العلامة عبد الحميد بن باديس
بقلم: د.سعيد بويزري-
تعرض الإسلام في أرضه الجزائر لأعتى قوة استدمارية وكان هدفها الأول هو اقتلاع جذور هذا الدين الحنيف من أرض الجزائر وسخرت لهذا الهدف شتى الوسائل دون كلل ولا ملل متيقنة أنها ستصل إلى هدفها، مهما طال الزمن لا تهمها في ذلك الخسائر المادية ولا البشرية. يقول في هذا الصدد سكرتير الجنرال بيجو حاكم الجزائر بعد احتلالها.
"إن أيام الإسلام قد دنت وفي خلال 20 عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا فلا يمكننا أن نشك بأي حال من الأحوال أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد"، وكاد أن يكون لها ذلك لو لا أن الله تعالى قيض لهذه الأمة علماء مصلحين وقفوا في وجه هذا السيل العارم الذي عزم على مسخ الشخصية الإسلامية بكل أبعادها، من بين هؤلاء، الإمام عبد الحميد بن باديس الذي لم يستسلم لهذه المخططات رغم إحكامها وجاهد بعلمه وفكره الفذ لتحرير أمته من براثن الاستدمار،فكان معلما مربيا وفقيها ومفسرا ومفكرا، و من بين ما قال: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها وفي أخلاقها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج...."
أولا: المولد والنشأة:
ولد عبد الحميد ابن محمد بن باديس الصنهاجي عام 1308 هـ /1889 م بمدينة قسنطينة و هو الولد البكر لوالديه من أسرة جزائرية معروفة بالعلم و الثراء، كان والده من حفظة القران الكريم اشتغل قاضيا وعضوا في المجلس الجزائري الأعلى و المجلس العمالي لعمالة قسنطينة، كان محافظا يحب العلم والعلماء، أما والدته فهي السيدة الفاضلة زهيرة بنت علي بن جلول من أسرة معروفة بالعلم و الجاه أيضا.
لقد عمل والد ابن باديس على تلقين ابنه التربية والعلوم الإسلامية وأبى أن يدخله إلى المدرسة الفرنسية كما كانت تفعل أغلب العائلات الفرنسة آنذاك ، فبدأ حياته العلمية في الكتاب حيث حفظ القرآن و هو ابن ثلاث عشر سنة على يد الشيخ محمد المداسي. ثم تتلمذ وتلقى مبادئ العلوم العربية والإسلامية على يد مشايخ أبرزهم الشيخ " أحمد أبو حمدان الونيسي " منذ 1903م فكان من أوائل الشيوخ الذين كان لهم الأثر الطيب في توجيه ابن باديس الديني والتحرري، من وصاياه النادرة له أن يجعل من علمه جسرا لنيل وظيفة لدى الإدارة الفرنسية في الجزائر، يقول ابن باديس في هذا الصدد:" فقد أوصاني وشدد علي أن لا أقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حيت ولا أتخذ علمي مطية لها كما كان يفعل أمثالي في ذلك الوقت".
ثانيا: الهجرة من أجل طلب العلم:
في سنة 1908 غادر الإمام ابن باديس الوطن من أجل استكمال مسار العلمي فتحقق له ذلك بحصوله على شهادة العالمية من جامع الزيتونة سنة 1911م ، وفي هذه الأثناء كانت له لقاءات مع نخبة من العلماء الذين أخذ عنهم مختلف أنواع العلوم التي ستفتح له أبواب الإصلاح بعد العودة إلى أرض الوطن،من بين هؤلاء:الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي القيرواني والعلامة الخضر بن الحسين…، فهؤلاء جميعا كان لهم الأثر البليغ في تكوينه الشخصي والعلمي.
ثالثا: العودة إلى الوطن ومنع النشاط منذ بدايته:
أنهى ابن باديس تعليمه، وفي سنة 1913 قرر العودة إلى الوطن من أجل خدمة وطنه ودينه، فباشر بالتعليم في الجامع الكبير بقسنطينة ولكن سرعان ما تدخلت السلطات الاستعمارية لمنع هذا النشاط لأنها أدركت خطورة هذا الشاب بما يحمله من أفكار من شأنها أن تفتح أبصار هذا الشعب الذي أعمته ظلمات الظلم والجهل الذي عملت هذه الأخيرة على نشره بمساعدة عملائها الذين يتسترون وراء الدين ليحموا المصالح الاستعمارية في الجزائر، حينها أدرك أن مهمته ليست سهلة فقرر الرحيل من جديد لكي يبحث عمن يساعده في مهمته الإصلاحية، فكانت وجهته الحجاز حيث التقى ثلة من العلماء وتعرف على تجاربهم في مواجه الاستعمار أمثال محمد عبد وجمال الدين الأفغاني، كما كانت له لقاءات يومية مع الطيب العقبي والبشير الإبراهيمي الذين أسسا معه جمعية العلماء فيما بعد. كما التقى أستاذه الشيخ الونيسي الذي طلب منه العودة إلى الجزائر لخدمة دينه الذي يهدده الاستدمار الفرنسي.
رابعا: الشروع في تنفيذ مشروع الإصلاح
عاد ابن باديس إلى الجزائر بعد مروره من مختلف البلدان الإسلامية، مصر، سوريا، لبنان أين التقى بالكثير من العلماء فاستزاد منهم علما، وتذاكر معهم في شؤون الإسلام والمسلمين، عاد وفي ذهنه مشروع كبير لن يتحقق إلى بالجهاد واستعمال الطرق والوسائل المختلفة مواجها بها الإدارة الاستعمارية التي يدرك جيدا أنها لن تستقبله بالأحضان فشرع في تنفيذ مشروعه بطرق عديدة وهي:
1.محاربة التجهيل
اهتم ابن باديس بالعمل التربوي التعليمي الذي يعتبر أساس العمل الإصلاحي ومدخلا لكل تغيير اجتماعي فكرَّس له 27 سنة من حياته متطوعا، عمل على محاربة الخرافة والشعوذة عن طريق تثقيف الناس بكل فئاتهم بغض النظر عن سنهم وجنسهم ومكانتهم الاجتماعية وكان يدعوا إلى تثقيف المرأة خاصة لأنها أساس المجتمع، كما عمل على تجنيد العلماء للمساهمة معه في هذا النشاط، وانهج في ذلك إستراتيجية محكمة مبنية على شقين وهما:
أولا: التعليم المسجدي: كان موجها لثلاث فئات:
- فئة الطلبة المتفرغين لطلب العلم الذين كون منهم طلائع النهضة ليحملوا معه لواء التعليم وتأطير المدارس.
- عامة المواطنين الجزائريين الراغبين في دروس التثقيف العام التي تزيدهم وعيا وتكسبهم معرفة وتثقف عقولهم، وتتكون هذه الفئة من جمهور الر جال الذين يتلقون دروس الوعظ والإرشاد كل ليلة، ومن النساء اللواتي يتلقين الدروس الخاصة بهن أسبوعيا (الجمعة بعد العصر).
- فئة الشباب الذي رأى أنهم بحاجة إلى توعية وتكوين عام فخصص لهم بوم العطلة الأسبوعية بعضهم في الصباح وبعضهم في المساء، يقدم لهم فيها دروسا عامة تتناول المسائل اللغوية والتاريخية والدينية، ويحاورهم في قضايا وطنية واجتماعية وسياسية.
ثانيا: التعليم المدرسي: بعد قطع التعليم المسجدي أشواطا مهمة، انتقل إلى مرحلة أخرى وهي فتح المدارس الخاصة يتم فيها تعليم الصغار الذين لم تُتح لهم فرصة التعليم، وكذلك المنتسبين للمدارس الفرنسية وذلك من أجل تربية الأبناء والبنات تربية عربية إسلامية وبناء شخصياتهم بناء سليما.
لقيت هذه الخطوة قبولا من طرف أبناء الوطن المخلصين فهبوا إلى إنشاء مدارس خاصة تهتم بتدريس الراغبين في تلقي العلم بلغتهم وغير خاضعين للإدارة الاستعمارية.
2. الإمام ابن باديس وتعليم المرأة:
كان الإمام ابن باديس من الأوائل الذين نادوا إلى تعليم المرأة، باعتبارها الركن الأساس الذي يقوم عليه بناء الأسرة والمجتمع، لأن العلم هو السبيل الذي يجعل المرأة قادرة على بعث الحياة في مجتمعها ومساهمة في رقيه، فراح يقنع المعارضين بضرورة نيل المرأة نصيبها من العلم والتربية وإعدادها إعدادا فكريا وعلميا يخول لها أداء وظيفتها في المجتمع مثبتا أن ليس هناك أي نص شرعي يمنع تعليمها، بل أثبت أن حرمانها من هذا الحق ظلم كبير لها وللأمة.
كما رد على دعاة تحرير المرأة من تعاليم دينها ومجتمعها بدعوى أنها السبب في تخلفها بقوله: " إذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات قرطبة وبنات بجاية مكانة عالية في العلم وهن متحجبات". (الشهاب، ج:10، م: 05، نوفمبر 1929م).
3. التجول في القطر الجزائري:
لم يكتف ابن باديس من نشر العلم بقسنطينة، بل كان بقوم في أيام الراحة الأسبوعية بجولات في سائر القطر الجزائري ويلقي الدروس في المساجد والزوايا، معلنا عن نشاطه التربوي والدروس العلمية التي يقدمها للطلبة داعيا الذين يهمهم الأمر للالتحاق بها، من أجل أن تعم الفائدة في كل أرجاء الوطن، هذا البعد الوطني الذي يحمله مشروع الشيخ ابن باديس الإصلاحي النهضوي.
4. الصحافة
أدرك الإمام أهمية الصحافة باعتبارها من أهم الوسائل التي تساعد على نشر أفكاره في أوساط الشعب الجزائري، فاتخذها سلاحا آخرا في معركته النضالية التي صمم على خوضها بكل الوسائل لمحاربة الأوضاع الفاسدة، فكانت أول مساهمة إعلامية له في جريدة النجاح سنة 1919 م، وفي سنة 1925 أسس جريدة "المنتقد" التي كانت منبرا للأفكار الإصلاحية حيث كان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن فوق كل شيء"، بعدما أوقفتها السلطة الاستعمارية بسبب لهجتها الحادة في انتقاد الأوضاع السائدة، أسس الشيخ جريد "الشهاب" سنة 1929 م انتهج الشيخ فيها الأسلوب المرن في إيصال أفكاره، كي لا يلفت أنظار الإدارة الاستعمارية مما جعل هذه الجريدة أطول عمرا من سابقتها، كما كانت له إسهامات في جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كالبصائر والشريعة.
5. تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
في عام 1931 م أسس الإمام ابن باديس مع رفقائه في الجهاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بهدف لم شمل علماء الأمة وتكثيف جهودهم لتحقيق الإصلاح المنشود وفق أهداف محددة وخطة محكمة، وتزامن تأسي الجمعية متزامنا مع الذكرى المائة من الوجود الفرنسي في الجزائر، مؤكدة أن الجزائري رافض لهذا الوجود الغاصب في أرضه وسيخرجه منها مهما طال الزمن.
كان للجمعية دورا عظيما في مقاومة مشاريع المستدمر في مسخ الشخصية الجزائرية بكل أبعادها، فكان هدفها مقاومة كل أنواع البدع والضلالات الدينية التي استغلها الاستعمار الفرنسي لبلوغ مرامه.
رغم المراقبة النسيقة التي فرضها المستدمر على الجمعية من أجل التتضييق عليها إلا أنها نجحت في توحيد الصفوف لمحاربة الاستعمار وحشد الأمة الجزائرية ضده وبعث الروح الإسلامية في النفوس ونشر العلم في أوساط الشعب من أجل تبصيرهم بخطورة هذا الكيان في قلب الأمة فكان لها الفضل في إعادة إنشاء جيل جهادي ناشئ على أسس تربوية سليمة وركائز عقائدية راسخة، هذا الجيل الذي رفع السلاح وحارب حتى جاء نصر الله.
خامسا: من آثار ابن باديس:
لم يؤلف الإمام ابن باديس في حياته أي كتاب لأن اهتمامه كان منصبا على تكوين الرجال الذين سيحملون أمانة تحرير الوطن من بعده،ومن آثاره التي تولى تلاميذه جمعها بعد وفاته: تفسيره القرآن الكريم، وشرحه الحديث الشريف ودروسه في العقيدة، وقد جمع الدكتور عمار الطالبي جزءا كبيرا من آثاره ونشرها في أربع أجزاء، هذه الآثار التي أحيى بها العلامة ابن باديس الأمة الجزائرية في ظروف صعبة، وفجر رغبة الجهاد في نفوس الجزائريين وزرع بذور ثورة التحرير، حيث كان الفقيه، العالم والمعلم الذي يلقن العلوم الدينية واللغوية، والمربي الذي يقوم سلوك طلبته، والسياسي الذي يدعو إلى رفع القيود عن وطنه، فحقق نهضة بحق.
وفاته:
في يوم 08 ربيع الأول 1359 الموافق لـ16 أفريل 1940 م هـ توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس بعد مسيرة حافلة بالعطاء والجهاد في سبيل الله تاركا نهجا سار عليه تلاميذه لتحرير الوطن.
المراجع المستعملة:
1. إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس، الدكتور عبد القادر فضيل والأستاذ محمد الصالح رمضان، دار الأمة للطباعة والترجمة والنشر والتوزيع. ط 1.
2. 16 أفريل... يوم العلم، تذكير بحياة الإمام عبد الحميد بن باديس، إعداد داد خيرة
3. عبد الحميد بن باديس رائد النهضة، رابح لونيسي، دار المعرفة.