مذكرات مالك بن نبي: العلماء وابن جلول
بقلم: مالك بن نبي-
ثم إن نقاشا داخليا بدأ يشغل ضميري. فقد بدأ الحديث في الحي اللاتيني عن قدوم (فيدرالية منتخبي قسنطينة) بقيادة رئيسها بن جلول. وقد كنت إصلاحيا حادا، إلى درجة أني تجرأت (في سنة 1933!) واقترحت ابن باديس رئيسا شرفيا لجمعية الطلبة الجزائريين مثيرا اندهاش كل من نارون الذي طرد من الاجتماع، وبومنجل الذي سجل موقفي لتبليغه لرئيسه ماسينيون. فكان المشكل يطرح على ضميري في صيغة معضلة: بن باديس أم بن جلول؟ وبما أني لم أتردد لحظة في الحسم لصالح (العلماء)، فقد كنت أبدي تعاطفي مع مصالي الذي كان يتودد حينها لـ(علمائنا) تماما كما كان يتودد لظل الأمير خالد. وعليه فإني كنت اعتبر نفسي حليفه في هذه النقطة بالذات رغم أني لم أكن في صفه.
ولم أكن أعرف، من جهة أخرى، أن (العلماء) سيصبحون، سنوات بعدها، حماة لابن جلول عندما كنت أهاجمه كـ(خائن) في وقت كانت الجزائر تضعه في الذروة، وأخص من العلماء الشيخ العربي التبسي. وأدرك الآن أن (العلماء) كانوا يتحسسون في شخصي الشاهد العصي في وقت رأوا فيه أنه من (الإسلام) التفاهم مع متواطئ مع الاستعمار عوض التفاهم مع الذي يكيل له الاتهام.
وقد بدأ النقاش الذي أحتدم في ضميري والذي فصلت فيه لصالح (العلماء)، وبالنتيجة لصالح مصالي، يضعف بفعل همومي الأخرى.
فوضع عائلتي لا يزال يؤرقني، وعملي يتعبني. ثم أضيفت قضية إصلاحية، ستورطني (كما أدرك اليوم) دون رجعة في منطق الإدارة الاستعمارية وتحكم على والدي نهائيا.
حصل أن صدر تلك السنة (مقرر ميشال) المشهور والذي يقضي بمنع المساجد على (العلماء). غير أن الشيخ العقبي لم يكن ليتحمل فكرة منعه من الذهاب للصياح والتصبب عرقا، كل مساء، في مسجد الجزائر العاصمة، فنشر باسم (العلماء) رسالة مفتوحة طبع منها آلاف النسخ، ولم يدر ما يصنع بهذا العدد الكبير، فمن السهل قول شيء ولكن من الصعب تحقيقه. فأرسل لي المخزون إلى باريس.
طلب مني الإصلاح الجزائري خدمة، فلا تتصوروا أني سأرفض أداءها. شرعت بداية في تحريض الطلبة الجزائريين، ثم حررت باسمهم رسالة مفتوحة موجهة للإدارة. ولم تذهب جمعية الطلبة إلى حد التجرؤ ورفض تحمل مسؤولية رسالتي، غير أن بومنجل اقترح تهذيب نصها لأنها، كما قال، تتضمن بعض العنف. آه! كم أفهم الآن مسببات وأهداف الأشياء. كان علي أن أقبل تهذيب بعض فقرات رسالتي التي نشرت في الجزائر بالفرنسية في جريدة (La Défense)(الدفاع) وباللغة العربية في جريدة كان يتولى عبابسة نشرها في العاصمة، وانتقدت فيها ما اسميته بـ (المساعدين المكلفين بالصلاة) الذين فرضتهم الإدارة أئمة على المساجد. ولتوزيع رسالة (العلماء) المضادة لـ (مقرر ميشادل)، قمت من جهة أخرى، بتجنيد بعض الطلبة مثل إبراهيم بن عبد الله. وقد قبلوا، مثلي، حمل وتوزيع المنشور في حي معين بوضعها في صناديق البريد. قال (العلماء)، لم يمدوني ولو بفلس واحد لمواجهة مصاريف المهمة في مدينة كل شيء فيها بثمن وبخاصة الانتقال من نقطة إلى أخرى بوسيلة ميترو الأنفاق. وقدرت ورفاقي أنه من الأفضل إرسال المنشور لبعض المخاطبين عبر البريد. فشاركنا في جمع مساهمات لتشكيل (صندوق للدعاية). وبهذه الطريقة استطعنا أن نوصل الخطاب إلى برلمانيين وكتاب وصحفيين، وبينما كنا نكد ونجهد أنفسنا من باب إلى آخر، كان ممثلو (الوطنية) يتباهون في مقاهي الحي اللاتيني وينتظرون موعد مهرجانهم الخطابي القادم.
ولم تكن نتيجة جهدنا مخيبة وكانت الجريدة الوحيدة التي لمسنا فيها أمرا يعنينا هي (النشاط) (l'Action) الملكية التي تحدثت عن (أفاعي المسلمين) وهي تتناول موضوعا لم أعد أدري ما هو.
أما (العلماء)، فلم أعثر لهم على أثر، رغم أني حررت رسالة للشيخ العقبي لحثه على صرف النظر عن (مقرر ميشال) وعدم الاهتمام به ولكن دون اجتياز عتبة المساجد الممنوعة.
لقد اقترحت أن يؤم المصلين خارج المدينة، لأداء الصلاة تحت السماء أي تحت القبة الحقيقية للمسجد، والتي أم تحتها محمد صلى الله عليه وسلم صحابته عندما كانوا مضطهدين. وبديهيا أنني أفهم -أو قل لم أفهم- القصور البين لـ(العلماء) في هذه النقطة بالذات.
لقد خاطبت الشيخ العقبي لأني كنت أراه أكثر حماسة. ولكن، يجب أن أقول الآن وعلى ضوء تجربة طويلة، أن علماءنا كانوا دوما على قدر من الجهل يحجبهم عن إدراك الأفكار وعلى قدر من الجبن لتطبيقها إذا كانت ثمة بعض الأخطار. إنهم يحبون الجنة طبعا، ولكن على شرط وصولها بتأن وببطن شبعان وبفكر خاو وأن ينتظرهم ملك - أقصد مازحا شكل ملك - يقول لهم: (أدخلوا، أيها السادة، أنا أعلم أنكم تعبتم كثيرا في الحياة الدنيا غير أن فرش ناعمة تنتظركم.) ولكن ماسينيون يفهم الأفكار، وقد يكون لاحظ فكرتي، كما سيلاحظ بعد ستة عشر سنة، بعد صدور (شروط النهضة) ويعلق عليه بقوله: (هذا خطر حقيقي على الاستعمار).
وبدأت شخصيا أتحسس وأعي هذا (الخطر) من أفكاري تماما كما بدأت أحس (بالخطر) الخاص لماسينيون على مستقبلي الذي لا يزال بعيدا، وعلى وضع عائلتي، فضلا عن والدي، الذي قرر بعد محاولات فاشلة لإدماجه في العمل، أن يؤدي فريضة الحج مصحوبا بوالدتي. وقد كتب لي ليعلمني بالأمر رسالة مؤثرة أبكت زوجتي، بينما كنت على العكس، فرحا متمنيا أن يبقى والداي اللذان نفرا من الاستعمار بأرض الحجاز حيث خططت للإقامة بعد نهاية دراساتي لأن شعورا غامضا اعتراني بأني لن أقوم بشيء في الجزائر. وانتهت سنتي الدراسية على وقع هذا الآمل.
من مذكرات مالك بن نبي (العفن).