الربيع بوشامة.. قصائد مخلّدة للثّورة التّحريرية وقادتها الأشاوس

في ظروف طبيعية قاسية فرضتها الحرب العالمية الأولى، ولد الربيع بوشامة في ديسمبر 1916 ببلدية قنزات بسطيف، وحين بلغ السنة الخامسة من عمره ألحقه والده بالكتّاب لحفظ القرآن الكريم، وفي السنة السادسة سجّله بالمدرسة ليتعلّم اللغة الفرنسية، ولما وصل إلى مستوى الشهادة الابتدائية انقطع عن الدراسة وتفرّغ لحفظ القرآن الكريم.

لمّا أنشئت جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين سنة 1931، انضمّ إليها الربيع وبعد فترة أصبح عضوا نشطا فيها، وفي عام 1938 أوفدته الجمعية إلى فرنسا ليقوم بالمساعدة في النشاط الإصلاحي في صفوف الجزائريين المغتربين، لكنه سرعان ما رجع بعد استدعائه لإجراء الفحص الطبي لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، ونظرا لضعف بصره أعفي من ذلك. وبعد إعفائه انتقل إلى مدينة قسنطينة، لمواصلة طلب العلم على يد شيوخ الجمعية وفي مقدمتهم عبد الحميد بن باديس، الذي لازم الربيع دروسه حتى وفاته في أفريل 1940، ليعود الربيع إلى مسقط رأسه متأثرا بوفاة الشيخ بن باديس وبمبادئه التي كان ينادي بها فاستوعبها والتزم بها طوال حياته.

أثار نشاط بوشامة بمسقط رأسه شكوك الإدارة الاستعمارية، فتم استدعاؤه عدة مرات وهدّد بالنفي إن لم يتخل عن هذا العمل، ما جعله ينتقل إلى خراطة عام 1942 كمعلّم في المدرسة الحرة هناك.

أدركت بوشامة مظاهرات الثامن ماي 1945 وهو في خراطة، شارك فيها وخلّدها بشعره في قصيدة  عنوانها: «في ذكرى فواجع الثامن ماي»، لأنّه اعتقل وعذّب ثم قدّم إلى المحكمة فحكمت عليه بالإعدام بسبب مشاركته في تلك المظاهرات، ولما استأنف الحكم تحصّل على البراءة لعدم ثبوت الأدلة ضده فأطلق سراحه في أواخر فبراير 1946.

انتقل إلى العاصمة، فعلم بمدرسة «الهداية» في حي العناصر منذ جويلية 1946 مدة أربع سنوات، وبعد ذلك انتقل إلى مدرسة «الثبات» بالحراش معلما ثم مديرا ابتداء من سنة 1949، وفي أوت 1952 انتدبته جمعية العلماء المسلمين إلى فرنسا كمعتمد لها ورئيس شعبتها المركزية بباريس، وبعد مرور سنة هناك رجع إلى مدرسة «الثبات» من جديد.

أثناء عمله في هذه المدرسة انضمّ إلى الحركة الوطنية، من خلال احتكاكه بمناضليها ومنهم الشهيد عميروش، الذي كان منتسبا لشعبة جمعية العلماء بفرنسا.

ولما اندلعت الثورة التحريرية، انخرط فيها الربيع وأنشد قصائد حماسية عبّر فيها عن إيمانه وتعلّقه بها، ولما قيل له ذات يوم لم تشاءمت من شهر ماي؟ أجاب بالقول: تشاءمت منه نتيجة المجازر التي ارتكبتها فرنسا في حق الجزائريين في الثامن ماي 1945، لأنّني عانيت ما عاناه الجزائريون، مجازر بشعة، قتل بالجملة، رمي للجثث في الشعاب والأودية، انتهاك للحرمات، وتعذيب بشع.

في مطلع عام 1957، اتّصل الشهيد بجيش التحرير سرا، وبعد مرور شهر ظهر اسمه في إحدى الجرائد الاستعمارية من خلال نشر رسالة عثرت عليها الشرطة الفرنسية عند أحد الفدائيّين، ولحسن الحظ كان الاسم بوشامة طالب، وبعد هذه الحادثة تنقّل الربيع إلى سطيف وقسنطينة مستظهرا البطاقة المهنية «مفتش بمدارس جمعية العلماء»، لإبعاد الشبهة عنه ولكنه لم يتخل عن نضاله لفائدة الثورة واتصاله بجيش التحرير.

ومع مطلع 1959 بدأ الوضع يتأزّم بعد تفكيك شبكة من الفدائيّين، كانت تنشط بحي صالومبي المدنية حاليا وألقت القبض على عدد كبير من المناضلين، وبعد استنطاقهم تأكّد العدو من تعاون الربيع مع الثورة، فتوجّهت قوات الدرك الفرنسي إلى المدرسة التي كان يعلم فيها ويديرها، ولما رأت العلم الفرنسي ممزّقا وجّهت له تهمة إهانة العلم الفرنسي.

لكن الشهيد أدرك أن تمزيق العلم ما هو إلا حجة مصطنعة لإلقاء القبض عليه، وقد تم تمزيقه ليلا من طرف عناصر مجهولة دخلت المدرسة، أثناء وجوده موقوفا بمقر الدرك بالحراش تذكّر الصور الفظيعة من القمع الوحشي الذي أقدمت عليه السلطات الفرنسية ضد المتظاهرين سلميا في 8 ماي 1945، والصور الوحشية من التعذيب الذي قمعت به المضربين عام 1957، فخطر بباله كتابة قصيدة جديدة عندما يعود إلى المنزل حول هذه الأفعال الشنيعة، من شق بطون النساء الجزائريات الحوامل، بعد المراهنة على معرفة الأجنّة في بطونهن تشفيا من تأييدهن للثورة، كما وضعوا القيود في أرجل الرجال والأغلال في أعناقهم وربطوها إلى شاحنتين وأمروا بانطلاقهما في اتجاهين مختلفين ممّا يؤدّي إلى انشطار جسم الضحية إلى نصفين.

مورس عليه أقصى أنواع العذاب

بعد إطلاق سراحه قدّمت الشرطة السرية ليلا إلى بيته ومعها أحد الخونة فقامت بتفتيش المنزل، وأخذت معها كل الأوراق والجرائد واقتادته إلى مركز الشرطة، وهناك تصفّح ذلك الخائن الأوراق التي صادرتها الشرطة فعثر على بعض القصائد التي قالها الربيع تأييدا للثورة، ومنها قوله في قصيدة عنوانها «يا فتى الأوطان قم» يمدح فيها عميروش، وترجمها للضابط قائلا: «إنه يمدح الفلاقة «المجاهدين»  ويشجّعهم، وردّ الضابط أن فعله يعتبر تحريضا.

دافع الربيع عن نفسه محاولا إبطال هذه التهمة، لكن الخائن بقي يقلّب الأوراق التي أخذها البوليس من منزل الشّهيد حتى عثر على قصيدة أخرى يقول فيها:

يا حماة العرين والأشبال *** أنزلوا بالعدو كل وبال

وانزعوا من يديه حرية الأوطان *** وائتوا لها بالاستقلال

ترجمها الخائن للضابط، فقال إنّه يؤيّد من يدعو إلى الاستقلال والحرية، ويعتبر فرنسا عدوة، فأمر الضابط من الكاتب أن يضيف تهمة إلى الشّهيد وهي التستر على المجرمين والتعاون معهم، حاول الربيع أن يبين أن الثورة الفرنسية التي يعتزّون بها، من شعاراتها الحرية والمساواة هي مجرد أكذوبة ولا تنطبق على الشعوب. واستمر الخائن في تقليب الأوراق حتى عثر على قصيدة أخرى عنوانها «حي في الأبطال...» يمدح فيها الشّهيد عميروش ويفتخر بما فعله ضد فرنسا. وقوله: ذلك اعميروش نداء الحمى.........ومذل الغاصبين الأشقياء، فحبس الشرطي الربيع في زنزانة مظلمة بقي فيها مدة تحت التعذيب، وقبل تقديمه للمحاكمة تمّ تحويل ملفّه إلى قوات الدرك التي حبسته في مزرعة لأحد المعمرين بقرية «الأربعطاش» شرق العاصمة، حيث مورس عليه أقصى أنواع العذاب لمدة تفوق ثلاثة أشهر حتى فقد بصره، وبعد استشهاده أعلنت الشرطة الفرنسية عن وفاته بتاريخ 14 ماي 1959 بضواحي بودواو دون أن تصرح بأنّها هي المرتكبة للجريمة.


جريدة الشعب

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.