جوانب إنسانية في حياة الشيخ أحمد سحنون
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
ليس الغرض من كتابة هذا المقال هو ترجمة الشيخ أحمد سحنون (1907-2003) والإحاطة بمراحل حياته المختلفة ودراسة اهتماماته الأدبية والدينية المتعددة، وإنما غرضي هنا هو التوقف عند بعض محطات من مساره التي نادرا ما تعرض لها من سبقني من الباحثين الذين اهتموا بهذا العالم الجزائري.
بين أحمد سحنون والفضيل الورتلاني
ساهم الشيخ أحمد سحنون منذ عام 1936 في جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فبدأ الشيخ بنشر قصائد شعرية تناولت قضايا اجتماعية وأخلاقية وصف الطبيعة وتسجيل أحداث وأعمال لها صلة بهذه الجمعية الإصلاحية.
لقد نشر أول قصيدته في 22 ماي 1936 عنوانها: ” الإنسان بين تيارات الشقاء”.
ثم نشر مجموعة مقالات عالجت مشكلات مماثلة، وكان أولها حول ” الكذب وخطره على المجتمع”.
وواصل الكتابة في هذه الجريدة إلى أن عطّلتها سلطة الاحتلال في أفريل 1956. وعرف مقاله الأسبوعي المنشور في ركن: “منبر الوعظ والإرشاد” بداية من فبراير 1953 قبولا حسنا لدى القراء، ونال شهرة واسعة في الجزائر وخارجها.
وكان من بين هؤلاء القراء المعجبين الشيخ الفضيل الورتلاني الذي كان آنذاك مقيما في القاهرة.
لقد انقطع الورتلاني عن مطالعة البصائر التي كانت ترسل إليه من الجزائر لأنه وجدها غارقة في القضايا الأدبية والسياسية وتخلت عن التوجيه الديني والإرشاد والدعوة. غير أنه قرأ صدفة عددا منها فصادف مقال الشيخ سحنون المتعلق بالدعوة إلى مكارم الأخلاق وتصحيح العقيدة، فأعجبه كثيرا لأنه حقق له المراد، فأسرع إلى مطالعة الأعداد الأخرى التي أهملها من قبل ليستمتع بمقالات الشيخ سحنون.
وفي هذا الجو الجميل كتب الورتلاني رسالة إلى هذا الداعية المرشد. وإليك أيها القارئ أهم ما جاء في هذه الرسالة المعنونة: ” طر في هذه الأجواء يا سحنون”: ” لقد كنت ضيق الصدر من خلو البصائر من التوجيه الديني، وهي ميدانه وسوقه، ضيقا صرفني عن قراءة ما يكتبه الأستاذ أحمد سحنون، حتى وقعت في يدي الأعداد الأخيرة من جريدة البصائر فاجتذبني منها عنوان غلى قراءة ما تحته، فقرأت، فصادف مني هوى فأعدت قراءته، فأثر في تأثيرا أجرى دموعي، تأثرا بالمعاني وفرحا بظفري بما كنت أنشده من النوع الحي المشرق المنتزع من مأثور السلف في أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم.
وفي غمرة ذلك التأثر والإعجاب تناولت رزمة من البصائر كانت أمامي، وأعدت قراءة ما فيها من كلمات الأستاذ سحنون، قراءة وتأملا وموازنة، فازدادت إيمانا بأنها صنف واحد في الإصابة وحسن التنزيل، وعمق التحليل لأمراضنا النفسية وعلاجها بأخلاق أسلافنا الطاهرين التي ملكوا بها أنفسهم أولا، وملكوا بها الكون ثانيا.”
أما الشيخ أحمد سحنون فقد اعتبر هذا الخطاب دعما قويا للاستمرار في الكتابة وتضخم مسؤوليته التوجيهية، ومضاعفة جهوده للارتقاء برسالة الدعوة والإرشاد إلى مكانة عالية لتحيا القلوب الميتة وتنهض النفوس الخاملة وتستيقظ العقول الجامدة.
قال الشيخ سحنون مخاطبا الأستاذ الورتلاني: ” رعاك الله وزادك رفعة على هذا التواضع الرفيع، فبدلا أن أكون السابق في هذا الميدان، ميدان شكر أمثالك من العالمين المجدين لخير المسلمين، كنت السابق –كعادتك- فقد عرفتك سباقا إلى كل خير، مشجعا لكل عامل، ولو كان بطيء الخطى، قريب المدى، كهذا الضعيف.
إنه خلق خبرناه فيك، ولمسناه في مواقفك كلها، يوم كان لعيوننا حظ الاستمتاع برؤيتك، ولأرواحنا لذة القرب منك، ولعقولنا نعمة الانتفاع بمواهبك، والاقتباس من نورك، وزاد هذا الخلق سموا وسعة وشمولا يوم سعدت بك ربوع الشرق، وحظي بقربك وادي النيل، وحلقت روحك في تلك الأجزاء الحرة الطليقة، تعب من فيضها، وتنهل من عبيرها.
إنني أيها الأخ الكريم، لأعتبر تحيتك الطيبة التي نفحتني بها، وكلمتك القيمة التي خصصتني بإهدائها خير مشجع لي على السير في هذا الطريق، وخير مكافأة أتلقاها من صديق على هذه الفصول المتواضعة.”
وفى الشيخ سحنون بوعده فاستمر في الكتابة في ركنه الأسبوعي ينشر مقالاته النفيسة.
ولم يوقفه عن ذلك إلا المرض في عام 1955، وتعطيل البصائر في عام 1956.
بين أحمد سحنون والشاعر عبد الكريم العقون
في عام 1955 مرض الشيخ أحمد سحنون واضطر إلى السفر إلى مدينة ليون الفرنسية للاستشفاء. وأجريت له العملية الجراحية في عينه ثم عاد إلى الجزائر.
وطمأنت البصائر القراء بشفائه وبشرتهم بعودته إليهم في أجل قريب. غير أن المرض عاوده مرة أخرى فرحل من جديد إلى نفس المستشفى لإجراء عملية جراحية في عينه الأخرى.
وكتب صديقه الشاعر عبد الكريم العقون قصيدة يعاتبه على طول الغياب وانقطاع أخباره، ويعبر عن حنينه إلى أحاديثه ومجلسه العامر الذي يجمعهم مع نخبة من العلماء الجزائريين كأحمد توفيق المدني وحمزة بوكوشة وباعزيز بن عمر، ويبلغه أساه على توقف مقالاته الدرر في جريدة البصائر.
ويدعوه في الأخير إلى العودة إلى البلد ليواصل نشاطه الإصلاحي، وتستمر بفضل ذلك مجالس التذكير والتفكير كعهدها السابق، قائلا له:
أطلت الغياب يا أحمد *** فعد ليعود لذيذ السمر
ولم تمر إلا أيام قليلة حتى أجابه الشيخ سحنون بقصيدة مؤكدا له من خلالها على أنه لم ينس صديقه الشاعر وما يجمعهما من ذكريات خالدة، غير أن حالته الصحية السيئة هي التي كانت سببا في انقطاع أخباره، فعيناه المعصوبتان حرمتاه من الكتابة، ثم بشّره بعودته القريبة إلى الوطن، وهو يقول له:
ولكن أيام هذا البلا *** ستمضي ويعقبها ما يسر
وأرجع نحو الرفاق الكرام *** قرير الفؤاد معافى البصر
ويجتمع الشمل بعد الفراق *** وتنعم بالصفو بعد الكدر
عاد الشيخ أحمد سحنون إلى الجزائر بعد غياب دام شهرين، إلا أنه بقي متأثرا بتبعات هذه العملية الجراحية فلم يكتب إلا مقالات قليلة في جريدة البصائر قبل أن تعطلها سلطة الاحتلال بعد ثلاثة أشهر من عودته إلى البلد.
سجال مع كاتب مجهول:
كتب الشيخ أحمد سحنون مقالات وقصائد كثيرة حول الشباب يحثهم على الأخلاق الحميدة، ويدعوهم إلى الارتقاء إلى مستوى عظمة رسالتهم في الحياة، ويشجعهم على العمل المتقن. كما ينهاهم عن الرذيلة والعادات السيئة.
وفي هذا السياق نشر مقالا عنوانه “التطفل على الكتابة” لينتقد بعض السلوكات التي تبحث عن الشهرة بالمجان دون جهد أو قدرة واستعداد.
ففي ذلك خلل خطير يهدد مستقبل الأدب واللغة العربية في الجزائر.
وراسله قارئ أو كاتب مجهول من مدينة قسنطينة يدعوه إلى بيان ما يقصده بالكتابة الرديئة. فأجابه الشيخ سحنون أن مقصوده هو دعوة الكتاب إلى كتابة مقالات تعالج قضايا هامة بأسلوب راقي تشرّف جريدة البصائر، ولا يحرج صاحبهُا رئيس التحرير الشيخ الطيب العقبي لأن بعض الكتاب لا يلتزمون بتلك المواصفات إذ أن همهم الأساس هي الشهرة وإن تكلف ذلك المساس بسمعة هذه الجريدة الإصلاحية الرائدة والخدش في مصداقيتها المعروفة.
ولم يقتنع الكاتب المجهول بهذا الجواب، بل اعتبر أن من واجب الشيخ أحمد سحنون هو توجيه انتقاده بصراحة إلى العلماء الذين يعنيهم الأمر، ولا يثبّط عزائم الكُتاب الشباب الذين لهم الحق في نشر إنتاجهم في البصائر إلا أنهم لا يجدون دائما من يشجعهم وينشر لهم محاولاتهم.
ورد الشيخ سحنون على هذا الكاتب بقصيدة طالبه فيها أن يكشف عن نفسه ولا يتستر وراء اسم مستعار والرموز، لأن في هذا السلوك ضعف لا يليق بمن يدعو إلى التحلي بالصراحة ويدعي أن له القدرة على الكتابة الرصينة.
قيمـة الكاتـب الصراحـة فـي الـرأ *** ي إذا كــان ما يـراه صوابــــا
قد مللنـا الآراء تنشـر في الصحــ *** ـف كثيـــرا ولا نــرى الكتّابـا
والطلاسـم والرمـوز التــي أعــ *** ـيت عقـولا وحيّــــرت ألبابــا
يا شبابا تحت الحجـــاب تــوارى *** كـن إلــى المجـد والعلا وثّابـــا
كــن صريحـا فـي الحق ولا تتهيب *** واطـرح عنـك يا شبـاب الحجابــا
فــإذا كـان فـي الكتابــة حــر *** فهـو مـن صيـر الصراحــة دابـا
وهكذا قطع الشيخ سحنون قول كل من يدعو إلى الصراحة والشفافية بينما هو يمارس الضبابية، ويدعو إلى المرؤة بينما هو يعيش في الخوف والجبن.
الوفاء بالصداقة
كان الشيخ أحمد سحنون نموذجا في الوفاء بعهد الصداقة، وكان يعبر عنها من خلال كتاباته النثرية والشعرية.
وفي هذا السياق نظم قصيدة رحب بها بكتاب “جغرافية القطر الجزائري” لأحمد توفيق المدني مطلعها:
توفيق أعطيت توفيقا وتسديدا *** فاكتب وجدد عهود الضاد تجديدا
منحت موهبة التاريخ فأحب به *** أمجاد قومك إحياء وتخليدا
كما نظم قصيدة خلد فيها كتاب ” الشرك ومظاهره” للشيخ مبارك الميلي.
ومما جاء فيها هذه الأبيات الأربعة الأخيرة:
أنت أرضيت يا مبارك شعبا *** بالذي قد بذلته من جهود
أنت أبصرت في العقائد داء *** فتكفلت بالعلاج المفيد
سفرك اليوم بلسم لجراحـ *** ات بدت في عقائد التوحيد
هو ضرب من الخلود ولا غر *** و فقد عشت مغرما بالخلود
كما كتب مقالات نثرية عن أصدقائه ليعرف بحياتهم وأعمالهم فكتب عن الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ فرحات الدراجي… ونظم أيضا قصائد ليواسي أصدقاءه في محنتهم وينفس عن كربتهم، أذكر منها هذه القصيدة التي وجهها إلى صديقه الشيخ فرحات الدراجي يعزيه في وفاة والده أو هذه القصيدة يدعو فيها بالشفاء للشيخ مبارك الميلي، والأخرى التي أرسلها إلى صديقه الذي فقد زوجته وابنه وأخته لعله يجد فيها بعض العزاء.
هذه بعض الجوانب المضيئة في حياة الشيخ أحمد سحنون رحمه الله الذي غادرنا منذ عشرة أعوام، في ليلة الاثنين 8 ديسمبر 2003، غير أن تراثه وأعماله ومواقفه تبقى حية خالدة تشهد على نبوغه في الأدب والعلوم الشرعية، وإخلاصه في خدمة الدعوة ورسالة الإصلاح، وتضحيته في سبيل تحرير النفوس من الاستعمار والاستعباد وجرأته في قول الحق ومحاربة الاستلاب والاستبداد.