الشيخ أبو اليقظان وحركة الإصلاح في العالم العربي

بقلم: أ.د. مولود عويمر-

أؤكد منذ البداية أنه ليس هنالك فصل بين الشيخ أبي اليقظان وحركة الإصلاح في العالم الإسلامي، أي هذه الدينامكية القائمة من أجل تغيير أحواله منذ القرن التاسع عشر، وهي الحركة التي قادها رجال أخلصوا لهذا الدين أذكر منهم: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، ابن العنّابي، مصطفى الكبابطي، وغيرهم من علماء الإصلاح المعاصرين.

فأنا حينما أتحدث عن مكانة أبي اليقظان في مجرة الإصلاح العربي والإسلامي المعاصر، أقصد بذلك تحرر هذا الشخص من جغرافيته، فهو ولد في صحراء الجزائر لكن بجهود عصامية، وإرادة فولاذية كسر القيود، وهدم الجدران ليوسع دائرة وجوده في عالم أكبر، فأصبح بعد ذلك جزءًا من حركة الإصلاح والتجديد المعاصرة.

عندما أتناول هذا الموضوع لا أدرس أيضا أبا اليقظان كشاهد أو متفرج يقظ لما يدور في فلك الإصلاح وإنما أيضا كمساهم في تفعيل هذه الحركة. هذه نقاط أساسية يجب أن نتفق عليها منذ البداية لكي نفهم جهود الإصلاح عند الشيخ أبي اليقظان. وطبعا للإحاطة بهذا الموضوع، لابد من التركيز على الأقل على خمس نقاط أساسية.

روافد إصلاحية أو نفحات تونس

تتمثل النقطة الأولى في تحديد المدخل إلى فهم هذه الشخصية العلمية وهذه الديناميكية الإصلاحية، وهنا أتساءل: كيف أصبح الشيخ أبو اليقظان مصلحا وعربيا وإسلاميا؟

كانت للشيخ أبي اليقظان علاقة مبكرة بالحركة الإصلاحية في تونس، فهو درس على كبار علماء عصره في هذا البلد المجاور أمثال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الشيخ محمد العزيز جعيط،محمد صادق الشاذلي، محمد النخلي وحسن حسني عبد الوهاب.

ودرس السياسة أو فقه السياسة على الأستاذ عبد العزيز الثعالبي، فهكذا نرى أن الشيخ أبا اليقظان عاش مبكرا في أجواء مغاربية وإسلامية تجاوزت حدود الجزائر.

كيف تفاعل مع حركة الإصلاح في العالم العربي؟

أما بالنسبة للنقطة الثانية الأساسية التي أحببت أن أركز عليها، فهي الإشكالية التالية: كيف تفاعل الشيخ أبو اليقظان مع حركة الإصلاح في العالم العربي؟ إن الذي يدرس سيرته، أو يطالع جرائده يجد فيها أسماء كثيرة من روّاد الإصلاح والفكر الإسلامي المعاصر. وتجسد هذا التواصل في أشكال مختلفة.

أ‌- رحلات ولقاءات في المشرق العربي

لقد تحقق هذا التفاعل من خلال رحلاته المختلفة إلى المشرق العربي. فهو لم يبق منغلقا على نفسه، وإنما تواصل مع غيره من رواد الإصلاح في العالم العربي. وهذا هو حال كل طالب مجتهد وكل عالم طموح إلى الارتقاء إلى المستوى العالي، وذلك بالتغلب على المعوّقات الاجتماعية والتحرر من القيود السياسية للخروج في النهاية منتصرا عليها ومحققا أهدافه السامية.

وهكذا سافر الشيخ أبو اليقظان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فزار مكة والمدينة، ودمشق وبيروت وطرابلس وأزمير في تركيا. واطلع خلال هذه الرحلات على الحراك العلمي والفكري والسياسي السائد آنذاك في هذه الحواضر العربية والإسلامية، واتّصل بعدد من المصلحين والعلماء.

وكانت من أهم مشاهد رحلات الشيخ أبي اليقظان ركوبه قطار الحجاز، هذه الوسيلة الجديدة التي دخلت إلى البلدان العربية بعد احتكاك العرب بعالم الصناعة أو بداية استهلاكهم لثمرات الثورة الصناعية القائمة في أوروبا.

ب – المراسلات

لا أشك -رغم أنني ليس لدي الآن دليل ملموس، ومن حق المؤرخ أن يفترض أشياء بناءً على مجموعة معطيات- أن الشيخ أبا اليقظان تواصل مع محمد رشيد رضا صاحب المنار الذي كانت تربطه به علاقة علمية قوية كشف عن بعض مظاهرها في مقال كتبه بمناسبة تأبينه سنة 1935، فقال: ” كيف لا يحزن كل فرد من أفراد أربع مائة وخمسين مليون مسلم وقد سقط ذلك المنار الذي كان يرسل أشعته إلى كل قلبٍ مسلم نحن إذا بكينا[وهذه النقطة الأساسية] نحن إذا بكينا رشيدا فليس نبكي لموت شخصه، فإن الشخص إذا لم يمت اليوم يموت غدا ولكننا نبكي ونرتجف لموت مؤسساته الكبرى”.

لقد كان كل واحد منهما مصرا على الاعتماد على الصحافة لبث الفكر الإسلامي وترويجه بين الناس.

تبادل الشيخ أبو اليقظان مراسلات مع مجموعة من رجال الإصلاح أذكر منهم: سليمان الباروني وشكيب أرسلان الذي له صلة أيضا بابن باديس، ومصّالي الحاج وبالعديد من رواد الإصلاح والحركة الوطنية في المغرب الإسلامي.

وتواصل أيضا مع محب الدين الخطيب صاحب مجلة الفتح التي كتب عنها الشيخ أبو اليقظان مقالا عنوانه: “رسالة الفتح “ أشاد فيه بالخطيب ونوّه بدور مجلة الفتح وتأثيرها في المغرب العربي حتى منعتها سلطة الاحتلال الفرنسية. ولقد سبق لي أن نشرتُ مقالا في هذا الموضوع بعنوان: ” لماذا تخاف الإمبراطورية الفرنسية من مجلة الفتح”، وبينت فيه خوف الإدارة الفرنسية من هذه المجلة التي كانت منتشرة في الجزائر، وتعاقب بالغرامة أو بالسجن كل من تجد عنده نسخة منها.

وكانت له أيضا علاقات مع الأستاذ محمد علي الطاهر، وهو مناضل سياسي فلسطيني معروف استقر بالقاهرة حيث أصدر هو أيضا مجموعة جرائد ومن أشهرها: الشورى، والشباب.

ج- تبادل الإصدارات

لم يكتف الشيخ أبو اليقظان بإصدار الجرائد، وإنما كان يحرص أيضا على توزيعها في المشرق العربي. هذه نقطة القوة في مشروع أبي اليقظان. إنه من الصعب أن يصدر الإنسان جريدة في ظل حكم الاستعمار، ومن الأصعب أن يوصلها إلى من يقرأها في الداخل والخارج. إن الشيخ أبا اليقظان نجح في ذلك فكانت جرائده تصل إلى بقاع عربية بعيدة بفضل إصراره، واستثمار شبكة علاقاته كصديقه الشيخ إبراهيم أطفيش المقيم بالقاهرة.

ويكفي أن أشير هنا إلى رسالة بعثها قنصل مصر بمرسيليا إلى الشيخ أبي اليقظان مرفقة بقيمة مالية للاشتراك لمدة ستة أشهر في جريدة الأمة. عندنا أيضا شهادات أخرى في هذا الشأن، أذكر منها شهادة الكاتب المعروف أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة في حق جريدة وادي ميزاب، فقال بعد قراءتها: “لم أكن أتصوّر أن مثل هذه الجريدة تصدر في الجزائر وأن يكون فيها صحافي بهذه الجرأة، وهذا الاهتمام بقضايا العالم العربي والإسلامي وليس فقط بمنطقة محدودة في منطقة الجنوب وصحراء الجزائر الشاسعة”.

وفي السياق نفسه أذكر رسالة شكيب أرسلان التي كتبها بعد اطلاعه على جريدة ميزاب، يطلب من خلالها أبا اليقظان أن يرسل إليه مزيدا من الأعداد. وميزاب هي جريدة بسيطة في شكلها-أنا اطلعت على بعض أعدادها- لكنها عميقة في محتواها، ومتنوعة في مضمونها، وطموحة في أهدافها.

إن كل هذه الأمثلة تدل على أن الشيخ أبا اليقظان كان يريد أن يخرج الفكر الجزائري الذي تحمله صحفه إلى رحاب عالم أوسع، وهو المشرق العربي.

جرائد أبي يقظان صوت المشرق في المغرب

تناول أبو اليقظان والكتاب المتعاونون معه مشكلات عربية وإسلامية (فلسطين، مصر وغيرها) ، وذلك من باب التضامن العربي والإسلامي. كما دأب على اقتباس المقالات من جرائد المشرق العربي ليس عجزا من الكُتّاب، وإنما لتكون صحفه الثمانية منبرا لكل روّاد الإصلاح والأدب والفكر المعاصرين، وجسرا للتواصل مع القراء في المغرب العربي المتعطشين إلى ذلك. وقائمة الأدباء والمفكرين العرب المسلمين الذين ساهموا في صحفه طويلة جدّا لا مجال لذكرها هنا.

فتح الشيخ أبو اليقظان جرائده للنخبة التونسية وخاصة المغربية التي كانت تفتقر إلى الصحافة العربية في بلادها، وكانت أول مجلة صدرت في المغرب نشرها جزائري (محمد مايسة) يحمل جنسية فرنسية اسمها “جريدة المغرب” في حدود نهاية الثلاثينات. وهكذا نجد الصحف اليقظانية مليئة بمقالات الأدباء والمفكرين والشعراء المغاربة المعروفين.

ماذا قدّم الشيخ أبو اليقظان لحركة الإصلاح في العالم العربي؟

هناك نقطة أساسية مهمة، وهي: ماذا قدّم الشيخ أبواليقظان لحركة الإصلاح في العالم العربي؟  هذا أيضا سؤال محوري تمنيت لو اتّسع المقام لمناقشته، ولكن أشير بسرعة إلى بعض النقاط الأساسية من إسهاماته في الفكر الإسلامي المعاصر، وهي:

أ – نشر ثقافة التسامح والقيم الإنسانية

كتب الشيخ أبو اليقظان مقالات كثيرة حول التسامح والتمسك بالقيم السامية. وأذكر هنا مقولة تلخص فلسفته باعتباره يعيش للإسلام والقيم الإنسانية وليس لذاته، فقال في هذا السياق:  “إن رسالتي إنسانية، لا يقظانية، ولا مذهبية، إذا كتبت أو وعظت، أوجه نصائحي ووعظي وإرشادي إلى كل المسلمين، ويعلم الله كم يكون فرحي شديدا برجوع المسلمين إلى جادة الحق والإسلام. وكل فرد كنت أنا السبب في إنقاذه من النار كم يلحقني من فرح وسرور وبهجة.”

إن تبني ثقافة التسامح والتفتح على الإنسانية ليس شيء بسيطا في عصره، فالمختص في الفكر الإسلامي المعاصر يعرف أن هذه الأفكار حول الحوار مع الآخر كانت قليلة في زمانه.

ب- بناء المؤسسات

إن الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبد الحميد بن باديس والأستاذ محب الدين الخطيب كانوا يشتركون كلهم في ميزة، وهي أنهم كانوا رجال مؤسسات فأنشؤوا مطابع وأصدروا مجلات وجرائد، ولم يكتفوا فقط بالتدريس والتعليم، لأن هاجسهم يتمثل في تحويل الأفكار إلى وقائع ملموسة. هذه هي قوة محمد رشيد رضا، وقوة ابن باديس، وقوة الخطيب!.

والدعوة في نظر الشيخ أبي اليقظان لا تقوم فقط على الكلام، والخطاب والتعليم لكن لابد أيضا من إنشاء مؤسسّات، فهو نفسه أسّس مطبعة (المطبعة العربية). ربما لم يكن يربح منها كثيرا من المال، ولكنه على الأقل كسر الاحتكار الذي كانت تمارسه آنذاك المطابع الفرنسية .. فهو إذن رجل الاقتصاد وباني المؤسسات، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ لأن من ميّزات المؤسسة هو الصمود عبر الزمن… ذلك أن الربح لا يجنى إلا بعد سنوات من الجد والعمل ومواجهة التحديات.

كان هذا العالم الجزائري يتمتع بالصمود والإصرار على المقاومة والعمل فكلما مُنعت جريدته أصدر جريدة أخرى إلى أن وصل عددها إلى ثماني صحف (وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، النور، البستان،النبراس، الأمة، الفرقان).

ج- تشجيع الشباب على الإبداع

كان موضوع الشباب محل اهتمامات الشيخ أبي اليقظان فكرا وتنزيلا. وكان ينشر مقالات الشبان الجزائريين المبتدئين في مجال الكتابة تشجيعا لهم على الإبداع، فكثير من الأعلام الأدبية التي أصبحت معروفة فيما بعد (حمود رمضان، مفدي زكريا، مبارك جلواح، بلقاسم بن أرواق، علي مرحوم…) نشرت باكورة إنتاجها في جرائد أبي اليقظان إلى جوار أسماء مشهورة كشكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، مصطفى صادق الرافعي،…الخ.

وهكذا تحفز هؤلاء الشباب للسير قدما في مسالك الكتابة والإبداع الأدبي والفكري.

مكانة الشيخ أبي اليقظان في مجرة الإصلاح والتجديد

ما هي مكانة الشيخ أبي اليقظان في مجرة الإصلاح؟ وإلى أي طبقة من العلماء ينتمي؟ تحدد هذه الطبقة بحساب ما أنتجه من أفكار ومن مؤلفات، ولكن أيضا بقياس مدى اهتمام الباحثين بتراثه، فقد يؤلف العالم كتبا عديدة، وينشر مقالات كثيرة ولكن إذا لم يوجد من يهتم بها، فإن صاحبها يبقى نكرة في التاريخ.

كلما نشرنا تراث الشيخ أبي اليقظان رفعنا من درجته في سلم البحث العلمي، وارتقينا به في مدارج العلماء.

والحمد لله هناك جهود تبذل اليوم في هذا المجال باهتمام الباحثين بتراث الشيخ أبي اليقظان، فصدرت حوله عدة كتب ومقالات وبحوث أكاديمية ورسائل جامعية. وأنا شخصيا ناقشتُ رسالتين حول أبي اليقظان، الأولى عنوانها: “الشيخ أبو اليقظان وقضايا عصره”، والثانية موضوعها: “المشرق العربي من خلال جريدة الأمة لأبي اليقظان 1933 ـ 1938.”

كذلك أشرفتُ على رسالة أخرى حول “الحركة الإصلاحية في منطقتي الزيبان وميزاب”. وذكر صاحبها مرارا الشيخ أبا اليقظان باعتباره ركنا من أركان هذه الحركة الإصلاحية.

وخلاصة القول: إن الشيخ أبا اليقظان جدير بالدّراسة والبحث والاهتمام لأن ما قدمه من عمل، وما رسخه من قيم، كالصمود والجد والبناء وتشجيع الطاقات الجديدة… هي قيم نحن في أمس الحاجة إليها اليوم. 

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.