مفدي زكرياء (ابن تومرت)

بقلم: أبو القاسم سعد الله-

يعد مفدي زكرياء بحق أبرز الشعراء في عهد الثورة وأقواهم صوتا من الجيل المخضرم، فبعد سكوت طويل ما تزال أسبابه مجهولة ظهر في صحافة الثورة وفي نشيد (قسما) على أمواج الأثير، وفي المحافل الأدبية في المشرق والمغرب العربي، باسم ابن تومرت (وهو لقب محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين)، والواقع أن عودة ظهور مفدي زكرياء بدأ بقصيدة دار الطلبة (1953) ثم بقصيدة الاحتفاء بذكرى نفي أحمد توفيق المدني (1955)، ولكن ظهوره على مسرح الثورة بدأ بنشيد (قسما) عشية مؤتمر الصومام حين التقى به بعض قادة الثورة وطلبوا منه وضع نشيد يتغنى به المجاهدون وتردده الإذاعات التابعة لجبهة التحرير ليكون محرضا على خوض المعارك وتحمل المشقة في سبيل الهدف الوطني النبيل وهو تحرير الجزائر (1).

ومهما كان الأمر فإن حياة مفدي زكرياء الاجتماعية والحزبية قبل الثورة موجودة في عدة دراسات فلا حاجة إلى تكرارها هنا، وحتى الآن لا نعلم بالضبط متى انضم إلى الثورة ومع من كانت مشاعره في البداية، هل عاش مثل كثير من الحزبيين مرحلة المساءلة أو اندفع إلى الميدان بدون تردد، هل كان مصاليا وتحول، أو كان مركزيا وتحول أيضا، أو كان ثوريا وكفى منذ البداية؟ لم نجد من أجاب على هذه الأسئلة عند الذين تناولوا حياته الأدبية، فهم يبدءون بالقول بأنه اعتنق الثورة ونظم لها نشيد (قسما) وقصد القصائد في أبطالها وأحداثها، وعلى كل حال فقد تبنت المقاومة ثم المجاهد نشر قصائده الثورية.
والواقع أن (المقاومة الجزائرية) هي التي سبقت إلى نشر قصائده، ومنها قصيدته الصادرة في 15 نوفمبر 1956 في رثاء أحمد زبانة الذي أعدمته السلطات الفرنسية بالمقصلة، وقد نشرت القصيدة غير موقعة لا باسمه الحقيقي ولا باسمه المستعار، وهي القصيدة التي احتلت صفحة كاملة من الجريدة، ومطلعها:

قام يختال كالمسيح وئيدا ... يتهادى نشوان يتلو النشيدا

وهي من عيون شعر مفدي زكرياء في الثورة بل من عيون الشعر العربي الثوري التي سارت بها الركبان، وبقدر ما أثارته القصيدة من مشاعر الفخر والعطف والشفقة على زبانة بقدر ما فجرته من مشاعر الغضب والانتقام في نفوس الثوار والشباب، وكنا قد قرأنا هذه القصيدة في القاهرة فاشتعل الطلبة سخطا على الاستعمار، وأصبحت من محفوظاتنا ومن أحاديث مجالسنا.

قبض الفرنسيون على زبانة يوم 8 نوفمبر 1954 بعد إصابته بجروح وأودعوه سجن بربروس (سركاجي) بالعاصمة، ثم أصدروا ضده حكما عسكريا بالإعدام يوم 18 يونيو 1956، وقد أعدم فجر اليوم التالي رغم نداءات مفتي الجزائر والحبر الإسرائيلي وأسقف الجزائر ورئيس الكنيسة الإصلاحية، حسبما جاء في جريدة المقاومة، وكان زبانة يردد، وهو يقاد إلى المقصلة، نشيد (أعصفي يا رياح) الذي كان يردده معه 3000 سجين من المناضلين في نفس السجن، وقد قدمت الجريدة للقصيدة بمقدمة طويلة ختمتها بقولها: (وهاكم قراء (المقاومة) هذا القصيد العظيم الذي اتصلنا به أخيرا من شاعر جزائري تسجيلا لاستشهاد هذا البطل الخالد، ألا في سبيل التحرير يطيب الفداء، وفي تمجيد التضحية والبطولة يحلو النغم ويسمو النشيد).

ثم توالت قصائد ابن تومرت في جريدة المجاهد بعد اختفاء جريدة المقاومة، فنشرت له الأولى قصيدة (وتكلم الرشاش ..) وجعلت لها عنوانا فرعيا هو (من وحي ذكرى 5 جويلية)، وتعني به ذكرى احتلال الجزائر سنة 1830، وهي أيضا من القصائد الطوال ومن عيون شعر الثورة، وقد أورد فيها الشاعر إشارات تاريخية كحادثة المروحة، واليهودي المرابي بوشناق، ومسألة الحبوب، والديون التي كانت من بين أسباب الاحتلال الفرنسي للجزائر، ومطلع القصيدة:

أكباد من؟ هذي التي تتفطر ... ودماء من؟ هذي التي تقطر

وقلوب من؟ هذي التي أنفاسها ... فوق المذابح للسما تتعطر (2)

وفي آخر هذا العام نشرت لابن تومرت قصيدة أخرى بعنوان (أهدافنا في العالمين صريحة)، وتحتها (قصيدة للشاعر الجزائري ابن تومرت) بدايتها:

ديغول يعلم ما نريد ويفهم ... ما باله حيران لا يتكلم

فقد الصراحة أم أضاع فصاحة ... أم أن تقرير المصير توهم

وهي ليست من القصائد الطوال، أما موضوعها فواضح من البيت الثاني (3)

كما أضافت المجاهد عنوانا فرعيا وهو (من أدب الثورة) لقصيدة أخرى (للمثاعر الثائر ابن تومرت) حسب تقرير المجاهد، وبداية هذه القصيدة القوية التي جاءت على غرار قصيدة رثاء أحمد زبانة السابقة:

نطق الرصاص فما يباح كلام ... وجرى القصاص فما يتاح ملام

وقضى الزمان فلا مرد لحكمه ... وجرى القضاء وتمت الأحكام

وسعت فرنسا للقيامة وانطوى ... يوم النشور وجفت الأقلام

وهكذا استمر الشاعر على هذا الوزن والقافية بألفاظ محكمة مستمدة من معاني القرآن وأحكام الشريعة وبأسلوب فيه تهديد ووعيد كأن صاحبه جبار مقدم على تنفيذ عقوبة صارمة ضد مجرم يستحق العقاب الأليم، فالقصيدة، كما ترى، من عيون الشعر الثوري المعاصر، ومن وحي الثورة التي كانت تتقدم بخطى ثابتة نحو هدفها رغم العراقيل وجبروت العدو (4).

وختم ابن تومرت سنة 1959 بقعيدة نحى فيها باللائمة على هيئة الأمم المتحدة لخذلانها القضية الجزائرية حين عرضت عليها أرضاء لفرنسا وخضوعا لأمريكا والغرب، قائلا (لا نرتجي العدل من قوم سماسرة)، ومضيفا: أكذوبة العصر أم سخرية القدر ... هذي التي أسست في صالح البشر

أم أن (لوزان) في الأحياء قد بعثت ... بحفل (نويورك) ما أفضى إلى سقر (5).

وحين حل عام 1960 خاطبه ابن تومرت بقصيدة متسائلة عما يخبئه للجزائر ومستقبلها، وعنوانها: (ماذا تخبؤه يا عام ستينا)؟ (6)

وله قصيدة عبر فيها عن خيبة أمله في السياسة واعتبر السياسيين لصوصا. ودعا فيها إلى الكفاح في ساحة الشرف لأن السياسة قد تتفع مع أناس متحضرين، أما السياسيون الذين تتعامل معهم الثورة فهم في نظره لصوص لا يستحقون إلا الحرب إلى آخر رمق، ولذلك دعا المغترين بالسياسة (ويقصد بها في الغالب المفاوضات مع الفرنسيين) إلى التخلي عن هذا النهج لأنه من أضغاث الأحلام، حتى أنه اختار عنوان القصيدة (ذروا الأحلام) وخاطب فيها قلبه أو عقله قائلا:

أضر به معذبه فثارا ... وأرهقه مسخره فطارا

رأى طرق السياسة شائكات ... ففضل ساحة الشرف اختصارا

ولا تجدي السياسة مع لصوص ... تستر بالدجى تخشى النهارا (7)

وحين فجرت فرنسا القنبلة الذرية في صحراء الجزائر سارع ابن تومرت بتسجيل الحدث الخطير كما سارعت المجاهد بنشر القصيدة السباعية الأبيات ذات الأغصان والقفلات، وقد تحدث فيها عن أثر القنبلة على الأطفال، خصوصا أولئك الذين قد يولدون عميانا، وعنوانها يدل على ذلك وهو (ابن القنبلة الذرية):

ما دهاه ويل أمه ما دهاه ... ويلتاه من جيله ويلتاه

ما له في الحياة يولد أعمى ... لم تر الكون باسما مقلتاه (8)

كان الشاعر مفدي زكرياء يتابع أحداث الثورة بتفاصيلها وينفعل معها بكل جوارحه فإذا بالمستوطنين في العاصمة، وهم أنصار (الجزائر فرنسية)، قد تمردوا على حكومتهم ونادوا بسقوط رؤسائهم، فاستغرب كيف يتمرد (العصاة على العتاة) ورأى أن رؤوس العتاة قد طأطأت لهذه العصابة فقال:

ما للعصابة في الجزائر مالها ... ما للجبابر ساجدون حيالها

ما للعصاة على العتاة تمردت ... فغدت تصب على الرؤوس نكالها (9)

خرج مفدي زكرياء من الجزائر في شهر مارس سنة 1959، ومنذ فبراير 1960 لم نعد نقرأ له شعرا في المجاهد، يقول بعض الباحثين إن له قصائد في المجلات والجرائد التونسية، مثل الصباح، والفكر، والإلهام، والإذاعة ... ويبدو أنه استمر في هذا النشاط إلى 25 نوفمبر 1961 (10)

ويمكن القول إنه بعد خروجه من الجزائر ومروره بتونس توجه إلى المشرق العربي، وهناك أصبح معروفا بشاعر الثورة ووجد سمعته قد سبقته إلى المشرق، وقد انفتحت أمامه أبواب الشهرة والظهور على منصات الشعر في المهرجانات الأدبية، فغنى لها قصائد وضرب على أوتارها اسم الجزائر حتى ثمل. وفي بيروت نشر ديوانه اللهب المقدس عام 1961 وهو في تمام النشوة والمجد الأدبي (11)

مواضيع أخرى لمفدي زكرياء

وفي نفس الوقت تناولت المجاهد موضوع الأدب، وهو الموضوع الذي بقي مهملا منذ سنة 1958 تقريبا، ولا غرابة أن تهتم المجاهد بالشعر السياسي الثوري بالدرجة الأولى لأنه يخلد الشهداء ويسجل البطولات ويرفع المعنويات بالتحميس والتحريض على النضال، وقد فتحت صفحاتها لهذا اللون من الشعر سواء قاله جزائريون أو عرب المشرق (12)

وبعد الاستقلال عاش مفدي زكرياء للتجارة وشعر المدح لزعيم تونس بورقيبة وملك المغرب محمد الخامس وابنه الحسن الثاني، فأصبح يلقب بشاعر المغرب العربي، كما نظم ملحمة نضال الشعب الجزائري التي أسماها (إلياذة الجزائر)، ولم يكن مفدي على وفاق مع النظام الجزائري دون سبب واضح، هل هو الإيديولوجية السياسية أو النقمة الشخصية لكون النظام لم يقدر مكانته حق قدرها، وقد توفي بتونس في 17 أغسطس 1977، ودفن في مسغقط رأسه (بني يسجن).

ساهم شعراء الجزائر أيضا في انتصار الشعوب الأخرى على الاستعمار وغنوا لها وشاركوها فرحتها بالحرية والنصر ووعدوها بلحاق الجزائر بركبها، فعند حصول تونس على استقلالها هنأ الشاعر مفدي زكرياء شعب تونس بانتصارها واعتبر استقلالها مقدمة لوحدة المغرب العربي الذي سيتحقق بعد استقلال الجزائر أيضا، والقصيدة قالها بمناسبة الذكرى الرابعة لاستقلال تونس، وجاء فيها:

في مثل يومك تكرم الأعياد ... وبيوم عيدك يعذب الإنشاد

المغرب العربي أنت جناحه ... حرك جناحك يصعد المنطاد

ولتشهد الدنيا هنالك وحدة ... جبارة تفتح لها الآباد

شعب الجزائر قام يبني صرحها ... بدمائه، والحادثات شداد (13)

كما شارك مفدي زكرياء أهل المغرب الأقصى في استقلالهم وهنأ الملك بالنصر، وحين تعرض المغرب للزلزال عزى أهله، وقد وقع الزلزال في أغادير عام 1960، وعنوان قصيدته (أغادير الشهيدة)، وقد نوع قوافيها وعزى بها من أسماهم (حماة المغرب):

اضطرب يا بحر واخفق يا فضا ... واحتدم يا خطب وانزل يا قضا

وارجفي يا أرض أو لا ترجفي ... أنا في المحنة لا أدري البكا

ويظهر الشاعر في هذه القصيدة ناظما فقط، لأن عنصر الصدق يعوزها كما أن عاطفتها ضعيفة ولغتها تقليدية ولا ترقى إلى شعره المعروف بالتوتر والشحنات المتفجرة كما في قصائده الثورية ولا حتى في مستوى شعره الذي قاله في الملكين محمد الخاس والحسن الثاني (14).

يقول مفدي زكرياء في مقدمة ديوانه اللهب المقدس إنه لم يكن يهتم بالصنعة والجمالية بل كان يهتم بالتعبئة الثورية وتصوير وجه الجزائر الثائرة كما هي، (أنظر مقدمة الديوان)، وترى أنيسة بركات أن أبرز الممثلين للحياة الاجتماعية بكل مآسيها هم مفدي زكرياء والخرفي وخمار، ولعلها تقصد تصويرهم لحالة التشريد والقمع الذي عاشته الجزائر أيام الثورة.

لقد كان مفدي زكرياء في سجن البرواقية سنة 1957، وله قصيدة قالها عندئذ في الذكرى الثالثة للثورة مطلعها:

دعا التاريخ ليلك فاستجابا ... (نوفمبر)، هل وفيت لنا النصابا

ويقول خرفي في ديوانه أطلس المعجزات:

بايعت من بين الشهور نوفمبرا ... ورفعت منه لصوت شعبي منبرا

ومن الشعراء الذين التزموا بالثورة منذ انطلاقتها وأشادوا بالمجاهدين عبد السلام حبيب وصالح باوية وأحمد معاش وبلقاسم خمار وسعد الله الذي قال في استقبال نوفمبر:

كان حلما واختمار

كان لحنا في السنين

أن نرى الأرض تثور

وقد نشر سعد الله أيضا نشيد (بربروس) في مجموعته (النصر للجزائر) الصادرة سنة 1957 بالقاهرة، وتوقع له نفس مصير الباستيل.

ولمعاش قصيدة في معركة (تارشوين) جاء فيها:

خلدي المجد واحفظي الشهداء ... واذكري النار والردى والدماء (15)


الهوامش:

(1) يذكر الشاعر في ديوانه اللهب المقدس أنه نظم قسما في السجن سنة 1955، ولكننا نجده قد شارك بنفسه في إلقاء قصيدته في حفل توفيق المدني في شهر يونيو من السنة المذكورة، ولعل الخطأ وقع في السنة فبدلا من 1956 كتبت 1955.

(2) المجاهد 29 يونيو 1959.

(3) المجاهد 5، 15 ديسمبر 1959.

(4) المجاهد أول نوفمبر 1959، عدد خاص بذكرى الثورة.

(5) المجاهد 58، 28 ديسمبر 1959، وهو يشير بالبيت الثاني إلى أن مآل هيئة الأمم قد يكون هو مصير عصبة الأمم في لوزان والتي انهارت بعد أن داس عليها هتلر وموسولني.

(6) المجاهد 59، 11 يناير 1960.

(7) المجاهد 60، 25 يناير 1960.

(8) انظر المجاهد 62، 22 فبراير 1960، انظر ركيبي، دراسات في الشعر الجزائري الحديث فقد درس هذه القصيدة وقارنها بأختها لصالح خرفي.

(9) المجاهد 61، 8 فبراير 1960، وقد وقع التمرد يوم 24 يناير.

(10) الجابري، النشاط العلمي، مرجع سابق، ص 393.

(11) انظر أيضا الأمين بشيشي، أناشيد للوطن، ومحمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث، وصالح الخرفي، الشعر الجزائري الحديث.

(12) عواطف عبد الرحمن، الصحافة العربية، مرجع سابق، ص 140 - 141.

(13) المجاهد 64، 21 مارس 1960، لاحظ أنه لم يأت فيها على ذكر الرئيس بورقيبة، كما أنها من قصائده القصار.

(14) المجاهد 63، 7 مارس 1960.

(15) أنيسة بركات، محاضرات ودراسات ... ص 69 - 70، انظر كذلك سعد الله، النصر للجزائر، القاهرة، 1957.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.