في ذكرى الإمام الطيب العقبي رحمه الله
بقلم: كمال أبو سنة-
من عجائب قدرة الله في تاريخ الجزائر أنْ جمع في أشد مرحلة زمنية عاشتها الجزائر "المستعمرة" من طرف أقذر "استعمار" على وجه الأرض جماعة من صفوة علماء الجزائر توحدت في سبيل الله على نصرة الإسلام والعربية والوطن! ولعل علماء الجزائر هم أول من سنَّ سنة اجتماع علماء في هيئة جامعة في العالم الإسلامي كله، لها أهدافها الظاهرة المعلنة والمتمثلة في النهوض بالشعب الجزائري تعليما وتربية، وأهداف خفية مستترة والمتمثلة في تهيئة جيل الثورة والجهاد لمحاربة فرنسا وحملها على الخروج من الجزائر كما دخلتها أول مرة بالنار والحديد.
لقد أدى علماء الجزائر واجبهم كاملا غير منقوص في خدمة الجزائر رغم شدة البلاء وصعوبة الظرف، ومن حقهم علينا أن نَذْكُرهم بخير وننفض الغبار عن تاريخهم ومآثرهم وآثارهم لتتعرف عليهم الأجيال اللاحقة ولا نغمط أحدا منهم حقه، ونعذرهم فيما أدّاهم إليه اجتهادهم فجانبوا الصواب بسبب طبيعتهم الإنسانية إذ لا عصمة لأحد إلا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
لقد كان الإمام العلامة الشيخ الطيب العقبي-رحمه الله- واحدا من كبار علماء الأمة ومصلحيها الذين ساهموا في النهضة العلمية الإصلاحية"السلفية" في الجزائر، وناضلوا باللسان والقلم من أجل الارتقاء بالوعي الجمعي لدى الشعب الجزائري ليصل إلى مرحلة اكتشاف الذات وتمييز الواقع المعيش الذي حاول الاستعمار الفرنسي وأذنابه أن يصوره بصورة القدر الإلهي الذي لا مفر.
إن المرء المنصف الذي لا يتخذ من هواه إلها وحَكَما يدرك جيدا من خلال قراءة متأنية لتاريخ الشيخ العقبي -رحمه الله- وتراثه الذي خلفه من بعده أنه ليس من الصنف الذي يبيع دينه من أجل دنيا فانية وهو الذي عَرَضت عليه فرنسا أرفع منصب ديني في ذلك الوقت وهو مفتي الجزائر فأدار له ظهره، ولو أراد لأكل من فوقه ومن تحته وما مسه من لغوب، ولكنه رفض عبادة فرنسا مع العابدين، فكان لسان حاله يقول ما قاله أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-:}... أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{[الشعراء: 75-82].
لقد كان اختلاف الإمام العقبي مع الإمام ابن باديس –رحمهما الله-حول قضية "برقية التأييد لفرنسا ضد ألمانيا" من منطلق اجتهادي ليس إلا، لابد من وضعه في إطاره الزماني دون تجريم للنيات، ولا يعني ذلك أنه تخاذل أو ضعف أو جَبُن حين رأى رأيا يُخالف رأي غيره في هذه القضية ثم استقالته من المجلس الإداري وبقاؤه عضوا عاملا في الجمعية مما يؤكد أن الخلاف كان إداريا سياسيا وليس فكريا عقائديا، وليس كل ما يُروى هو الحق المحض!
والحق أن هذه القضية التي أخذت حجما أكبر مما تستحق لا تنقص من قدر الإمام العقبي -رحمه الله- ولا من جهاده الإصلاحي الطويل، ولا من أجره عند الله إن تقبله بقبول حسن، وصدق أمير شعراء الجزائر محمد العيد آل خليفة حين تطرق إلى الخلاف الذي حدث بين الإمامين ابن باديس والعقبي فقال منصفا:
خصمان فيما يفيد الأمة اختصما إياك أن تنقص الخصمين إياك
كـلاهما في سبيـل الله مجتهـد فلا تـلومن لا هذا ولا ذاك
إن الذين يحاولون إعطاء البطولة المطلقة للإمام العظيم الشيخ عبد الحميد بن باديس-رحمه الله- مخطئون، لأن الإمام الرئيس نفسه -وهذا من إنصافه- اعترف في خطبته يوم ختمه لتفسير القرآن أنه ما كان ليصل إلى ما وصل إليه من توفيق لولا مساندة إخوانه العلماء وتعاونهم معه على النهوض بالشعب الجزائري تعليما وتربية وإصلاحا.
رحم الله الإمامين رحمة واسعة وجعل الجنة مثواهما مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.