أبو مدين شعيب
بقلم: محمد صلاح الدين المستاوي-
أبو مدين شعيب أحد كبار أعلام التصوف الإسلامي في الجناح الغربي للعالم الإسلامي، كانت وفاته عام أربعة وتسعين وخمسمائة للهجرة وكان ذلك في مدينة تلمسان بالغرب الجزائري وفيها ينتصب مقامه في سفح ذلك الجبل المطلّ على المدينة وضواحيها وحقولها الممتدة المكسوة أشجارا...
منظر خلاب جميل ونسيم عليل وعيون جارية، يحسّ من يصل إلى مقام أبي مدين شعيب براحة نفسية وسكينة وطمأنينة قلبية فينطلق في تأملات هي بحق إشراقات يشعر فيها الزائر بالتجلي الرباني وكيف لا وهو بجوار علم من كبار أعلام التصوف الإسلامي وعارف كبير من العارفين بالله الذين امتد عبر الزمان ذكره ولا يزال ما تركه من بعده من آثار خالدة يمتد تأثيرها إلى الخاصة والعامة، فحضور أمثال هذا الربانيّ لا ينقطع وهو حضور ايجابي فاعل لا يشدّ إليه أتباع دين بعينه بل يعمّ كل الباحثين عن الحقيقة الفارين من صخب الحياة وإجحاف المادية، لذلك فإن الزائر لمقام أبي مدين شعيب، لا يستغرب ولا يعجب إن هو صادف من بين الزوار أما مسلمين من أقصى الشرق والغرب أو رحالة باحثين عبر الأمصار من مختلف الأجناس والأديان عن مواضع الجذب الروحي والتي منها مقام أبي مدين شعيب في تلمسان وجبل العلم في الشمال المغربي حيث يرقد الشيخ عبد السلام بن مشيش والمقام والمغارة الشاذلية بتونس وغيرها وغيرها مما اصطلح على تسميته بالجغرافية الروحية.
كان يوم وفاة أبي مدين شعيب يوما مشهودا، يقول الشيخ الصالح أبو علي عمر الحبّاك التلمساني: حضرت جنازة الشيخ أبي مدين رضي الله عنه بالعُبّاد خارج تلمسان فما رأيت أعزّ من الفقراء في ذلك اليوم ولا أذل من الأغنياء في ذلك اليوم، قال: قلت في نفسي إذا كانت هذه حالتهم في الدنيا فما ظنك بها في الآخرة؟ نعم إن أبا مدين شعيب وأمثاله من أهل الصلاح والفلاح وأهل المعرفة، هم ممن أحبوا الله وأحبهم الله ومن كانت هذه حالهم فهم في أعلى عليين، فعزّهم بالله، وتوقهم وشوقهم إليه، إنهم اتخذوا لهم غاية ومرادا اختزله من تذوق حلاوة مشربهم واتخذه عنوانا لكتاب استعرض فيه أحوالهم مع ربهم، هذا المراد وتلك الغاية هي “والموعد الله”.
لأممّن أشار على من حوله من المريدين أن موعد الرحيل عن دار الفناء إلى دار البقاء قد قرب أوانه تماما مثلما كان الأمر بالنسبة لأبي الحسن الشاذلي الذي كان يداوم على الحج إلى بيت الله الحرام وفي السنة التي توفي فيها وعند خروجه من الإسكندرية قال لأحد تلاميذه ومريديه (خذ معك قفّة وفأسا وحنوطا) فسأل التلميذ شيخه أبا الحسن عن الغاية والمراد فأجابه: عندما نصل (حميثرا) سوف ترى. وفي حميثرا وهي في صحراء عيذاب من البلاد المصرية أدركت المنية أبا الحسن الشاذلي وأفضت روحه إلى بارئها راضية مرضية في ارض لم يعص فيها الله كما دعا بذلك أبو الحسن ربه فاستجاب له.
كانت حياة أبي مدين شعيب مليئة بالعطاء العلمي والروحي في مدينة (بجاية) وهي حاضرة تعج بالعلماء والأدباء والشعراء والصلحاء وكان أبو مدين فيها النجم، إلى مجلسه تشدّ الرحال من كل مكان، ومن معينه العذب النقي العميق الأغوار ينهل الوراد القادمون من مختلف الأمصار، وهذا الإقبال والقبول الحسن يحرك الحسّاد، ولكن ماذا عساهم أن يغيروا من قضاء الله وقدره وإرادته سبحانه وتعالى وهي النافذة لا محالة، وقد يظن هؤلاء أنهم برحيل من استهدفوه بعدوانهم قد بلغوا غاياتهم الخسيسة وما درى هؤلاء أن أهل الله لا يعبؤون بمكرهم فهم في كنف الله، وهل يضام أو يأسى على شيء من كان في كنف الله؟ إن لسان هؤلاء الربانيين يقول (وعجلت إليك ربي لترضى) (وما عند الله خير وأبقى). خرج أبو مدين شعيب من (بجاية) وكان من حوله من المحبين يشفقون عليه أن يناله مكروه فقال لهم أبو مدين (شعيب شيخ كبير ضعيف لا قوّة له للمشي ومنيّته قدّرت بغير هذا المكان ولابدّ من الوصول إلى موضع المنيّة فقيّض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفق ويسوقني إلى مرام المقابر أحسن سوق، والقوم لا أراهم ولا يروني فطابت نفوسهم وذهب عنهم بأسهم وارتحل به إلى أن وصل إلى (تلمسان) فلما رأى “العباد” قال لرفقائه : ما يقال لهذا المكان؟ فقيل له : العباد. فقال مليح للرقاد). هناك في (العباد) بتلمسان يرقد أبو مدين شعيب وقد كان يراد الوصول به إلى مراكش، إلى السلطان الذي بلغته عنه وشاية “فسبحان الله مقدّر الأمور فله الأمر من قبل ومن بعد”. إن الذي يبقى وهو كثير وعظيم وذو أثر كبير من أبي مدين وأمثاله من أهل الله العارفين فضلا عن تلك الروحانية (قل الروح من أمر ربي) وهي دائمة حية لا تموت وإنما تعود إلى ربها راضية مرضية ويظل لها حضورها الفاعل في عالم الأرواح، والإقناع بهذا سبيله الوحيد هو الحال والذوق والشهود.
ويبقى كذلك من هؤلاء الربانيين من بعدهم تلك الكلمات المشرقات القريبات العهد من الله والتي تهزّ الأعماق هزّا وتنفذ إلى سويداء القلوب وتتمكن منها فتغمرها سعادة ونورانية وتقربها من ربها قربا ليس دونه قرب، إنها كلمات مبصرات ملهمات من لدن الله لا تنمق ولا تختار وإنما يجريها الله على ألسنة العارفين بالله الموصولين به وهؤلاء إذا دعوا الناس إلى الصلاح والفلاح والى ما يحييهم الحياة السعيدة التي يرضى بها ربهم عليهم فإن دعوتهم تكون على بصيرة وشتان بين الدعوة على بصيرة وهدى، والدعوة على غير بصيرة والتي هي كحاطب بليل.
كلمات أبي مدين حكم أوتيها كما أوتيها من جاؤوا قبله وبعده من أصحاب هذا المشرب. كلمات أبي مدين : نثرا وشعرا كلها نورانية وإشراق كلها سمو وتوق إلى الملأ الأعلى، كلمات كلها إخلاص. يقول أبو مدين: الإخلاص ما خفي على الناس درايته وعلى الملك كتابته وعلى الشيطان غوايته وعلى الهوى إمالته. علامة الإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق. الفقر إلى الله وهو حال المتصوفة ويطلقون على أنفسهم الفقراء إشارة إلى قوله تعالى (أنتم الفقراء إلى الله). الفقر أمارة على التوحيد ودلالة على التفريد. من عرف نفسه لم يغترّ بثناء الناس عليه. الزهد عافية بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة من خرج إلى الخلق قبل وجود حقيقة دعته لذلك فهو مفتون وكل من ادعى مع الله حالة ليس على ظاهره منها شاهد فاحذروه.
من تعلق بدعوى الأماني لا يفارق التواني الدعوى رعونة ما عرف الحق من لم يؤثره إياك أن تميل لغير الله فيسلبك لذة مناجاته الحضور مع الحق جنّة، والغيبة حرام والقرب منه لذة والبعد عنه حسرة والأنس به حياة والاستيحاش منه موت ما وصل إلى صريح الحرية من بقي عليه من نفسه بقية التحرر من النفس والبقاء مع الحقائق كل حقيقة لا تمحو أثر العبد ورسمه فليست حقيقة أسس هذا الشأن الزهد والاجتهاد من لم يصلح لخدمته شغله بالدنيا ومن يصلح لمعرفته شغله بالآخرة نسيان العبد للحق تعالى طرفة عين خيانة الغيبة عن الحق خيبة التعظيم امتلاء القلب بجلال الربّ ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجّه إليها حجب عن غيرها اجعل الحق مقصدك ووجهتك الخالي من الأنس والشوق فاقد المحبّة الفقر أمارة على التوحيد دلالة على التفريد وحقيقة الفقر ألا تشاهد سواه للفقر نور مادمت تستره فإذا أظهرته ذهب نوره وعن الشيخ يقول أبو مدين: الشيخ من هذّبك بأخلاقه وأدبك بأطرافه وأنار باطنك بإشراقه لا تقنط الناس وذكرهم بأنعم الله من خدم الصالحين ارتفع بخدمته أبناء الدنيا يخدمهم العبيد والإماء وأبناء الآخرة يخدمهم الأمناء والكرماء شاهد مشاهدته لك ولا تشاهد مشاهدتك له القريب مسرور بقربه والمحب معذّب بحبه من حرم احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت من خلقه من قطع موصولا بحضرة ربه قطع به ومن شغل مشغولا بربه أدركه المقت في الوقت لا يصلح سماع هذا العلم إلا لمن حصلت له أربعة: الزهد والعلم والتوكل واليقين.
ونختم هذه المأثورات بأبيات لأبي مدين شعيب نالت قبولا لدى الخاصة والعامة لطالما تغنى بها المنشدون وتعالت بها أصواتهم في مجالس الذكر والترقي الروحي وهي خير ما يتمثل به المسلم ويستعين به على مغالبة هواه ونفسه الأمارة. يقول أبو مدين:
مـا لـذة الـعيش إلا صحبة الفقرا ** ** هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهموا وتأدب في مجالسهم ** ** وخــل حـظـك مـهما قـدموك ورا
واستغنم الوقت واحضر دائما معهم ** ** واعلم بأن الرضا يختص من حضرا
ولازم الـصـمت إلا إن سـئلت فـقل ** ** لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
ولا تَرَ العيب إلا فيك معتقداً ** ** عـيباً بـدا بـيِّناً لـكنه استترا
وحـط رأسك واستغفر بلا سبب ** ** وقف على قدم الإنصاف معتذرا
إن بــدا مـنك عـيب فـاعتذر وأقـم ** ** وجه اعتذارك عما فيك منك جرى
وقـل عـبيدكموا أولى بصفحكموا ** ** فـسامحوا وخـذوا بـالرفق يا فقرا
هـم بـالتفضل أولى وهو شيمتهم ** ** فـلا تـخف دركـا مـنهم ولا ضررا
وبـالـتغني عـلـى الإخـوان جد أبداً ** ** حساً ومعنى وغض الطرف إن عثرا
وراقب الشيخ في أحواله فعسى ** ** يـرى عـليك مـن استحسانه أثرا
وقَــدِّمِ الـجِدِّ وانـهض عـند خـدمته ** ** عساه يرضى وحاذر أن تكن ضجرا
فـفي رضـاه رضـا الـباري وطـاعته ** ** يـرضى عـليك فـكن مـن تركه حذرا
واعـلم بـأن طـريق الـقوم دارسـة ** ** وحال من يدعيها اليوم كيف ترى
مـتـى أراهــم وأنـى لـي بـرؤيتهم ** ** أو تسمع الأذن مني عنهموا خبرا
مـن لـي وأنـى لمثلي أن يزاحمهم ** ** عـلـى مــوارد لـم آلـف بـها كـدرا
أحــبـهـم وأداريــهــم وأوثــرهــم ** ** بـمـهجتي وخـصوصا مـنهم نـفرا
قوم كرام الســجايا حيــث ما جلسـوا ** ** يبـقى المكـــان على آثارهم عـطرا
يهـدي التصوف من أخلاقهم طرفـــا ** ** حسـن التألف منهم راقني نظـــــرا
هم أهل ودي وأحبابي الذين همــــوا ** ** ممـــن يجـر ذيول العـز مفتخــــرا
لا زال شمـلي بهم في الله مجــتمـعـا ** ** وذنبنــا فيــه مغــفورا ومغــــــتفرا
ثم الصلاة عــلى المخـــتار سيدنـــــا ** ** محمــد خيـــر من أوفى ومن نذرا