ابن باديس- القضيّة – الإعلام -1
بقلم: عبد الملك مرتاض-
(في مثل هذا اليوم الخامس من ماي قبل نحو 80 عاما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكانت خيرا وبركة على هذا الوطن الجزائري، وسائر الأوطان العربية وغير العربية، القريبة والبعيدة…في هذه المناسبة الخاصة يحسُن أن نتعرف على بعض جوانب الكفاح لدى تلك الثلة الطيبة من قادة الرأي والفكر والثقافة والعلم …هنا دراسة علمية للأستاذ الدكتور عبد الملك مرتاض ننشرها على حلقتين ، بالتعاون مع موقع “عبدا لحميد بن باديس…” …آملين أن يكون في ذلك ما يفيد الدارسين والدارسات لشؤون النهضة ، ويعينهم على فهم قوانين التغيير وأصول العمل التغييري الحقيقي)..
في عنوان هذه الدّراسة ثلاثةُ عناصرَ دالّةٍ نحاول تحليلها، والبحثَ في مكوّناتها: ابنُ باديس، والقضيّةُ، والإعلام. غير أنّ القضيّة، كما وردت في العنوان، توشك أن تندمج في شخصيّة ابن باديس. فهي، إذن، هو؛ وهو، إذن، إيّاها. من أجل ذلك نقسّم هذه الدّراسة، من الوجهة الإجرائيّة، إلى قسمين فقط: ابنِ باديس والقضيّة، ثم الإعلام.
ولَمّا كان موضوع العلم مرتبطاً لدى ابن باديس، وجمعيّة العلماء، بالتّعليم أساساً؛ ولَمّا كان موضوع التّعليم في مدرس جمعيّة العلماء، ولدى الشّيخ أيضا، استهلك دراسة وبحثاً؛ فقد ارتأينا أن نتناول ما له صلة بالعلم؛ وهو الإعلام الذي يبشّر بهذا العلم الذي اتّخذ منه ابن باديس همّه الأوّل إلى أن وافته المنيّة.
أوّلا: ابن باديس والقضيّة:
من هو ابن باديس؟ إن هذا السّؤال على ما فيه من سذاجة عظيم الأهمّيّة؛ لأنّنا كثيراً ما نتوهّم أنّنا نعرف رجالاً لعظمتهم ولملئهم حيزاً صالحاً من نفوسنا؛ على حين أنّنا، في وقع الأمر، لا نعرف عنهم إلاّ قليلاً من كثير.
غير أنّ محاولة الحديث عن عظماء الرّجال المعروفين لدى النّاس، مع ذلك، كثيراً ما يُفضي إمّا إلى تَكرار ما قيل، وإمّا إلى الارتباك في تجاوز تكرار ما قيل… وهل تعرّف الشّمس في وهج النّهار؟ أم هل تعرَّف اللّيلة العفْراءُ إذا تلألأ قمرها؟ أم هل تعرّف الوردة إذا انتشر عطرُها؟ أم هل تعرَّفُ الجَوادي إذا هَمَى غيثُها، وهتن قَطرُها، فأروى رُبَى البلاد، وأسعد نفوس العباد؟
ومع ذلك فلا بدّ من ابتذال شيء من القول ممّا قيل، ويقال، فنقول: هو عبد الحميد بن باديس (1889-1940). هو العالم المصلح، والمربّي الوطنيّ، والمجتهد المفكّر، والصّحفيّ المناضل. هو صاحب المشروع الإسلاميّ المستنير المعتدل الذي كان يسعى به إلى ترقيَة المسلم الجزائريّ عن طريق العلم والتّعليم. هو المعلّم الأوّل في الجزائر؛ فقد نذر حياتَه لتعليم العلم في الجامع الأخضر ولم ينقطع عن ذلك إلى أن توفّاه اللّه وهو لا يزال في بداية سنّ الكهولة. وهو المفسّر الأوّل في الجزائر، في القرن العشرين على الأقلّ حيث استطاع أن يفسّر القرآنَ العظيمَ إلى أن ختمه بقسنطينة في مشهد مهيب. وهو أوّل من درَس في الجزائر موطّأ مالك بن أنس، (في حدود ما بلغناه، على الأقلّ، من العلم) وختَمه بعد أن ظلّ يدرس هذا الأثر الشّريف طوال بضع عشرةَ سنةً؛ وكان الاحتفال بختْمه في فاتح يونيو 19391. وهو رئيس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين التي اضطلعت بالإصلاح الدّينيّ، ونشْر العلم باللّغة العربيّة حيث كانت جميع العلوم العصريّة تدرَّس باللّغة العربيّة في مدارسها، وفي معهد ابن باديس بقسنطينة: من رياضيّات، وعلوم، وجغرافيا.
هو، كما يقول الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي فيه: »عظيم في علمه، عظيم في أعماله، عظيم في بيانه وقوّة حجّته، عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل، عظيم في مواقفه من المألوف الذي صيّره السّكوت ديناً، ومن الْمَخُوف الذي صيّره الخضوع إلهاً، عظيم في بنائه وهدْمه، عظيم في حربه وفي سَلْمه (…). وإذا كان من خوارق العادات في العظماء أنّهم يبنون من الضّعف قوّة، ويُخرجون من العدم وجوداً، ويُنشئون من الموت حياة: فكلّ ذلك فعل عبد الحميد بن باديس من الأمّة الجزائريّة«2
ولقد ظلّ ابن باديس يحلم بإنشاء كلّيّة للتّعليم العالي في الجزائر باللّغة العربيّة3. كما وضع ابن باديس مشروعاً إصلاحيّاً وطنيّاً ظلّ يبشّر به في محاضراته العلميّة، ومقالاته الصّحفيّة، وحتّى في كتاباته الشّعريّة القليلة أيضاً. وربما تكون قصيدتُه الشّهيرةُ التي تُعدّ اليوم أكثر القصائد محفوظيّةً في الجزائر، من أحسن ما قد يمثـِّل فلسفتَه الإصلاحيّة، ورؤيته الوطنيّة، ونظرتَه إلى القضايا الكبرى في الجزائر بوجه عامّ. ولذلك ارتأينا أن نختار من هذه القصيدة/الأنشودة أبياتاً ثمّ نحاول تحليلها؛ لأنّنا نعتقد أنّها تمثـّل حقّاً رؤيته إلى الأشياء، ونظرته إلى القيم؛ ولا سيّما أنّها قيلت ثلاثَ سنواتٍ ونصفٍ4 فقط قبل أن يتوفّاه اللّه. ونختار منها قوله:
1.شعبُ الجزائر مسلمٌ وإلى العُروبة ينتسِــــبْ
2.مَن قال: حاد عن أصله أو قال: مات؛فقد كـذَبْ
3.من رام إدماجــــاً لــــه رام المحالَ من الطّلــبْ
4.يا نشْءُ أنت رجـــــاؤُنا وبك الصّباح قد اقـــترب
5.خــــذْ للحياة سلاحَها وخُضِ الخُطوب ولا تهَبْ
6.فإذا هلكتُ فصيحتي: تحيَى الجزائرُ والـــعَرب
ذلك، وإنّ القيم الوطنيّة والدّينيّة والنّضاليّة تتشابك وتتخامر، في هذه القصيدة، إمّا متشاكلةً، وإمّا متقابلة، وذلك على سبيل التّزاوج والتّلازم فيما بينها. وعلى أنّ هذا التّزاوج كثيراً ما ينشطر إلى قيم أخرى داخل الثنائيّات، فيكون لمعانيها أوضح، ولعُمقها أبعد.
1.شعبُ الجزائر مسلمٌ وإلى العروبة ينتسبْ
يقوم هذا البيت العجيب على ثنائيّة متلازمة، وقد وردت كلّها في سياق التّشاكل. فنجد ثنائيّة الشّعب الجزائريّ المسلم، والانتماء إلى العروبة. وهاتان قيمتان متشاكلتان متلازمتان. ذلك بأنّ الدّلالات الكامنة في الشّعب الجزائريّ المسلم لا تتعارض ولا تتباين مع انتسابه إلى العروبة؛ من أجل ذلك يمكن أن تُقرأ هذه الثنائيّة في إطار التّشاكل المتلازم. ونلاحظ أنّ العنصر الأوّل من الثنائيّة ينهض على ثلاثِ قيم تندمج فتشكّل كتلةً واحدة من القيم: الشّعب الذي يمثـّل قيمة بشريّة، والجزائر التي تمثل قيمة تاريخيّة وحضاريّة وجغرافيّة، والمسلم الذي يمثل قيمة عَقَدِيّةً. غير أنّ تينِكَ القيمتين لا تمتنعان من الوقوع تحت دائرة الانشطار، فتنشطر إلى أربعِ قيم هي:
الشّعب من حيث هو مجموعة بشريّة؛
الجزائر من حيث هي وطن وجغرافيا؛
الإسلام من حيث هــــو دين وعقيدة؛
العروبة من حيث هي انتماء قوميّ وحضاريّ.
فهذا البيت من أبلغ الأبيات في الشّعر العربيّ على وجه الإطلاق، كما رأينا من خلال مشمولاته الدّلاليّة؛ أرأيت أنّنا نلفي عدداً قليلاً من الألفاظ لا يجاوز ستّةً، مُوقَراً بالعدد الكثير من القيم والأفكار؛ بحيث يستقلّ كلّ لفظ بحمولة دلاليّة قائمة بذاتها ما عدا لفظ »وإلى« الذي بحكم حرفيّته لا يرقى إلى مستوى اللّفظ المستقلّ بنفسه عن غيره. وعلى أنّ هذه القيمَ لسْنَ مجرّد دلالاتٍ عابرة، ولا معانٍ عارضة؛ ولكنّهنّ قيمٌ شريفة عظيمة، وقائمة ثابتة؟ وإلاّ فما القِيمُ التي يجوز لها أن تعلُوَ على قيمة الشّعب الجزائريّ، بوطنه الجزائرِ، ودينِه الإسلاميّ، وانتمائه العُرُوبيّ؟
وفي البيت توصيف للشّعب يقضي بإبعاد كلّ صفة أخراةٍ ما عدا ما ذُكِرَ. وفيه تقديمٌ يتسارع بالذهن إلى تجسيد انتماء الشّعب الجزائريّ؛ وذلك بتسبيق موضوع الانتماء (العروبة) على الانتماء نفسه.
2.من قال: حاد عن أصله أو قال: مات، فقد كذب !
لم يزل الشّعب الجزائريّ، منذ الأعصار الموغلة في القِدم، يتعرّض للمُغرِيات التي تحاول إزاحته عن أرومته، والحيدودة به عن أصله الأمازيغيّ العربيّ؛ فلقد توالت المحاولاتُ تلو المحاولات، عبر فترات من الزّمن طويلة، من أجل رَوْمَنَتِه، أو وَنْدَلَتِه، أو أسْبَنَتِه، أو أتْرَكَتِه، أو فرْنَسَتِه… ولكنّ هذا الشّعب العظيم ظلّ صامداً قائماً، متمسّكاً بأصله، عاضّاً بالنّواجذ على دينه. وكان ابن باديس يومئ في هذا البيت إلى ما كان يثار في الأعوام الثلاثين من القرن العشرين، في الخطاب السّياسيّ الفرنسيّ الاستعماريّ، من كلام حول ضرورة إدماج الشّعب الجزائريّ في الكيان الفرنسيّ إدماجاً كاملاً. ولابن باديس حول هذه القضيّة أبيات شعريّة، سينيّة، أخرى تتحدّث عن هذه القضيّة الخطيرة التي كان يراد منها مسخُ الشّعب الجزائريّ وتذويبُ كيانه العربيّ الإسلاميّ الأمازيغيّ نهائيّاً…
ويقوم هذا البيت أيضاً على معالجة ثنائيّة سياسيّة وحضاريّة تمثل في:
1.نفْي حيدودة الشّعب الجزائريّ عن أصله (والأصل هنا أمازيغي عربيّ)؛
2.نفْي الموت عن الشّعب الجزائريّ؛
3.نفي الصّفتين الاثنتين عن الشّعب الجزائريّ بتكذيب الأقوال التي كان الخطاب الإعلاميّ الاستعماريّ لا يزال يروّج لها. فكذابٌ من زعم أنّ الشّعب الجزائريّ حاد عن أصله؛ وكذابٌ من زعم أنّه مات وانتهى دوره.
ونجد ابن باديس هنا ينفي شيئاً ليُثبت آخر، ليثبت قيماً خصوصاً؛ ذلك بأنّه ينشأ عن الحيدودة عن الأصل، ثبوت هذا الأصل؛ كما ينشأ عن نفي الموت إثباتٌ للحياة.
وإذا كانت الثنائيّتان الأماميّتان، أو الواردتان في نسج النّصّ، تتشاكلان بحكم أنّ الحَيْدُودَة عن الأصل ضرْبٌ من الموت، مثلها مثل الموت الصّراح الذي يأتي ذكْرُه في المصراع الثاني؛ فإنّ هناك ثنائيّة خلفيّة أخراةً تنشأ عن الأماميّة وهي نتيجة النّفي كما رأينا منذ حين؛ والنّتيجة هي: الأصالة والحياة. ولعلّ هذه الثنائيّة أن تمثل هي أيضاً تشاكلاً فيما بينها لتلازم المعنيين وتقاربهما. فالتّشاكل هنا يشمل اللّوحة الأماميّة كما يشمل اللّوحة الخلفيّة.
ونلاحظ أنّ هذا البيت يشتمل هو أيضاً على أربعة معان على الأقلّ، وهي:
أ.الذي قال، أو قال؛
ب. الحيدودة عن الأصل؛
ج.الموت (الادّعاء بموت الشّعب الجزائريّ)؛
د.الكذب.
والمعنى الأخير يأتي نفياً قاطعاً لسلسلة المعاني السّابقة؛ فهناك ثلاثة ادّعاءات (أو ادّعاءان على الأقلّ إذا أخرجنا القول من الاعتبار)، وهناك تكذيبها. فالكلام من هذا المنظور يمثل تحت شكل تباين القيم. ولمّا كان المعنى الأخير بمثابة حُكْمٍ مقرَّرٍ فإنّ الكلامَ كلّه بقيَمه المغلوطة يغتدي لاغياً باطلاً.
وإذا كان البيت الأوّل يقوم على تجسيد كيان الشّعب الجزائريّ؛ فإنّ هذا البيت يأتي مناقضاً له لينفيَ، كذباً على كلّ حال، هذا الكيان؛ فالبيتان من هذا المنظور من القراءة متباينان، لا متشاكلان. والتباين هنا ينهض بوظيفة سياسيّة وحضاريّة عظيمة؛ حيث إنّ النّفي يُفضي آخرَ الأمر إلى إثبات.
ثمّ إذا كان البيت الأوّل شخصيّتُه معروفة بصريح القول وهي الشّعب الجزائريّ بكلّ كيانه المركّب من الجغرافيا والتّاريخ والدّين واللّغة والأرومة؛ فإنّ البيت الثاني يشتمل على شخصيّة مناوئة ولكنّها لا تُذكر تصريحاً؛ ولكنّها تذكر تلميحاً. فمن هذا الذي قال، وقال؟ ومن هذا الذي ذب فيما قال؟ والتّلميح هنا ألف مرّة أفضل من التّصريح؛ لأنّ الشّاعر لو جاء يعدّد هنا الذين كانوا يقولون، ويقولون من رجال السّياسة الفرنسيّين، ومن الإعلاميّين الاستعماريّين، ومن بعض ضعاف القلوب والإيمان بعظمة الوطن من الجزائريّين لطال الكلام، ولاستحال الشّعر إلى نثر…
ونجد في هذا البيت إيقاعاً داخليّاً يقوم على ترداد أفعال ماضية تمضي على إيقاع متجانس أو متقارب: قالَ؛ حادَ؛ قالَ؛ ماتَ؛ كذبْ.
وإذا كان المونيم الأخير (كذب) لا نجده يتلاءم إيقاعيّاً، كلّ التّلاؤم، مع العناصر اللّفظيّة التي تمّ بواسطتها تركيب هذا الإيقاع؛ فلأنّ وظيفته ليست أن يتلاءم مع الإيقاع الدّاخليّ، ولكن مع الإيقاع الخارجيّ للنّصّ.
3.من رام إدماجاً له رامَ المحالَ من الطّلبْ
يعدّ هذا البيتُ امتداداً لِمَا ورد في البيت السّابق؛ كما يمثـّل خلاصة له؛ فإذا كان البيت السّابق يتحدّث ضمناً عمّا كان يعرف في الجزائر بـ»الإدماج« بالتّلميح إلى تكذيب الذين كانوا لا يزالون يزعمون أنّ الشّعب الجزائريّ حادَ عن أصله، أو تنكّر لقيمه؛ فإنّه هنا يتحدّث تصريحاً عن هذا الإدماج الذي لا يساوي غير المسخ والفسخ.
ونلاحظ أنّ الثنائيّة التي ينهض عليها هذا البيت هنا ليست متشاكلة بحكم الموقف؛ فالعنصر الأوّل يناقض العنصر الآخر؛ فرَوْم الإدماج للشّعب الجزائريّ يباينه رَوْم الطّلب المحال من الأمر. فالقيمتان الاثنتان متناقضتان. غير أنّ هذا البيت بجذاميره يتشاكل مع كلٍّ من صِنويْه الأوّل والثاني حيث يركض معناه فيما يركض معناهما نفْياً وإثباتاً.
4.يا نشْءُ أنت رجاؤنا وبك الصّباحُ قد اقتربْ
ولقد يكون هذا البيتُ من الشّعر السّياسيّ الجزائريّ المبكّر في اصطناع الرّمز من وجهة5، واصطناع المجاز اللّغويّ من وجهة أخراة. ونجد الشّاعر ينتقل من تقرير قضيّة مرفوضة من أساسها وهي مسألة الإدماج، والتّربّص للشّعب الجزائريّ بكلّ ألوان الشّرور والمؤامرات السّياسيّة الأخرى إلى مخاطبة الشّباب الجزائريّ لكي ينهض ويثور، ويقوى ولا يخور؛ فهو وحده الرّجاء المنتظَر، وهو وحده الصّباح المقترَب.
ويمثل الرّمز في الحقيقة في المجاز اللّغويّ نفسه؛ ذلك بأنّ الصّباح الذي هو هنا منزاحٌ عن مكانته اللّغويّة المألوفة الدّالّة على بداية النّهار بما فيها من ظهور الضّياء، وطلوع الشمس، زيَّحَه الشّاعر إلى دلالة جديدةٍ تمثل بداية الأمل، ومطلع النّور. فلفظ »الصّباح« هنا يمثل قمّة الشّعريّة السّياسيّة. فالصّباح في التّعبير العاديّ لا يعني إلاّ نفسه؛ لكنّه هنا مماثل (إقونة) لقيمة خارجيّة لَمّا تُنجَزْ، وسِمَةٌ خفيّة لَمَّا تَظهرْ.
وهناك جماليّة شعريّة أخراةٌ يستبدّ بها هذا البيت، وهي الخروج من الرّتابة الخبريّة التي كان يمضي عليها إلى إنشائيّة قلقة متحرّكة، ونعني بها هذا النّداء الذي أجرِيَ في أداة النّداء الدّالّة على البعيد؛ فكأنّ الشّيخ كان يرى أنّ الذين يسمعون نداءه من شباب الوطنيّين كانوا منه بُعْداناً؛ وذلك على الرّغم من اقتراب الصّباح المنير بهم. ويمكن قراءة هذه العلاقة الأسلوبيّة في البيت قراءةً تشاكليّة لا تباينيّة؛ وذلك بحكم البُعد المتضمَّن في أداة النّداء (يا) من وجهة، واقتراب بزوغ نور الأمل الذي يأتي بإِصباح الصّباح من وجهة أخراةٍ.
وعلى أنّه يمكن قراءة هذه العلاقة نفسِها أيضاً قراءةً تباينيّة أخراةً بحكم أنّ النّداء يحيل على الحيز الحيّ (النّشْء) الموجود، على حين أنّ الصّباح وما تلازم معه يحيل على لحظة زمنيّة لَمّا تقعْ. فالعلاقة التّباينيّة تقوم في شيء موجود لَمّا ينهض، وفي شيء موجود لَمّا يحدثْ.
وممّا يقرأ ما بين السّطور أنّ مخاطبة النّشءِ قد يعني شيئاً من اليأس من الشّيوخ؛ فتخصيص الشباب بالذكر وحدهم دون سَوائِهِم قد لا يعني إلاّ هذا. كما يعني تخصيصَ الصّباح بالذكر رفْضاً لِلَيل الاستعمار الذي طال، ولظلامه الذي أطبق على الجزائر والجزائريّين. غير أنّ ذلك لا يعني رفْض الشّيوخ طرَفاً في المسألة النّضاليّة بمقدار ما هو إيثارٌ لإيداع الأمانة النّضاليّة إلى مَن يستطيع النَّضْحَ عنها، والنّضال من أجلها، وهم الشّباب وحدَهم. فهم قيمة عظيمة يجب أن تستثمَر في مَواطن الخير والحبّ والجمال. فبالشّباب يمكن هدُّ الجبال، وتجاوزُ الأهوال.
غير أنّ التّشاكل سرعان ما يعود إلى هذه العَلاقة اللّغويّة إذا راعينا أنّ النّشْءَ قيمةٌ إنسانيّة، والصّباحَ قيمة جماليّة؛ والتّلازم بين القيمتين هو الذي يمكّن لهذه العلاقة في التَّحَصْحُصِ والثبات. ويضاف إلى ذلك أنّ الثنائيّة التي ألِفْنا التماسَها في أبياتِ هذا النّشيد، بالقياس إلى هذا البيت، تتجسّد في تمثل الرّجاء، واقتراب الصّباح. فكلتا القيمتين تشاكِل صِنْوَتَها. فالرّجاء المعقود على الشّباب الجزائريّ، هو نفسُه الصباحُ المنتظَر إصْباحُه قريباً.
5.خُذْ للحياة سلاحَها وخُضِ الخُطوبَ ولا تَهَبْ
يعدّ هذا البيت امتداداً، في سياق المعنى، للبيت السّابق. فالنّشء الذي كان يخاطب ابن باديس لم يكن من الدّهماء ولا الرّعاع، ولكنّه كان من النّخبة المستنيرة من الشّباب. من أجل ذلك يستمرّ النّصّ في التّوكيد على ضرورة أن يتّخذ هذا النّشء المتعلّم الصالح للحياة سلاحها، وليخوضَ خُطوبَها، ولا يهابَها حين يخوضُها. وتقوم الثنائيّة في هذا البيت على معنيين متشاكلين: اتّخاذِ السّلاح الذي هو هنا العلم من وجهة، وخوضِ الخطوب من وجهة أخراةٍ. أمّا التَّنصاحُ بعَدَم التّهيّب في خوض غِمار الحياة فهو مجرّدُ بيان لهذه الثنائيّةِ المتشاكلةِ المعنى؛ فسواء على الشّابّ الجزائريّ فيما يتّخذ من سلاح المعرفة بكلّ أنواعها لمواجهة الحياة، وخوْضه الخطوبَ من أجل هذه الحياة الكريمة، ففي الحالين عليه أن يتحلّى بالشّجاعة الخارقة.
وعلى أنّ اتّخاذ السّلاح يعني هنا كلّ الوسائل التي تظاهره على أن يخوض خطوب الحياة العامّة بكفاءة وشجاعة: من تعلّم للعلم، وتحلٍّ بالأخلاق: فيكون في سلوكه سماحة، وفي عقله رجاحَة، وفي خُلقه سَجَاحَة. ونلاحظ أنّ لفظ السّلاح مستعمَلٌ هنا في اتّخاذ القِيم ذخراً وزاداً، فهو سلاح معنويّ لا مادّيّ، كما لاحظنا ذلك من قبل. على حين أنّ لفظ الحياة يعني الحياة الوطنيّة العامّة، وليس مجرّد الحياة العائليّة، أو الشّخصيّة.
وفي هذا البيت تشاكلٌ لفظيّ يقترب من الجناس في البلاغة بين »خُذ« و»خُض«. كما أنّ تقديم الحياة على السّلاح رُقِيٌّ بالتّعبير والنّسج إلى المستوى الأعلى من الشّعريّة اللَّبِيديّة6 من وجهة، وتمجيدٌ لقيمة الحياة التي دونَها لا يجدي شيءٌ من وجهة أخراة.
6.فإذا هَلكتُ فصَيحتي: تحيَى الجزائرُ، والعربْ
هذا بيتٌ عجيب يَشي بخروجه من أعماق نفس الشّاعر وقلبه ووجدانه معاً؛ فهو يدلّ على أنّ نظرة ابن باديس الوطنيّة كانت بعيداً؛ فكان يرى أنّ عهد الكفاح المسلّح أظلّ أوانُه ولكن لن يشهدَه غالباً، وأنّه قد يموت شهيداً لا ميتة طبيعيّة؛ فمن أجل ذلك اصطنع عبارة »هلكتُ« عوض »مِتّ«. هذا أمر. وعلى أنّ ابن باديس لم يصطنع عبارة مألوفة مثل »فقَوْلي «أو »رجائي«، أو »وصيّتي«؛ ولكنّه اصطنع عبارة متأجّجة كالنّار المحرقة تليق بمستوى عظمة الموقف وهي قوله »فصَيحتي«. والأمر الآخر أنّه كان يعلم ما يدبَّرُ للجزائر ومحاولة فصلها عن العالم العربيّ من وجهة، والتّربّص للعرب عن طريق اغتصاب فلسطين (وقد كان باكر إلى كتابة مقالات عن القضيّة الفلسطينيّة…) من وجهة أخراة؛ من أجل ذلك قَرَنَ حياةَ الجزائرِ بحياةِ العربِ. فواو العطف هنا واوُ اشتراكٍ في الفعل الحضاريّ حقّاً. ولا جزائريَّ يجهل اليومَ الدّعم العظيم الذي لقِيَه الشّعب الجزائريّ من إخوانه العربِ أيّامَ ثورة التّحرير المجيدة.
ويمكن أن نستخلص طائفة من المبادئ التي اشتملت عليها هذه المقطَّعة والتي قيل إنّه ارتجلها أمام الطّلاّب الجزائريّين بتونس عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف، منها:
المبدأ الأوّل: أنّ ابن باديس لم يرسل هذه القصيدة في براح من الأرض خالٍ؛ ولكنّه ألقاها في محفل للعلم والعلماء؛ فقد ختم بها إحدى خطبه الكبيرة في تونس عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف. فهي قصيدة قالها عالم، وخاطب بها طلبة للعلم؛ فالجوّ الذي قيلت فيه وألقِيَت، ملائكيّ روحيّ كريم.
المبدأ الثاني: أنّ هذه القصيدة تدعو إلى التّسلّح بالعلم ضمناً، وبكلّ القيم، المادّيّة والمعنويّة، وحتّى الرّوحيّة، لمجابهة الحياة بكلّ مصاعبها الكأداء، ومتاعبها الشّنعاء:
*خُذْ للحياة سِلاحَها*
فاتّخاذ السّلاح لمجابهة تكاليفِ الحياة ومَعَاسِرِها يقتضي التّحلّيَ بالقوّةَ؛ كما يقتضي طلبَ العلم ولو ببلاد الصّين؛ كما يقتضي الحرصَ على العمل الذي يحضّ اللّهُ عليه ويدعو إليه7. ولْنقارنْ هنا بين هذا المبدأ، مثلاً، وبين مبدأ الحياء الذي ركّز عليه جمال الدّين الأفغانيّ في مناوأته الدَّهريّين الهنود8.
المبدأ الثالث: يدعو ابن باديس من خلال هذا النّصّ إلى التّحلّي بالشّجاعة بكلّ معانيها وأضرُبها لخوض غمراتِ الحياة العامّة. ونحن نعلم أنّ الشّجاعة ليست هي التّهوّرَ والانتحار والإقدام الأعمى على الفعل أو على القول فحسب؛ ولكنّها تَحَيُّنُ للفرصة الملائمة لاغتنام الهدف، واقتطاف الثمَر، وبلوغ الغاية.
المبدأ الرّابع: دعوة الشّباب الجزائريّ إلى خوض غمار الخطوب، وعدم التّهيّب.
*وخُضِ الخطوبَ ولا تهَبْ*
ونلاحظ أنّ الحثّ على التّسلّح بقيمة الشّجاعة يتّخذ سيرة الأمر المؤكَّدِ مرّتين اثنتين: وذلك ترسيخاً للفكرة، وتكريساً للقضيّة؛ فخَوْض الخُطوب (وخُض الخطوب)، وملاقاةُ الأهوال، ومكابدةُ الشّدائد، هو سلوك في نفسه قيمةٌ من قيم الشّجاعة؛ ولكنّه أضاف إليه، الشّاعرُ الحكيم، عدم التّردّد أو الخوف أو التّهيّب لدى الإقدام على فعل شيء يكون ذا قيمة في الحياة، ويكون فيه منافع للنّاس.
المبدأ الخامس والأخير: التّعويل على عنصر الشّباب في إنجاز برنامج القضيّة الإصلاحيّة كما كان يراها ابن باديس:
يا نَشْءُ أنتَ رجاؤُنا وبك الصّباحُ قد اقترَبْ
فليس هناك من مشروعِ نهضةٍ، ولا إصلاح، ولا تجديد، يمكن أن يرى النّور إذا لم تكن وراءَه همّةُ الشّباب الأقوياء، وعزيمة الفتيان الأشدّاء. من أجل ذلك نُلفي ابن باديس يجعل من الشّباب المتعلّم الأداةَ التي يمكن أن تنجز ما كان يريد من أفكار. على حين أنّنا لا نكاد نجد شيئاً من هذه الأفكار في الحركات الفكريّة التّجْديديّة الأخرى. ولْنلاحظْ أنّ ابن باديس يصطنع اللّغة الانزياحيّة في شعره فيرمي إلى بعيد دون أن يجلب على نفسه المتاعب والهموم من السّلطات الاستعماريّة. وأيّ شيءٍ هذا «الصّباح» المشرق الجميل الذي اقترب ظهوره، وآن أوانه، إن لم يكن نيلَ الشّعب الجزائريّ الحرّيّةَ والاستقلال؟
ولولا أن هذه الدّراسة عامّة، لَتوقّفنا توقّفاً أطولَ لدى أفكار هذه القصيدة العجيبة التي تلخّص فلسفة ابن باديس في الإصلاح، وفي الحياة؛ ومن ثمّ تعبّر، على نحو عامّ، عن رؤيته، وربما عن رؤية جمعيّة العلماء التي كانت ترى برأيه، في تصوّر النّهضة، وتمثـُّلِ التّجديد، وتحسّس الإصلاح.
الهوامش :
1.الجيلالي بن محمّد، ختْم موطّأ مالك بن أنس رضي اللّه عنه، الشّهاب، ج7 م15، ص.322 ، أوت، 1939. وقد تكفّل أسخياء قسنطينة وأكارمهم باستضافة الوفود التي وفدت على المدينة بهذه المناسبة الكبيرة. وكان الدّرس الختاميّ الذي استغرق إلقاؤه على كرسيّ ساعةً وصفاً بالجامع الأخضر. ثمّ وقعت حفلة خطابيّة بمدرسة التّربية والتّعليم امتدّت إلى مطلع الفجر. يراجع م.س. ص.321-332.
2.البصائر، ع.151، 1951؛ عيون البصائر، ص. 677.
3.الإبراهيمي، البصائر،
4.تراجع البصائر (الأولى)، ع. 71، يوم الجمعة 18 يونيو 1937.
5.لقد اصطنع فيما بعد ابن باديس الرّمز في الشّعر تمجيداً للقضيّة الوطنيّة وتطلّعاً إلى الحرّيّة محمّد العيد آل خليفة في قصيدته:
أين ليلايَ أينَها؟ حيل بيني وبينها
(ينظر كتابنا، ا-ي، ديوان المطبوعات الجزائريّة، الجزائر)
6.في مثل قوله من المعلّقة: يعلو طريقةَ متنها مُتواتِرٌ في ليلةٍ كفَرَ النّجومَ غَمامُها
7.قال اللّه تعالى: «وقل اعمَلوا فسيرى اللّهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون»، سورة التّوبة، الآية 105.
8. ينظر جمال الدّين الأفغاني، إبطال مذهب الدّهريّين وبيان مفاسدهم، ترجمة محمّد عبده، ص. 71 وما بعدها؛ محمّد البهيّ، م.م.س.، ص.64