مشروع ابن باديس والتأسيس لحركة الوعي الثوري
بقلم: بن يغزر أحمد-
تمثل الثورة الجزائرية (1954-1962) حدثا مفصليا، وحدثا معلميا في تاريخ الجزائر المعاصر،بل إن دائرة أهميتها تتسع لتمتد عربيا وإفريقيا وعالميا لما كان لها من إشعاع وتأثير،ولا شك أن حدثا بمثل هذه الأهمية لم يكن وليد الصدفة،ولم يأت من فراغ ، بل هو نتاج عمل تراكمي ومنهجي امتد لعشرات السنين على جبهات متعددة ساهمت فيه عدة أطراف فرديا وجماعيا باختلاف توجهاتها وطبيعتها، ويكون من غير العلمية والموضوعية أن ننسب هذا الكسب إلى جهة بعينها حصرا دون غيرها، أو نربطه بإطار زمني مفصولا عما قبله،فالثورات في العموم لا تكون إلا ثمرة لحراك يسبقها قد لا يأخذ نفس الصدى للفعل الثوري ،ولكن هذا الأخير لا يكون إلا بحضوره مكتملا، فلا ثورة بلا وعي ،ولا وعي بدون أطراف تبنيه وتؤسس له. يشير الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله إلى ما يدعم هذا المعنى قائلا:”…فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها، والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا…”(1)
ويستشهد بن نبي لتدعيم رأيه بالثورة الفرنسية فيستطرد قائلا :”إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار جان جاك روسو والعلماء الموسوعيين .فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز- يوليو- عام 1789″(2)
انطلاقا من هنا تحاول هذه الدراسة أن تبرز العلاقة بين الثورة كفعل أي اللجوء إلى العنف الثوري أو الدعوة إليه بشكل صريح لافتكاك الحق في الحرية والاستقلال، وبين المشروع الذي بدأه ابن باديس بمجرد عودته من الحجاز بعد أن أدى فريضة الحج سنة 1913 إلى غاية وفاته سنة 1940.
يصنف البعض ابن باديس ضمن التيار الإصلاحي ويجرده من الثورية في الخطاب والممارسة،ويتطرف البعض الآخر فينفي أي علاقة بين الإمام وحركته التغييرية وبين الثورة الجزائرية، ويستند هذا الطرح إلى ما كان يكتبه في صحفه وخاصة المنتقد والشهاب في أعدادهما الأولى خاصة، وكذلك إلى بعض خطبه ومواقفه الداعية إلى عدم مواجهة فرنسا،بل إنه يخاطب المسلم الجزائري ناصحا :”حافظ على مبادئك السياسية ولا سياسة إلا سياسة الارتباط بفرنسا والقيام بالواجبات اللازمة لجميع أبنائها والسعي لنيل جميع حقوقهم فتمسك بفرنسا العدالة والأخوة والمساواة فإن مستقبلك مرتبط بها. ثق بأن سياسة الصدق والصراحة والإخلاص ،المرتكزة على الحب والعمل والتعاون لابد أن تظهرك أمام فرنسا بمظهرك الحقيقي رغم كل الغيوم التي ينشرها حولك خصومك ومنافسوك، فتعطيك حينئذ فرنسا جميع الحقوق كما قمت لها بجميع الواجبات، وتحيا حياة طيبة كجميع أبنائها العاملين المخلصين”.(3 )
ومثل هذه المواقف أو القريبة منها كثيرة في ما كان يكتبه ابن باديس وقد تدفع من لم يحط بمواقف الإمام ،أن يتسرع في الحكم عليه بدون أن يضع ذلك ضمن سياقه وظروفه ،ولذلك فمن المهم الاطلاع على استراتيجية ابن باديس ومنهجه في التغيير،ومن ضمن ذلك المحددات التي كانت تحكم آراءه وموقفه.
إستراتيجية التغيير عند ابن باديس:
انطلقت إستراتيجية ابن باديس في التعامل مع الواقع الجزائري من دراسة عميقة وتحليل دقيق،ولم تكن ناتجة :” عن مجرد عاطفة دينية ووطنية جياشة ،وإنما كان منطلقا من دراسة عميقة للشعب الجزائري فيما يعانيه من أمراض،وفيما تتطلبه تلك الأمراض من علاج(4). ويبدوا أن الخطوط العامة لهذه الاستراتيجية تبلورت من خلال النقاشات العميقة التي جرت بين ابن باديس والبشير الإبراهيمي عندما التقيا في المدينة المنورة سنة 1913م والتي قال عنها الابراهيمي :” كنا نؤدي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي ،فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد ،فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح ،ثم نفترق إلى الليلة الثانية،إلى نهاية الثلاثة أشهر التي أقامها الشيخ بالمدينة المنورة،كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرا للوسائل، التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله، ما حققها في الخارج،بعد بضعة عشرة سنة ويشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931 “(5) بطبيعة الحال لم تكن هذه الجلسات وحدها التي ساهمت في بلورة رؤية الإمام فهو كان معاصرا لفترة تنازعتها عدة توجهات في كيفية التعامل مع واقع الأمة العربية الإسلامية الموبوء بالاحتلال الأجنبي والجمود الفكري والثقافي،والبؤس الاجتماعي، وكان المشرق العربي خاصة يموج بهذه التوجهات،وأكيد أن هذا السجال لفت انتباه الإمام ،وكان من ضمن المحددات التي صاغت رؤيته التغييرية في الواقع الجزائري.
يمكن من خلال الـتأمل في المسلكية التي خطها ابن باديس وكذلك من خلال تراثه المكتوب أن نتصور أن الإستراتيجية الباديسية كانت تسير في خطين بشكل متواز ومتكامل:
الخط الاستراتيجي: وهو الرواق الذي وضع فيه الإمام طاقته الأساسية ،وجهده الوافر ،وسخر له معظم وقته، وقد توجه من خلاله إلى المجتمع الجزائري لترميم ما لحقه من تدمير ،وإعادة تشكيل وعيه بما يؤهله لتحقيق ذاته ومواجهة كل التحديات،وكان تشخيص الإمام لواقع المجتمع الجزائري أنه لا يعاني فقط من آثار سياسة الاستعمار، ولكن يعاني أيضا من تصرفات بعض أبنائه التي زادت الوضع سوءا،بل وأصبحت هذه التصرفات وكأنها داعمة لأهداف الاستعمار ،وقد عبر الإبراهيمي عن هذا الإدراك قائلا :” كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس، منذ اجتماعنا في المدينة المنورة: إن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آت من جهتين متعاونتين عليه،وبعبارة أوضح: من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ودنياه،استعمار مادي، هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار،واستعمار روحاني يمثله مشايخ الطرق المؤثرة في الشعب،والمتغلغلون في جميع أوساطه،المتاجرون باسم الدين ،المتعاونون مع الاستعمار عن رضا وطواعية …ومظهرهما معا تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم فتسعى إلى الانفلات، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة “(6)
وبهذا التشخيص أصبح واضحا أن مواجهة الاستعمار لابد أن تبدأ بإصلاح أحوال المجتمع الجزائري ليكسب القدرة اللازمة،والوعي الكافي إعدادا للمواجهة الحاسمة،ومن هنا كانت الخطوات الأولى لمشروع ابن باديس في هذا الاتجاه،ففي فترة مبكرة كتب ابن باديس في أول عدد من جريدة المنتقد مقالة افتتاحية معبرة تحت عنوان :خطتنا مبادئنا وغايتنا وشعارنا أوضح فيها طبيعة المهمة التي يريد أن يخوضها :”…ولأننا جزائريون نعمل للم شعث الأمة الجزائرية وإحياء روح القومية في أبنائها وترغيبهم في العلم النافع والعمل المفيد حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة والانتفاع في العالم وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية “(7)
لقد اتجه ابن باديس بمجرد عودته من الحجاز سنة 1913إلى الانطلاق في الإنزال الفعلي لمشروعه على أرض الواقع بعد أن غدت صورة وخطوات هذا المشروع واضحة في ذهنه بشكل كامل وجلي، وكانت أهم أهدافه في هذه المرحلة:
- تصحيح عقيدة الجزائريين من الفساد الذي لحق بها ،جراء الجهل ،وعمل بعض الطرق الصوفية البدعية، مما عمم الخرافة والبدع،وصار ذلك سبيلا لتنويم الأمة، وإلهائها عن التأمل في الحال الذي آلت إليه، ولم تكن هذه معركة سهلة فهي تعني مواجهة مع الجماعات الطرقية النافذة المنتفعة من هذا الوضع ،والمدعومة من قبل مراصد الاستعمار ،ووصل بها الأمر إلى محاولة اغتيال الشيخ ابن باديس في قسنطينة سنة 1926.
- الحفاظ على اللغة العربية لغة الجزائريين من الاندثار فهي الوعاء الذي يحمل ثقافتهم، ويعبر عن هويتهم،ويحدث الانسجام والتناغم بين مكوناتهم، يقول ابن باديس: “إن هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين، وخدم العلم، وخدم الإنسان، هو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان، ونعمل لإحيائه منذ سنين، فليحقق الله أمانينا “(8)
- تربية الأمة وتهذيبها بمحاربة ما انتشر في أوساطها من أخلاق ساقطة،وعادات ذميمة،كنتاج طبيعي لسياسات الاستعمار القائمة على التفقير والتجهيل وتعزيز الانحرافات بكل أنواعها لوئد أي محاولة للوعي والنهضة، ووجدنا الإمام يحرص في كتاباته وخطبه على توجيه الجزائريين إلى تعديل سلوكاتهم في الاتجاه الصحيح، ففي مقالة نشرتها الشهاب بعنوان أيها المسلم الجزائري كتب مخاطبا :”هاك آدابا تقتضيها إنسانيتك، ويفرضها عليك دينك، وتستدعيها مصلحتك في هاته الحياة… حافظ على صحتك فهي أساس سعادتك، وشرط قيامك بالأعمال النافعة لنفسك ولغيرك. تجنب العفونة فإنها مصدر جراثيم الأمراض ومثار نفور وبغض لطلعتك، ومجلبة سب لجنسك ولدينك الشريف البريء منك في مثل هذا الحال. نظف بدنك نظف ثوبك تبعث الخفة والنشاط في نفسك، وتنبل في عين غيرك، وتجلبه إلى الاستئناس بمعاشرتك. قه أهلك وولدك ومن إلى رعايتك مما تقي منه نفسك، وسيرهم على نظام صحي وقانون أدبي تكفل سعادة وهناء عائلتك، ورخاء عيشك وهدوء بالك”(9).
- زرع وتغذية الروح الوطنية أي روح الانتماء للوطن والوعي بالواجبات التي يفرضها هذا الانتماء، وقد كان الإمام كثيرا ما يستخدم لفظ الوطن والوطنية في مقالاته وكلماته،وهذا في وقت لم يكن من السهل استعمال هذه الكلمة، وقد كان رده واضحا وقويا على فرحات عباس حينما نفى وجود الأمة الجزائرية في المقال الشهير الذي نشره في جريدة (الوفاق L’entente) تحت عنوان: فرنسا هي أنا،وذلك سنة 1936مما جاء فيه: “الأمة الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا”(10)، فكان رد ابن باديس بمقال في مجلة الشهاب مؤكدا: “لا يا سادتي..نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأمة،بل ندعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمة فنقول لكم ولكل من يريد أن يسمعنا. إن أراد أن يعرف الحقائق ولا يختفي وراءكم الخيال نقول لكم أنكم من هذه الناحية لا تمثلوننا ولا تتكلمون باسمنا،ولا تعبرون عن شعورنا وإحساسنا إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ وفتشنا في الحالة الحاضرة،فوجدنا الأمة الجزائرية أمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا ،ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال،ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمم الدنيا، ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا،ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، ولا تريد أن تندمج ولها وطن محدود ومعين هو الوطن الجزائري بحدوده المعروفة”(11).
لقد كان الهدف الاستراتيجي للإمام هو إعادة تشكيل الإنسان الجزائري بما يمكنه من استعادة الثقة الكاملة في نفسه، والتمسك الواعي بمقومات شخصيته ،وهو ما يؤهله للمطالبة بحقه في الحياة الحرة الكريمة ،ويضمن له الانتصار في المعركة الحاسمة التي سيخوضها حتما في مواجهة الاستعمار.
استعمل الإمام لتحقيق هذا الهدف وسائل متنوعة،وأساليب متعددة، سواء في المرحلة التي كان يقود فيها عمله منفردا (1913-1931) أو في المرحلة التي نقل فيها حركته إلى العمل المؤسسي المنظم بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5ماي 1931.
لقد ركز في خطته على ثلاثة محاور رئيسية:
1- التعليم لإعداد النشء من خلال فتح المدارس، وتشجيع الجزائريين على الاهتمام بتعليم أبنائهم.
2- الوعظ والإرشاد في المساجد من أجل الاتصال بالعامة ،وكان المسجد الأخضر بقسنطينة هو المنطلق في هذه الحركة فقد أشرف فيه على تفسير القرآن الكريم ،وتقديم النصح والتوجيه بما يخدم إستراتيجيته الإصلاحية والتربوية.
3- الصحافة لمخاطبة النخبة المتعلمة، ونشر الوعي في أوساطها، وأسس لذلك عدة صحف كالمنتقد، والشهاب، والبصائر وغيرها.
كما وظف في نفسه الاتجاه علاقاته الداخلية والخارجية، وقدرته على التواصل وتعبئة القادرين واستيعابهم في خطته.
لقد كانت حصيلة هذا الخط الاستراتيجي رغم كل المضايقات والعوائق سواء من الإدارة الاستعمارية المتربصة، أو أعداء الإصلاح وخصومه ،مهمة جدا ساهمت بتراكمها بتشكيل قطاع واسع من الجزائريين الذي يملكون مقدارا واسعا من الوعي والمعرفة والقدرة على التأثير، وهو ما سيكون له تأثيره في المراحل المقبلة.
الخط السياسي: رغم أن الإمام أعطى كما قلنا سابقا الاهتمام الوافر للخط الاستراتيجي، وكان يعمل فيه بحرص وجد، بصمت وهدوء أيضا، فإنه لم يهمل الخط السياسي، فهو وإن كان كسبه غير مضمون، ومتقلبا، ومحدودا بما تريده الإرادة الاستعمارية، فإنه كان يمثل للإمام الخط الذي يحمي به الخط الاستراتيجي، ويداري به قدر الإمكان عن الإنجاز الحقيقي الذي كان يرومه.
كان الإمام حريصا أن يكون له حضوره في هذا الخط رغم تكراره مرارا أنه وجمعية العلماء لا ينشغل بالسياسة، وان حقل عمله الطبيعي هو الميدان التربوي والتثقيفي، “… وهو ما بدا جليا في انشغاله الدائم بالهم السياسي الداخلي والخارجي، فما من حدث من الأحداث السياسية الهامة إلا ويكون له عليه عرض أو تعليق أو تحليل ينشره في الجرائد والمجلات أو يخطب به في الدروس والمحافل، وكأنه كان يتخذ من ذلك سبيلا للتثقيف السياسي استكمالا لحلقات التوعية والتهذيب في نطاق خطة الإعداد للمرحلة المقبلة التي سيكون فيها الركن السياسي ركنا مهما في مقاومة الاستعمار”(12).
في هذا الخط لم يكن الإمام يستنكف من أن يقدم تصريحات، أو يكتب مقالات، تبدو في ظاهرها مجارات للسياسة الاستعمارية، ودعوة للجزائريين لربط مصيرهم بمصير فرنسا وحضارتها، ولكنها في اعتقادي لم تكن مقصودة في ذاتها، وأنها كانت بهدف الطمأنة وحماية الخط الاستراتيجي الذي كان ابن باديس يشتغل عليه، ويراه هو الأولى والأهم. كما لم يكن غائبا عن ذهنه تربص الإدارة الاستعمارية بعمله، وأنها لن تتردد لحظة في هدم كل عمله إذا ما بدر منه موقف في غير وقته، أو بصورة تعطي الفرصة لخصومه للتحريض عليه.
وقد أشار إلى ذلك في مقالة نشرتها الشهاب جاء فيها: “إننا أكدنا في الكلمة الصريحة رغبتنا في الاحتفاظ بكياننا العربي الإسلامي فوق أرض آبائنا وأجدادنا، مع احترامنا التام للسلطة وخضوعنا لقوانين البلاد، لكن خصومنا كما قلنا آنفا، أرادوا أن يفهموا من كلامنا أننا نريد الاستقلال ورأوا أنهم يحرجوننا إذا وضعوا البحث على بساط الاستقلال، حتى إذا زل بنا القدم فوق هذا البساط الأملس استنزلوا علينا نقمة الحكومة وطلبوا أن نعامل معاملة الثائرين المهيجين، وأن نذهب ضحية قوانين روني وما سبقها، لكن خابت آمالهم، فنحن قوم لا نتأخر عن الخوض في مثل هذه الميادين، وأنهم لا يزعجوننا إن جرونا للبحث في مسألة الاستقلال”(13).
وفي مقام آخر يقول مؤكدا هذا المعنى: “…وتالله لو أنهم وجدوا برهانا ولو ضعيفا على خلاف ذلك، ولو وجدوا حجة ولو واهية على وجود أي شيء من هذا القبيل لكانوا قد بطشوا بنا قبل اليوم بطشا،ولكانوا قد محقوا هيئتنا من عالم الوجود، بعد محق أشخاصنا”(14).
ألا تؤكد هذه التصريحات أن الإمام كان يتحرك بحكمة تدل على حذق وفهم سليم، وإدراك لما يجب أن يقال وما لا يجب، وما يجب أن يقدم وما يجب أن يؤخر، وهذا فهم دقيق للسياسة وموازينها وكيفية إدارتها بما يحفظ الكسب الاستراتيجي، ويقوي مقومات المواجهة عندما يحين وقتها، وتتوفر شروطها.
ولا شك هنا أن الإمام كان وهو يختار هذه المسلكية يضع نصب عينيه حصيلة المقاومة الشعبية المسلحة التي خاضها الجزائريون سابقا مع بداية الاحتلال وإلى غاية بداية القرن العشرين وكيف انتهت إلى ما انتهت إليه من فشل في إنهاء الوجود الاستعماري، فهي وإن عبرت بوضوح عن رفض هذا الوجود، وقدمت في ذلك التضحيات الجسام من قتل وتهجير ومصادرة للأملاك والأرزاق وفقد للحرية والاستقلال، إلا أنهت لم تمنع الاستعمار من التمدد والسيطرة في الأخير، لأن هذه المقاومة كانت تفتقر إلى ما يضمن لها الاستمرار والفعالية، وهو ما بدا للإمام أن لا يتكرر مرة أخرى.
لكن هذا التقدير للأمور لم يمنع ابن باديس من أن يرفع صوت الاحتجاج تلميحا وتصريحا ،بل والدعوة للاستعداد للمواجهة الفاصلة عندما يحين وقتها، خاصة في النصف الثاني من عقد الثلاثينات عندما بدأ ابن باديس يستشعر أن عود الكسب الاستراتيجي صار أكثر صلابة وقوة، وان الصبر على سياسة فرنسا الاستعمارية لم يعد مجديا، فيقول مخاطبا إياها بكل قوة ووضوح:
“… اسمعوا إننا لن نرضيكم أبدا وإننا لن نعمل على إرضائكم، إننا لن نخشاكم أبدا ولن نعمل عملا يوقعنا تحت طائلة أيديكم. نحن سائرون على منهاجنا وفي طريقنا، لا يضرنا صراخكم، ولا ينفعنا سكوتكم، فقولوا ما شئتم، فلن تنالوا منا منالا ولن نتزعزع عن عقيدتنا. إننا ننصحكم نصيحة خالصة أن لا تعودوا لمثل هذا العمل الممقوت، فسياسة وخز الدبابيس تنتهي غالبا بفقد الشعب لصبره، وإخراج الحليم عن حلمه.وإننا لنسد في أوجهكم هذا الباب إلا أن كسرتموه والأمر بعدئذ لله “(15).
لقد كان لمثل هذه التصريحات الواضحة دورها في تعزيز الوعي، والرفع من منسوب الجرأة المحسوبة التي كان يقصدها ابن باديس بشكل متدرج، من أجل: “إعداد الشعب لمرحلة المطالبة بالاستقلال. والعمل من أجله يستلزم أول ما يستلزم العمل من أجل أن يقوى في نفسه الشعور بشخصيته العربية الإسلامية التي يكون بها متميزا عن الشخصية الفرنسية المستعمرة، فذلك هو الشرط الأساسي للمطالبة بالاستقلال، وإلا فإن ذوبان هذه الشخصية في شخصية المستعمر – وهو ما كانت تعمل عليه فرنسا بكل قواها، وكان يستجيب له كثيرون – لا يبقى معه مبرر للمطالبة بالاستقلال والعمل من أجله “(16).
لقد كان ابن باديس يعمل بحرص على أن يصل الشعب الجزائري في مرحلة ما إلى اليأس من سياسة فرنسا وأن يشعر بالتميز عنها، وأن يدرك من نفسه القدرة على الانفصال عنها، وأن يملك أيضا القدرة الذاتية على مواجهتها، ولا يكون له بمجرد الرغبة أو الطموح، وهو ما كان يرى حصيلته في العمل الاستراتيجي الذي بدأت ثماره الأولى في الينوع.
وفي خطاب واضح لإدراك الإمام أن لحظة المواجهة تقترب كتب الإمام مقالا مثيرا بعنوانه : هل آن أوان اليأس من فرنسا بعد الخيبة التي عمت الجزائر من تجاوب فرنسا مع مطالب الوفد الجزائري الذي سافر إلى باريس حاملا مطالب الجزائريين عقب المؤتمر الإسلامي 1936 وبعد سنة كاملة من الانتظار كتب الإمام قائلا :”كذب رأي السياسة وساء فألها ،كلا والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل ،وإنما تدفعنا إلى اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية “(17)
ويبدوا أن هذا المقال كان له صداه فاجتمعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي للنظر في مصير هذه المطالب، فقام ابن باديس بالمناسبة بإصدار بيان عبر فيه عن موقفه، موجهها إياه للشعب الجزائري ولنخبته ومما جاء فيه :”أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام: اليوم وقد يئسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا، اليوم وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا، اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا ،يجب أن نقول نحن كلمتنا، اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحدد صفوفنا… حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى أو ترى أكثريتها ذلك كثيرا علينا… ويسمعنا كثير منها في شخصيتها الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا، لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها، ولنتمسك عن إيمان وأمل عن شخصيتنا …قرروا عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها كونوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها برهنوا للعالم أنكم أمة تستحق الحياة”(18).
أبعد هذا الوضوح وضوح؟ إنها دعوة صريحة للمفاصلة، وإلى اليأس من مراوغات فرنسا ومناوراتها لإبعاد الشعب الجزائري عن حقوقه المشروعة، ولم يكن ذلك إلا ثمرة من ثمار حركة الوعي التي لم يكن فيها ابن باديس منفردا فللتيارات والشخصيات الأخرى أيضا دورها، ولكن قدم السبق كانت له، ولو تأخرت حركته أو قدر لها الغياب، لتأخر أو غاب هذا الوعي، لقد كان الكسب الذي خلفته حركة ابن باديس سندا ومنطلقا للثورة الجزائرية المباركة لما أحدثه من وعي متراكم أدرك من خلاله الشعب الجزائري طريقه نحو الانعتاق.
لقد تواترت الكثير من الشهادات من أن الإمام كان عزم على الثورة وحدث بعض مقربيه عن ذلك، ومما ورد في هذا الشأن: “ما أكده الشيخ محمد صالح رمضان (وهو من تلاميذ ابن باديس) أن الشيخ ابن باديس كان منذ 1356هـ 1937م يصرح بعزمه على الثورة المسلحة، وفي بعض هذه التصريحات أنه يخشى أن يدفع الأمة إليها قبل كمال استعداد، لهذا يتجنب أن يتحمل مسؤولية الرئاسة السياسية المباشرة لبعض الأحزاب”(19).
كما أن الشيخ أحمد حماني وهو من تلاميذ ابن باديس أيضا يذكر: “… ما سمعته بأذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتطرق الحديث إلى موضوع حالة السياسة بالجزائر بعد إعلان الحرب، وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا – إجباريا أو تطوعا- في صفوف الجيش الفرنسي، وكان الشيخ رحمه الله متألما جدا من هذا الضعف فيهم، وقد صرح بما فحواه: لو استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال الأوراس وإعلان الثورة المسلحة” (20).
توفي ابن باديس في 16 أفريل 1940 ولم يكتب له أن يعيش إلى غاية انفجار الثورة، ولكن مشروعه التغييري كان مؤسسا لها رفقة كل المجهودات التي قدمت لبناء الوعي الثوري السابق حتما للفعل الثوري.
الهوامش:
– (1) بن نبي(مالك):بين الرشاد والتيه، دار الفكر للطباعة، ط2، دمشق، 1988، ص14
– (2) نفس المرجع ،ص 14
– (3) ابن باديس (عبد الحميد):أيها المسلم الجزائري،الشهاب،العدد 49،23أوت 1926،ص2
– (4) النجار(عبد المجيد) :ملامح من الاستراتيجية السياسية للإمام عبد الحميد بن باديس،مجلة الوعي،العدد 1،جويلية 2010،ص 83
– (5) البشير الإبراهيمي (محمد): أنا، مجلة الثقافة، العدد 87، مايو – يونيو 1985م، ص 19
– (6) الأمين بلغيث (محمد):تاريخ الجزائر المعاصر دراسات ووثائق ،دار مدني للطباعة والنشر ،ط1،الجزائر،2009،ص 111
– (7) ابن باديس :خطتنا مبادينا وغايتنا وشعارنا،جريدة المنتقد ،العدد 1،2جويلية 1925،ص 5
– (8) ابن باديس : جريدة البصائر،العدد 171،22جوان 1939،ص 5/6
– (9) ابن باديس :أيها المسلم الجزائري ،مرجع سابق ،ص2
– (10) مقال شهير منسوب لفرحات عباس بذلك العنوان :فرنسا هي أنا
– (11) ابن باديس : كلمة صريحة،الشهاب ،ج1،م12،أفريل 1936
– (12)النجار(عبد المجيد):مرجع سابق، ص 84
– (13)طالبي (عمار) :آثار ابن باديس،الشركة الجزائرية ،ط3سنة 1997 ج1م3،ص 320
– (14)المرجع نفسه، ص 303
– (15)طالبي (عمار):نفس المرجع، ج1م2، ص 305
– (16) النجار (عبد المجيد) :نفس المرجع ،ص 84
– (17) طالبي (عمار): نفس المرجع، ج2م، ص 365
– (18) حماني(أحمد): ابن باديس والثورة،مجلة الرسالة ،وزارة الشؤون الدينية الجزائر،العدد 4،جانفي 1981،ص 4
– (19) نفس المرجع ،ص4
– (20)نفس المرجع ،ص4
بن يغزر أحمد- جامعة الجيلالي بونعامة خميس مليانة