الشاعر الشهيد الربيع بوشامة 3 (المضمون الثوري في شعره)
بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
يمكن القول أن الذي ينعم النظر في محتوى المضمون الثوري في نتاج الشاعر يدرك أنه يشتمل على جملة من القصائد تتصل جميعها زمانا وموضوعا بثورة نوفمبر المجيدة : تمجيدا ومباركة لها، حثا على الانضواء تحت لوائها، مواكبة لوقائعها، تصويرا لبطولات أبطالها، ترحما على شهدائها، تنديدا بجرائم المحتلين، تلويحا بألوية النصر ورايات التحرير .
وقد يكون الشاعر قد نظم قصائد أخرى في هذا المضمون ولكنها لم تصلنا وضاعت في جملة ما ضاع من نتاج الشاعر ونتاج غيره من الشعراء والكتاب الجزائريين أثناء الثورة وقبلها ، وعلى امتداد فترة الاحتلال الأجنبي، وذلك بسبب السياسة الظالمة للمحتلين وبسبب قوانينهم الجائرة، وما تقوم عليه هذه وتلك من ظلم واضطهاد وقمع وإرهاب وملاحقات ومتابعات ضد أفراد الشعب الجزائري.
بيد أن المحتلين لم يستطيعوا بمختلف جرائمهم تلك أن يفتوا من عضد الشعب الجزائري أو ينالوا من قوة عزيمته أو يثنوه على مواصلة جهاده من أجل حريته وكرامته، فلم يلبث أن فجر ثورته الكبرى، فكانت الجذوة المقدسة التي قذفها الله في قلوب أبناء الجزائر رجالا ونساء، وقوى بنورها إرادة الجهاد في نفوسهم ، فمضوا يجودون بالمهج ويسخون بالدماء فداء لتحرير الوطن من نير الاحتلال.
وكانت كل روح من أرواح الشهداء الأبرار تسقط في ساحة الشرف ، وكل قطرة من دمهم تهرق على ثرى الوطن بمثابة مزنة غيث تنزل من السماء بإذن ربها فتسقي شجرة الحرية في أرض الجزائر ، وكانت هذه وتلك من نحو آخر، وفي الوقت نفسه، إعصارا يعصف بقلاع الظلم والظالمين .
ويتوجه الشاعر من هذه الروح التي بثتها ثورة نوفمبر المباركة في صدور الجزائريين بالخطاب إلى أبناء شعبه، في شخصية فتى منهم ،حاثا إياهم على المسارعة في تلبية نداء هذه الثورة ورفع رايتها وامتشاق السلاح على دربها وخوض غمار الحرب في ساحاتها ، حاملين على الأعداء حملة الأشاوس الأشداء ، مذيقين إياهم طعم الهزيمة وكأس الردى :
يا فتى الأوطان قـم * فارفع اليوم العلـم
وتقـدم للفــدا * باسلا راسي القـدم
والق أبطال العـدا * ضاحكا علي الشمم
واسقهم كأس الردى * من يد تزجي العـدم (1)
ويمضي الشاعر على هذا الطريق يمكن للثورة في نفوس أبناء شعبه، داعيا إياهم إلى المضي في جهادهم على جبهاتها بعزيمة قوية لا ترهبها الأهوال، وبإرادة راسخة لا تزعزعها العواصف ، مؤكدا في هذا السياق أن ثمرة كفاحهم مهما تكن الحال، إنما هي واحدة من اثنتين: النصر أو الشهادة ، وكلتا هاتين الثمرتين حلوة طيبة.
يخاطب الشاعر بهذه المعاني أحد فتيان الجزائر قائلا :
إنما أنت فـتى * للمعالي والهـمم
وللكفاح الوطني * الأعـز المحتـدم
لا يضرنك جهاد * بـه خـير للقيم
وحـياة حـرة * لإسارى من قدم
أو ممات بعـدها * دار خلد ونـعم
وسعادات سـمت * ورضـاء مستتم(2)
وينتقل الشاعر من دعوته هذه لأخيه الفتى بالتجنيد في صفوف الثورة والجهاد على نهجها إلى دعوة أخته الفتاة بالدعوة نفسها، مؤكدا أن الواجب الوطني يفرض على كل فرد من أبناء الجزائر: فتيانا وفتيات، القيام بفريضة الجهاد، دفاعا عن حرية وطنهم وعزته وأصالته:
حي بنت الكرام (ليلاي) واحمل * لسناها مسـرة الأوراد
واشد في فضلها كل جميـل * وتفنن في وصفها يا شادي
بنت عرب تجردت للمعالي * وغدت للنساء خير عمـاد
أقسمت لن تعيش عيش ضياع * في شقاء وسبة واضطهـاد
ثم راحت تسعى بحزم وجـد * لبناء العـلا ونيل الـمراد
جاهدي في تحرير شعب كريم * مستكين يئن في الأصفـاد (3 )
ثم يتوجه الشاعر بهذه الرسالة النضالية إلى عموم أبناء الشعب الجزائري الذين يرابطون والذين يجب أن يرابطوا في جبهات الجهاد فوق كل شبر من تراب الوطن ، على ذرى الجبال ، وفي دروب التلال ، وفي شعاب الصحاري ، في المدن وفي القرى .. يكتبون هنالك بدمائهم الزكية مشاهد البطولة، ويصنعون بأرواحهم الطاهرة مفاخر الكرامة ، فداء لتحرير الوطن، وتطهيرا لأرضه الطيبة ، واستعادة لاستقلاله وسيادته.. يعبر الشاعر عن بعض هذه المعاني في واحدة من مطولاته، تنوعت فيها المشاهد وتلونت الصور وتعددت القوافي، فكانت من أروع أعماله : صدق مشاعر ، وسمو معان، وجمال تعبير، ورائع تصوير، وعذوبة إيقاع، وشرف مقصد :
ياحماة العرين والأشبـال * أنزلوا بالعدو كـل وبـال
وانزعوا من يديه حـريـة * الأوطان وائتوا لها بالاستقـلال
وأعيدوا لذي الكبود الرطاب * رحمات الصبا وأنس الشباب
وأعيدوا بالحسنى فراغ أهـا * ل تركوهم في حالة الإرهاب
وامسحوا بالعلياء هذي الجراحا * واحبسوا منها الدم الفواحـا
وأقيموا للشعب في كل أرض * مهرجانات العز والأفراحـا
آن للشعب أن يكون عظيـما * ويوفى الحقـوق والتكريمـا
ويرى أعلام الحمى خافقـات * ويلقى– ملء الحياة– نعيما(4)
يأبى الشاعر إلا أن يصدح بما يملأ صدره ويغمر قلبه من نبل العواطف التي تفيض يصادق حبه، وعظيم فخره، وإخلاص تقديره ، لأولئك المجاهدين الأبطال الذين يواجهون العدو في جبهات القتال ويكيلون له الصاع صاعين، ثأرا منه لما يقترفه من جرائم ضد الأهالي الآمنين، وفداء لعزة الشعب، وهؤلاء هم الذين سينجلي ليل الاحتلال بنور تضحياتهم، وستشرق شمس الحرية من زكي دمائهم ذات يوم آت قريب :
من مثلكم يا فتية المجد الذيـن * سخوتم بالغاليات العظـام
وفديتم الشعب المهان بقـوة * ورفعتموه إلى أعز مكـان
وثأرتم لنسـائـه ورجـالـه * من حاكم مستعمر ظـلام
مرحى لكم وبشارة ميمونـة * بالنصر والنجح العظيم السامي
لولا جهادكم العظيم لدام في * دركات الاستعباد ورهن ظلام (5)
وتمضي الثورة في طريقها ، ويمضي رجالها على نهجها يطاردون فلول جيش العدو حيثما وجدوا، ملحقين بهم أقسى الضربات وأنكى الهزائم وأفدح الخسائر ، فيولي هؤلاء الأدبار على وجوههم إلى جحورهم ، فارين من مواجهة أبطال جيش التحرير الوطني ،إلا أنهم لم ينتفعوا بهذه الدروس،فسرعان ما يعودون إلى جرائمهم كعادتهم يثأرون من الأهالي العزل وينتقمون وينكلون، فتتعدد المجازر وتتعاظم التضحيات ويتساقط الشهداء الأبرار بالآلاف، بل بالملايين : نساء ورجالا ، شيبا وشبابا ... فيألم لهول ذلك قلب الشاعر فيمتلأ حزنا، ويضيق صدره فيفيض كمدا، فيبكي إخوانه أبناء شعبه ، فيصور بعض ذلك في جملة من قصائده، مترحما على أرواح شهداء الوطن، عموم شهدائه، وعلى امتداد أرضه. ويوقف اثنتين من قصائده على اثنين منهم، هما :
1 –المجاهد القائد، البطل الشهيد عميروش قائد الولاية الثالثة رحمة الله عليه ، وقد جمعت بينه وبين الشاعر صلة جهاد ومودة أيام الكفاح السياسي في أوائل الخمسينات حيث كان الاثنان في فرنسا في إطار ما تقوم به جمعية العلماء من نشاط هنالك ، ثم ازدادت هذه الصلة بينها توطيدا وإحكاما أيام الثورة وعلى دروبها. يترحم الشاعر في قصيدته (حي في الأبطال ...) على جميع شهداء الوطن، ثم يخص القائد عميروش ببعض الأبيات يقول فيها :
حي في الأبطال فتيان الفداء * واخصص (اعميروش) منهم بالثناء
بطل الثورة يبلـي أبــدا * في جهاد المعتدي خير البــلاء
ويرد الصاع صـاعيـن له * بقتـال مستميـت ودهــاء
ويسـاقيه بأيــد حـرة * كل جام متـرع فيـه الفـناء
ويقود الجيش في سبل العـلا * من فخار لفخـار وسنــاء
ذلك اعميروش فداء الحـمى * ومذل الغاصبـين الأشقـياء(6)
2 -الشهيد المربي عبد الملك فضلاء -رحمة الله عليه – الذي كان رفيق درب الشاعر في الإصلاح والوطنية، في التربية والتعليم في عهد النهضة، عهد الجهاد الوطني من أجل الاستقلال الشخصي الذي هو المقدمة الأساسية للاستقلال السياسي ، فكان الشاعر وعبد الملك جنديين من جنود الحركة الوطنية الحضارية . يصور الشاعر هذه الصلة بينه وبين الشهيد بفيض من صدق العواطف ونبل المشاعر وخالص الدعاء بسحائب من الغفران ووابل من الرحمات ، يعبر الشاعر عن بعض هذه المعاني في قصيدته (إلى الله أخي ) التي يترحم فيها على عموم شهداء الوطن ويعدد مناقبهم ويصور ما يلقون عند ربهم من جزيل الثواب وواسع المغفرة ، ثم يخص رفيق دربه الشهيد عبد الملك ببعض الأبيات، يقول فيها :
إلى الله أخـي عبد الملــك * في الدم الحـر شهيد المعترك
والتحق بالصحب من أهل الفدى * والشهادات كريم المسـلك
وعلى ثغـرك تكـبير السـمـا * ودعاء المستجير المنـتهـك
من هدي القرآن والعلـم الذي * قد لقيت فيه اليوم مصرعك
واسكن الجنات حيث المصطفى * والكرام الغر أنضاء النسك (7)
وتتوالى السنون مليئة بالمظالم والتضحيات، ويزيد المحتلون من عمليات تضييقهم الخناق على الشعب الجزائري وعلى ثورته، وتزداد جرائمهم ضده : إرهابا وقمعا، تعذيبا وتشريدا، محتشدات ومعتقلات.. في محاولة منهم أن يخمدوا شعلة الثورة ويوقفوا زحفها، وعبثا ما هم يحاولون.
يريدون أن يطفؤوا نور الله بمظالمهم وجرائمهم، والله متم نوره ولو كره الغاصبون. لقد صبر الشعب الجزائري وصمد أمام كل ما زرعه المستدمرون في طريقه من مكائد، واقترفوه من جرائم ، فأحبط بذلك كل ما حاكه أولئك المعتدون ضده من مخططات وكل ما دبروه من مؤامرات، واستمر في طريقه يغذي ثورته بالدماء ويمدها بالأرواح، وتملأ صدره بانتصاره فيها ثقته بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر، وظل يهزج بهذا الإيمان، رافعا بذلك معنويات الشعب، وملوحا بتباشير الصبح، ويتوجه بهذه المعاني إلى أخيه المجاهد قائلا :
وكأني بالنصر قد جاء معقود * اللوا في سلاحـك الذواد
هاهنا وهنـاك أبراج نـور * وأفانـين زيـنة ووداد
حيثما سرت مهرجان يحي * وسرور يحي ويمن ينـادي
ودعاء من كل روح وثغـر * للضحايا من أهل الاستشهاد
حول تذكارهم نحي جميـعا * علم النصر في سماء البـلاد
ونعلي في روعـة وجـلال * شعلة المجد من ضرام الجهاد
دمت للدين والعروبة ذخـرا * في حمى الله يا أعز مفادي(8)
وقد تحققت-بعون الله- أماني الشاعر الشهيد، فقطف الشعب المجاهد ثمار جهاده ، واستعاد حريته واستقلاله ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز (الحج:40)
الخلاصة :
نخلص إلى القول أن النقاش تركز في هذه الدراسة على جانب المضمون في شعر الشاعر ، دون العناية بالناحية الفنية فيه ، ويرجع ذلك إلى أن المقام لا يتسع صدره إلى معالجة هذين الجانبين في وقت واحد، كما أن الغاية من هذا العمل كانت تستهدف معرفة إسهامات الشاعر المجاهد الشهيد في مجالات الحياة الوطنية، والوقوف على مدى قدرته على النهوض بالرسالة الواقعية النضالية والوفاء لها.
وتحسن الإشارة في هذا المجال إلى أن الشاعر استطاع أن يحقق ذاته في ميدان النهوض بقضايا الواقع الوطني من رؤية حديثة مندمجة فيما يضطرب به الحاضر من وقائع وأحداث. ومن بين ما ساعده على ذلك أن عملية التجديد في الشعر العربي الحديث كانت أمام الشعراء في جانب المضمون أيسر منها في صورة التعبير، وذلك ليسر عملية الاحتكاك والإفادة من التجارب الوافدة في الوجه الأول (الأحاسيس والأفكار ) أكثر منها في الوجه الثاني (الصياغة والأسلوب).
ومن منطلق هذه الحقيقة فإن ما يمكن قوله في الصنعة الفنية للشاعر أنه كان في هذه الناحية كشعراء جيله في عصره ، يعنى بمعالجة قضايا الواقع بقيم فنية يغلب عليها اليسر والسهولة والوضوح ومن ثم كانت صنعته الفنية تقوم على صحة اللغة وسلامتها، وفصاحة اللفظة وبلاغتها، ومتانة العبارة وسهولتها، وقرب الصورة ووضوحها ، مركزا عنايته في هذه الصنعة على المزاوجة بين القيم التبليغية التوصيلية وبين القيم الفنية الجمالية، ويمكن أن تكون عنايته بالقيم الأولى أكثر من عنايته بالقيم الثانية ، وذلك مراعاة لمقومات الرسالة الواقعية النضالية، ولمقتضى الحال (الرسالة ، المرسل إليه ، الغاية المتوخاة ..)
ويعثر المرء في هذا المضمار على قول للدكتور محمد ناصر يتصل بجانب من صنعة الشاعر، يقول فيه: ّ إن الشّاعر كان ينزع في فنِّه منزع المهجريين وجماعة أبولو . (5)
ومما يمكن قوله في هذا الصدد أن الشاعر قد يكون بحكم المعاصرة قد قرأ للمهجريين وغيرهم من شعراء العربية في العصر الحديث، وتأثر ببعضهم في الجانب الوجداني من شعره ، بيد أنه يستبعد أن يكون هذا التأثر قد تجاوز هذا الجانب الموضوعي الشعوري من نتاج الشاعر إلى درجة النسج على منوال أولئك الشعراء في عمله الفني وفي صنعته الأسلوبية : تعبيرا وتصويرا، وذلك لما بينه، وبين هؤلاء من وجوه الافتراق في مؤثرات البيئة، وملابسات المحيط، وظروف المجتمع، ونوعية الثقافة، وطبيعة الأهداف المتوخاة.
ونخلص إلى القول بعد، أن المتلقي يمكنه- من خلال ما تقدم في هذا العمل من أضواء عن حياة الشاعر ، ومن نصوص شعره، وما جاء فيها من معان ومشاعر، وسمات وأساليب – يمكن لهذا المتلقي أن يلمس بعض الملامح من شخصية الشاعر وثقافته وجهاده، بصفته داعية مصلحا، ومعلما مربيا، وشاعرا وطنيا، قضى حياته مجاهدا من أجل قضية وطنه، فسقط شهيدا على أرضه، فداء لحريته واستقلاله .. ورحم الله الشهداء.
الهوامش:
1 – 2- 3- 4-5-6-7 ديوانه ص: 83، 89، 201، 226 ، 187 ، 125، 222 .
8 -ينظر (الشعر الـجزائري الحديث اتجاهاته وخصائـصه الفنية (رسالة دكتوراه-مخطوطة جامعة الجزائر 1983م الملحق ص: 09)