تلكم هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأولئكم هم رجالها…
بقلم: محمد العلمي السائحي-
ها هي ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تتجدد في هذا اليوم من هذه السنة، حيث يكون قد مر على تأسيسها ثلاث وثمانون سنة كاملة، حيث تأسست منذ 05 ماي 1931م ، و الذكرى 74 لوفاة مؤسسها و رائد نهضتنا الفكرية الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس –رحمه الله-ذلكم الرجل الفذ و العلامة الجهبذ و المصلح الفريد الذي لم أر جزائريا فرى فريه، و الذي أدرك بحق مغزى قول الإمام مالك بن أنس-رحمه الله- :"لا يصلحُ آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
مما جعله يستلهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في بعث هذه الجمعية من عدم، ليردّ من خلالها الشعب الجزائري إلى منابع الدين الإسلامي الصحيح، ففسر لهم القرآن، و شرح لهم السنة، و حملهم على العمل بهما، وحارب فيهم اليأس و القنوط، وبعث فيهم الرجاء، وجعلهم يدركون بحق، معنى قوله تعالى :{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، فبادروا بالثورة على واقعهم الذي عاثت فيه فسادا سلبيات كثيرة كالنزاعات الدينية المذهبية، والخلافات السياسية، والفقر والجهل، والتخلف المقيت، وحثهم عبر المجالس التي كان يعقدها، والمقالات التي يكتبها، والدروس التي كان يُلقيها، على الأخذ بأسباب الحياة الكريمة الشريفة، والتمسك بها ومجاراة العصر في تطوره ورقيه، وتحمل مسؤولياتهم قِبَل أنفسهم، وقِبَل وطنهم، بمثل قوله: "حافظ على عقلك فهو النور الإلاهي الذي مُنِحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك فاحذر كل (مُتًعيلٍم) يُزهِّدُك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية ودعا لها القرآن بالآيات الصريحة: "حافظ على حياتك ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك، وإذا أردت الحياة لهذا كله فكن ابن وقتك، تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسب أسباب الحياة وطرق المعاشرة، والتعامل، كن عصريا في فكرك، وفي تعاملك، وتجارتك، وصناعتك، وفلاحتك، و في تمدنك، و رقيك...".
كما بصّرهم بواجبهم نحو وطنهم فقال: "و النسبة للوطن توجب علمَ تاريخه، والقيام بواجباته، من نهضة علمية، واقتصادية، وعمرانية، والمحافظة على شرف اسمه و سمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، و لا سمعة لمن لا سمعة لقومه ".
كما دعا إلى تعليم المرأة، و العناية بها، فقال بمناسبة الرد على دعاة السفور "أنتم تفكرون في نزع حجابها وخلطها بالمجتمعات ..."." ..إذا أردتم الإصلاح الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، فأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد، وبنات قرطبة، وبنات بجاية، مكانا عليا في العلم و هن متحجبات".
ذلكم هو الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي احتفينا بذكراه في الشهر الفارط، وذلكم هو الطود الشامخ الذي أسس لنا هذه الجمعية الميمونة وجعل منها قلعة حصينة لاذ بها الجزائريون والجزائريات، يدافعون من خلالها عن ثوابتهم، فوقفت صامدة أما هجمات المستعمر الفرنسي فتكسرت على أسوارها كل مؤامراته من فرنسة و تنصير و إدماج.
إن الغاية المتوخاة من إحياء هذه الذكرى إنما هي رفع آيات الشكر لله وذلك بشكر رواد هذه الجمعية ورجالها وذلك بالتذكير بأعمالهم وإنجازاتهم فكما قِيل: من لم يشكر الناس لم يشكر الله، فرجال هذه الجمعية الميمونة قد تداعوا من كل حدب و صوب سنة 1931 م ليؤسسوها ويُفندوا بتأسيسها بطريقة عملية ادعاء فرنسا في احتفالها المئوي الذي أقامته سنة 1931 بقسنطينة، احتفاء بمرور مائة عام على احتلالها للجزائر، وزًعْمِ أحد جنرالاتها يومئذ انتصار الصليب على الهلال، ودحر الإسلام في أرضه، فكان تأسيس الجمعية صرخة في وجهه، تُعلن بها الجزائر لفرنسا خاصة، وللعالم عامة، أن الجزائر مسلمة وما زالت و ستظل كذلك إلى أن يرِث الله الأرض و من عليها، وليست تلك هي المأثرة الوحيدة لهذه الجمعية الميمونة، فإليها يرجع الفضل في مقاومة سياسة التنصير التي اعتمدها المستعمر للقضاء قضاءا مبرما على الإسلام في أرضه، لا حبا في المسيحية ، وإيمانا بها، و إنما لاقتناعه الأكيد بأثر الإسلام في مقاومة وجوده في الجزائر.
و إليها يعود الفضل في مقاومة محاولات الفرنسة التي قام بها المستعمر منذ أن وطئت قدماه أرضنا الطاهرة، فمن المعلوم أنه عمِل على تعطيل التعليم العربي في المساجد، والمدارس، وصادر أموال الأوقاف، التي كان يُنفق منها عليه، وشرَّد العلماء، وفرض على الكثيرين منهم، مفارقة الإخوان وهجر الأوطان، و فرض الفرنسية لغة رسمية للتعليم والتسيير، و فرنس المحيط، فأطلق على المدن والقرى والشوارع و الساحات العامة أسماء فرنسية، لمشاهير رجاله من قادة سياسيين أو فكريين أو عسكريين، ورغبة منه في القضاء على روح المقاومة لدى الجزائريين اعتمد سياسة التجهيل حتى يُعطل وعي الجزائري بذاته، ويحول بينه وبين إدراك مسؤولياته قبل نفسه ومجتمعه ووطنه، فتصدت جمعية العلماء لتلك السياسة، فأسست المدارس في عموم القطر لتحول بينه وبين هدفه من الفرنسة، التي كان يتوسل بها لإذابة الشعب الجزائري في الكيان الفرنسي، كما تصدت لسياسة التجهيل التي اعتمدها عن طريق إصدار الصحف مثل" الشهاب" و" البصائر"، وتأسيس النوادي لتوعية الإنسان الجزائري بواقعهِ المر، و لتفجر فيه الرغبة الملحة لتغيير واقعه، وتجاوزه إلى واقع أمثل.
و هذه الجمعية قاومت كذلك بشراسة سياسة الإدماج التي لجأ إليها المستعمر الفرنسي ليمكِن لوجوده في الجزائر، فتصدت له بواسطة علمائها وأدبائها وشعرائها فنبهوا عموم الشعب إلى مقاومة هذه السياسية الاندماجية، وبصروهم بأبعادها الخطيرة، فأحبطت بذلك مسعاه وحالت بينه وبين إدراك مبتغاه.
ولم تكتف هذه الجمعية بمقاومة الاستعمار الفرنسي داخل الجزائر وفي نطاقها، بل حاربته و قاومت تأثيره السلبي في عقر داره، حيث أوفدت ابنها البار الشيخ الفضيل الورتلاني سنة 1936م ليتولى تأسيس المدارس، والنوادي في فرنسا في قلب باريس وضواحيها، ليحفظ على جاليتنا المقيمة هناك دينها، ولغتها، و وطنيتها، ويحول بينها وبين الذوبان في المجتمع الفرنسي، و يعيد إلى الجزائر قلوبا تنكرت لها، و أفئدة هوت لغيرها، فجمع شمل أبنائها على الدين، وقلوبهم على التعارف والأخوة، و حبب إليهم تعلم العربية، و أسس في باريس و ضواحيها وحدها ما يزيد عن عشر نوادي ثقافية كل ذلك في مدى لا يزيد عن سنتين حيث غادرها أواخر سنة 1938 م متجها إلى مصر، ليواصل نضاله و جهاده هناك من أجل الجزائر أرضا و شعبا و قضية.
و إليها يرجع الفضل في التفاف الشعب حول الثورة و تأييده لها، إذ بادر رئيسها الإمام محمد البشير الإبراهيمي ورفيقه الشيخ الفضيل الورتلاني وقد كانا بالقاهرة فور سماعهما باندلاعها، إلى إصدار نداءين كان أحدهما يوم 3 نوفمبر 1954، وثانيهما يوم 15 نوفمبر 1954، يدعوان فيها الشعب إلى مناصرة الثورة واعتبار الكفاح المسلح جهادا دينيا لتحرير الجزائر أرض الإسلام من الاستعمار الفرنسي النصراني لها، وأسهما إلى جانب إخوانهم من أعضاء جبهة التحرير الوطني في تأسيس جبهة تحرير الجزائر وذلك بتاريخ 18 فيفري 1954 م دعما للثورة التحريرية المباركة و تأييدا لها. كما عمِلا بجد واجتهاد لحشد تأييد العالم العربي والإسلامي لها، فزارا مختلف البلاد العربية والإسلامية لذلك الغرض النبيل.
و في الداخل نهض الإمام الشهيد محمد العربي التبسي نائب رئيس الجمعية و مدير معهد عبد الحميد بن باديس لينافح عن حق شعبه في الحرية و الاستقلال ويتصدى لمؤامرات الاستعمار الفرنسي لمحاصرة الثورة ، فوضع هو والأستاذ توفيق المدني جريدة " البصائر " لسان حال جمعية العلماء تحت تصرف الثورة تعبر عن رأيها وتحاجج خصومها وجمع الإمام الشهيد العربي التبسي -رحمه الله - 230 من الأساتذة و المعلمين و المعلمات يوم 7 جانفي 1956 م بمقر جمعية العلماء بالعاصمة وتمخض اجتماعهم ذلك عن إصدار بلاغ أعلنوا فيه رفضهم للإصلاحات التي كانت تلوح بها فرنسا للشعب الجزائري بُغية منع الشعب الجزائري من الالتفاف حول الثورة، وأكدوا فيه أن القضية الجزائرية لا تحل إلا بالتفاوض مع الممثلين للشعب الجزائري الذين أظهرهم الكفاح المسلح، وبذلك قطعوا الطريق على فرنسا وأجبروها على الاعتراف بالثورة التحريرية المباركة .
و إليها يرجع الفضل في تمكّن جزائر ما بعد الاستقلال من ملإ الفراغ الإداري الرهيب الذي تسبب فيه المستعمر برحيله بعد استفتاء 3 جويلية 1962 م ، لتعطيل المصالح الإدارية والتعليمية، وإلى رجالها الأعلام الأفاضل أمثال سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان والشيخ خير الدين والشيخ إبراهيم مزهودي، يرجع الفضل في التصدي لمحاولات وسم الدولة الجزائرية بميسم العلمنة واللائكية، حيث تمكنوا من حمل المؤسسين للنظام الجزائري فيما بعد الاستقلال على اعتبار الدين الإسلامي دينا رسميا للدولة وأن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة وأن تُعتمد بدل الفرنسية كلغة للتفكير والتعبير و التسيير.
و إذن فإن هذه الجمعية هي حقا القلعة الحصينة التي لاذ بها الشعب الجزائري ليحمي بها ثوابته مثلما عبّر عن ذلك شعارها الذي رفعته يوم تأسيسها "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"، وقد كانت من الحصانة بما جعل كل المؤامرات الاستعمارية قبل وبعد الاستقلال تتكسر على أسوارها العالية المتينة، وسلمت بذلك للشعب ثوابته وبقي إلى اليوم شعبا مسلما عربيا جزائريا ولله الحمد.
تلكم في عجالة هي بعض مآثر هذه الجمعية المباركة ومنجزاتها الجليلة، ولعل فيما ذكرناه من مآثر ما يؤكد لناشئة اليوم أن الجزائر خاصة، والأمة العربية والإسلامية عامة، أمة معطاءة، وأن رجالها لا يقلون عبقرية عن غيرهم من أبناء الأمم الأخرى، ويدركون أيضا أن الإسلام لم يكن في يوم مُعطِلا للطاقات، أو حائلا دون تحقيق الطموحات، بل إنه من حسن فقهنا لتعاليمه السمحة أن نعمل بحديث نبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:"الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها أخذها فهو أحق بها" فالإسلام إذا كان ضد التفسخ والذوبان في الغير، فهو أيضا ضد التقوقع والتحجر والجمود، ومن ثمة فإن المسلم الحق لا يرى صراعا بين الأصالة والمعاصرة وإنما يرى انسجاما بينهما وتناغما يُفضي إلى واقعٍ أمثل و يدفع إلى مستقبلٍ أفضل.
و لعل ناشئتنا ستتبين من ذلك أن من يعمل خيرا يُجز به ولو بعد حين كما قال الشاعر:
ومن يفعــــل الخـــــير لا يُــــعدَم جـــواِزيهُ
لا يــــضيعُ العـــُرفُ بين اللهِ و الـــــناسِ
فيصدقون مثل أسلافهم في خدمة الجزائر، و يعلون ذكرها على المنابر، فيضيفون بأعمالهم إلى أمجادها أمجادا ومفاخرا.