذي خصّه أحمد بن أحمد الغبريني (ت714ه/1314م)، بتأليفه “عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية” وفدت إليها جموع العلماء والأدباء الذين اختاروها محلّ إقامة لأسباب مختلفة، وأكثرهم عاصر العهدين الموحدي والحفصي، وكان من بينهم محمد بن إبراهيم بن عبد الحق بن سبعين (ت669هـ/1270م)، أكثرهم شهرة بسبب الجدل الذي تركه أينما حلّ، وأكثر من حامت حول أفكاره وفلسفته الشكوك، وطالته انتقادات المحدّثين والفقهاء.
ولد ابن سبعين ببرقوطة من أعمال مرسية سنة 613هـ /1216م، وأخذ تعليمه في مختلف العلوم بإشبيلية، وتعمّق في دراسة الفلسفة واهتم بمؤلفات علماء الكلام والتصوف، وخاصّة كتب إبراهيم بن يوسف بن دهاق، المعروف بابن المرأة (ت611هـ /1214م).
فلسفة ابن سبعين:
تأثر ابن سبعين في بداية مشواره بفلسفة مدرسة (ابن مسرة محمد بن عبد الله)، التي أخذت من الاعتزال والحكمة الشرقية والأفلاطونية المحدثة القائلة (بوحدة الوجود)، وهذه الفلسفة ظهرت في صيغتها الجديدة في الطّريقة الشوذية، نسبة إلى أبي عبد الله الشوذي الحلوي دفين تلمسان، ونشرها “ابن دهاق” في الأندلس، والذي لم تصلنا مؤلفاته غير أنّ أفكاره وآراءه متناثرة في كتب القوم، ومذهبه في التصوف هاجمه ابن خلدون ووصفه بأنّه غاية في السقوط، كما أنّ الرّدود التي وضعت حول الطريقة الشوذية تبين حجم المعارضة التي قوبلت بها في الأندلس والمغرب، فمن مؤلّفات النّقد الفلسفي والصوفي التي كتبت في نقضها، نذكر منها كتاب “ردع الجاهل عن اعتساف المجاهل في الرد على الشوذية وإبداء غوائلها الخفية” لأبي جعفر أحمد بن الزبير الغرناطي، ورسالة “إماطة الأذية النّاشئة من سباطة الشوذية” لابن رشيد السبتي.
الذين ترجموا لابن سبعين ذكروا أنّه من أقطاب التصوف، وأنّ طريقته فيه مبنية على قواعد الفلاسفة، وعدّه ابن خلدون«من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحسّ، المتوغلين في ذلك، القائلين بالحلول والوحدة، مثل الهروي وابن عربي وابن عفيف التلمساني». لم يكتف ابن سبعين بتبني فكر من سبقه من أعيان التصوف القائلين بوحدة الوجود، وإنّما طوره إلى القول بـ”الوحدة المطلقة”، وانتقد مناهج الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة، واعتبر فكرهم قاصرا عن الوصول إلى معرفة حقيقة الوجود، واقترح عوض عنها ما سمّاه بـ”علم التحقيق”. استطاع أن يستميل العامّة في الأندلس، غير أنّه تعرض لحملة واسعة من الفقهاء والمحدّثين دفعته للهجرة هو وجمعٌ من أتباعه إلى سبتة المغربية وعمره لا يزيد عن العشرين، فشاع أمره فيها وخاصّة عند وضعه لرسالته المسماة بـ “المسائل الصقلية” التي نشرها “شرف الدّين يلتقايا” في بيروت سنة 1941م، وهي مسائل فلسفية وجهها ملك صقلية “فردريك الثاني” إلى المسلمين تبكيتًا لهم، فرجعت إليه أجوبة مختلفة لم ترضه، وعندما وُجهت إلى ابن سبعين ضحك منها وجاوبه بما أرضاه، والأسئلة متعلقة بماهية العالم، قديم أو محدث؟ وما المقصود من العلم الإلهي؟ وماهية المقولات؟ وطبيعة النفس ونقاؤها؟ وسؤال حول أين خالف الإسكندر الأفروديسي أرسطو طاليس؟. وقد نال حظوة عند ابن خلاص حاكم سبتة بسبب قوة رده، وكثر أتباعه على مذهبه، وجلّهم من الفقراء، وأصبحت له طريقته الخاصة به تُعرف بالسبعينية، إلّا أن نشاطه أوغر صدور حسّاده من الفقهاء فألّبوا عليه الحاكم، فخرج من سبتة واستقرّ ببجاية مدة قبل أن ينتقل إلى المشرق.
موقف العلماء منه:
قوبل الفكر الصوفي الموغل في الفلسفة برفض من الفقهاء والمحدّثين، وضيّق على دعاته ومعتقديه، وطالتهم المطاردة، فهذا ابن مسرة محمد بن عبد الله متفلسفٌ أندلسي، قال الحميدي عنه:« له طريقة في البلاغة وتدقيق في غوامض إشارات الصوفية»، اتّهم بالزّندقة فخرج من بلدته فارًا، وفي تاريخ “قضاة الأندلس” أنّ القاضي ابن زرب وضع كتابا في الرّد على أفكاره، واستتاب بعض أتباعه، وأحرق ما وجد عندهم من كتبه وأوضاعه. وابن سبعين المتأثر بفلسفة “ابن مسرة” وبالطريقة الشوذية، عدّه ابن خلدون من المتصوفة الغلاة، ومن بين مَن طالهم النّقدُ والنّكيرُ في إشبيلية وتونس، « وتنمَّر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنّة، وسخطوا حالته».
إنّ فكر ابن سبعين ومذهبه المركب من عناصر متعددة، وغلبة الطّابع الفلسفي على منهجه، وطريقته في الكتابة الغريبة، وكلامه المفكك، حتى أنّ القاضي تقي الدّين بن دقيق قال:« جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب من الظهر وهو يسرد كلاما، تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته»، إضافة إلى المصطلحات والرّموز الغريبة التي ضمّتها مصنفاته، جعلت أحكام النّاس فيه متباينة وبعيدة عن الاعتدال- كما قال ابن الخطيب في الإحاطة – فمنهم من كفّره، ومنهم من بالغ في التعظيم والتّقليد، وأنّ طريقته في التصوف شابتها البدع، فهي «إلى وساوس المخبولين وهذيان الممروضين أقرب منها إلى منازع أهل العلم»، أمّا معرفته بعلم الكلام والفلسفة فهي بخلاف ذلك، ويذكر ابن الخطيب أنّ من يقف على كتبه وخاصّة كتابه “بدّ العارف” فسيرى سعة ذرعه وانفساح مدى نظره، لما اضطلع به من الآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمّق في الفلسفة والقيام على مذهب التكلمين.
أفضل طلبته:
لمّا انتقل ابن سبعين إلى المشرق خلفه ببجاية تلميذه علي بن عبد الله النميري الششتري (ت668ه/1269م)، نسبة إلى ششتر، وهي قرية بوادي آش الأندلسية، قال الغبريني:« له معرفة بالحكمة ومعرفة بطريق الصالحين الصوفية وبعض الطلبة يرجحونه على محمد بن سبعين»، ووصفه في الإحاطة بعروس الفقراء وأمير المتجردين. تدرج الششتري في الرّتب الصوفية حتى صار من أقطابها، وجال في المغرب والمشرق وكثر أتباعه إلى ما يزيد عن أربعمائة مريد، وتأثر أثناء إقامته ببجاية بأفكار شيخه ابن سبعين وعمل على نشر مذهبه، وقد انتقده ابن تيمية باعتباره من كبار صوفية وحدة الوجود، ويقرر ابن عجيبة في مقدمة شرحه لنونية الششتري أنّه تبرأ من مذهب الحلول والاتحاد في أواخر حياته، إذ التقى بأقطاب الطريقة الشاذلية في مصر فتأثر بها واحتل مكانا في سندها « وباعتناقه مبادئها تخلى عن قناعاته الصوفية الفلسفية، وأفكاره المبنية على القول بالوحدة الوجودية».
ترك الششتري عدة رسائل في التصوف، منها رسالة “العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم”، ورسالة “المقاليد الموجودية في أسرار إشارات الصوفية”، والرسالة “العلمية” أو الرسالة الششترية التي لخصها أبو عثمان بن ليون التجيني (ت750هـ/1349م) في كتاب بعنوان ( الإنالة العلميّة في الرسالة العلمية في طريق المتجردين من الصوفية). وله شعر صوفي « انطوى على نزعة أفلاطونية، استخدم فيه مصطلحات أفلاطون من (المثل) و( الصور )» ، وهو أوّل من استعمل الزجل في التصوف، وشعره ينشده الصوفية في تونس ومصر وخاصّة أتباع الطّريقة الشاذلية، منه قصيدته النونية التي شرحها الشيخ أحمد زروق، وشرحها أيضا ابن عجيبة الحسني، ذكر فيها مراتب الأعلام من أهل الطريقة، كالشوذي، والسهروردي، والشبلي، وابن الفارض، والحلاج، وشعيب، وابن طفيل، والطائي، وابن عربي وغيرهم. نقل ابن الخطيب نص القصيدة في كتابه ” الإحاطة” وحكم عليه بغرابة المنزع والشذوذ من جهة اللّسان وضعف الصناعة.
للموضوع مراجعه