من مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي نجل الشيخ البشير الإبراهيمي
"بطريقة قال عنها أروِ ولا أعلم ما كان شاهدا عليه أو طرقا فيه مستدركا أنه لا يروي كل شيء بل عمد إلى حذف بعض المقاطع يقينا منه كما قال بأنها أقرب إلى السيكولوجيا منها إلى التاريخ وإلى تصرفات الأفراد منها إلى التطور الاجتماعي.
بهذا استهل الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي كتابه مذكرات جزائري في جزئه الأول (1932-1965) الذي جاء تحت عنوان: "أحلام ومحن" ومن إصدار دار القصبة للنشر.
ونظرا لخصوصية هذا النوع من الكتابات فقد جاء الاعتماد على الذاكرة وعلى مجموعة ملاحظات كان قد سجلها المؤلف بهذه المناسبة أو تلك كانت مساعدة على تدقيق التواريخ وأسماء الأماكن والإعلام، كما لجأ إلى بعض الأصدقاء من الجزائر وخارجها من الذين قاسموه حياة الجامعة أو السجن لتصحيح معلومة أو تدقيقها حسب المؤلف دائما.
استهل مذكراته بالفصل الأول جاء تحت عنوان: "طفل في تلمسان 1932- 1945" استهله باستعراض سجل عائلته في العلم ومقاومة المحتل، ويقول: بأن أجداده كانوا يقاومون المستعمر ويجمعون بين حب الثقافة وحب الأرض لذلك خسر هؤلاء الأجداد أراضيهم بعد ثورة المقراني سنة 1870 وتحولت إلى المعمرين الفرنسين فأنصرف أجداده بصفة نهائية إلى التعليم وهكذا اشتهر المدعو المكي الإبراهيمي عم والده بيما كان يلقيه من دروس على مئات الطلبة الذين كانوا يتوافدون عليه من كل أنحاء الشرق الجزائري وكان هو الذي رسخ عند والدي حب العلم و الزهد في المادة .
أما جدي سعدي الإبراهيمي فقد كانت خصوماته مع الإدارة الاستعمارية معروفة، وعانى منها كثيرا حتى إنه اضطر سنة 1910 بسبب قانون الأهالي سنة 1881 إلى الهجرة إلى المدينة المنورة حيث التحق به والدي ابنه الوحيد في السنة الموالية .
كانت أسرتي تحمل دائما اسم الإبراهيمي مفتخرة بانتمائها إلى قبيلة أولاد براهم وسميت عائلة طالب لأنها كانت عائلة من المعلمين، فطالب في عاميتنا يعني معلم المدرسة .
وهكذا فإن بطاقة تعريف والدي المؤرخة في 1938 تحمل لقب طالب، واسم البشير، وكنية الشيخ الإبراهيمي ومكان الولادة كولبير، وتاريخ الميلاد 1891، والمهنة أستاذ حر، والجنسية فرنسي، مسلم أهلي غير متجنس .
ومن جهة الأم، تنحدر أمي حليمة شوكاتلي من أصول تركية، واسمها محرف عن اسم توقاتلي، نسبة إلى مدينة توقات بالأناضول. ولدت في تونس سنة 1904 وهاجرت مع أسرتها إلى المدينة المنورة، وهي في السادسة من عمرها وفي المدينة تعرف والدي على جدي من الأم. وفي دمشق حيث عين والدي أستاذا في مكتب عنبر، أول ثانوية عصرية في سوريا، تزوج من أمي سنة 1919 وفي دمشق دفن جداي من أبي وأمي .
وفي 1920 قرر والدي العودة إلى أرض الوطن هاربا من الفرنسيين وهم يحتلون سوريا، وحاملا معه المشروع الذي طالما تحدث بشأنه مع الشيخ عبد الحميد بن باديس، حين حج هذا الأخير إلى مكة سنة 1913. وبعد توقف لمدة أشهر بتونس، حيث سعدت أمي بلقاء أهلها، استقر بسطيف وفيها أنجب أبناءه الثلاثة: محمد، رشيدة، وأحمد .
لا أحتفظ عن مسقط رأسي بأية ذكرى. لأن والدي غادراه في بداية سنة 1933، حين كان عمري سنة واحدة، للإقامة في تلمسان، بأقصى الحدود الغربية للجزائر .
ولدت بعد عامين من احتفال فرنسا ببذخ وقح بمئوية احتلالها لبلدي (1830-1930) وبعد عام من إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان والدي أحد مؤسسيها وروادها أن تلازم هذين الحدثين ليس عرضيا. فقد كان عمل الجمعية، في ذهن عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي. يندرج في سياق الرد على التحدي الذي مثلته الاحتفالات بمئوية الاحتلال، التي أراد لها المستعمر أن تعلن نهاية الإسلام واللغة العربية في الجزائر، وفي الوقت نفسه يعترف ابن باديس والإبراهيمي بفضل أفكار كل من جمال الدين الأفغاني الذي يرى بأن محاربة الطغيان تقود إلى سعادة الشعوب، ومحمد عبدو الذي ينادي بتطوير التعليم كسبيل يؤدي إلى التحرر
في سنة 1933 أسندت إلى والدي مهمة الإشراف على نشاطات جمعية العلماء في الغرب الجزائري فأختار تلمسان، تلك العاصمة التاريخية، مقرا لعمله. ولهذا السبب ارتبطت ذكريات طفولتي بمدينة تلمسان، حيث عشت من سنة 1933-1941 ومن 1942-1945
سكنا في البداية بيتا، أو قل هو بقايا بيت، بحديقة شاسعة في أغادير، بأطراف المدينة. كانت أمي تحتل الطابق الأول مع أبنائها، محمد الذي ولد في سنة 1924 ورشيدة التي ولدت عام 1928 وأنا في سنة 1932 . وفي الطابق السفلي كانت تسكن عمتي مباركة مع أبنائها الأربعة وكذلك ابن عمة أخرى هو الأخضر .
وكان هذا البيت يحتضن كل عام تجمعا كبيرا بمناسبة المولد النبوي الشريف. فكانت تقام منصة في باحته حيث يجلب مئات تلاميذ والدي للاستماع إلى مدائح دينية وأناشيد وطنية ويشاهدون مسرحية. وكنت أشعر بفخر عظيم وأنا أستمع إلى والدي يقرأ في صمت رهيب خطاب الاختتام، أو حين يلقي أخي، ولما يتجاوز العاشرة قصيدة أو كلمة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعربية مهذبة .
كان والدي في المرحلة الأولى يلقي دروسه في أماكن مختلفة وراح عمله يتطور في الامتداد والعمق. وإذا كان تعليمه يجلب كثيرا من الأتباع، فقد أثار بالمقابل ضغينة الإدارة الفرنسية والزوايا الموالية لها. وهكذا تعرض إلى العديد من الاستفزازات بل حتى إلى محاولات اغتيال كما حدث في معسكر.
وفي سنة 1936 غادرنا بيت أغادير الهادئ الفسيح لنقيم في وسط المدنية بالقرب من مسجد سيدي إبراهيم المصمودي. كان والدي لا يكل ولا يبالي بالتعب فعند الفجر كان يلقي دروسا في حلقة من خمسين شابا من شباب تلمسان وبعد الظهر كان يخطب في ناد حول ماضي الجزائر أو مستقبلها، وفي المساء كان يجمع حوله أتباعه بعد درس في تفسير القرآن الكريم من أجل تجسيد المشروع الذي طالما راوده وشرع في تنفيذه وهو بناء (دار الحديث) وهو مجمع تربوي ديني حقيقي يضم قاعة للصلاة في الطابق السفلي، لأن الإدارة الفرنسية منعته من الوعظ والإرشاد في المساجد الرسمية، وقاعة للمحاضرات في الطابق الأول، وقاعات للتدريس في الطابق الثاني، وقد سماه دار الحديث تيمنا بالمدرسة التي تحمل الاسم نفسه في دمشق التي أسسها نور الدين زنكي وتخليدا لذكرى نظام الملك وصلاح الدين الأيوبي اللذين اشتهرا بتأسيس المدارس. وترمز هذه المؤسسة إلى عمل جمعية العلماء في الجزائر المتمثل في بناء مدارس للأطفال لتدريس اللغة العربية والتاريخ والعلوم
بالإضافة إلى هذا العمل في العمق نجح في إصلاح ذات البين بين الكراغلة المنحدرين من أصول تركية وبين الحضريين. اللذين كانوا قبل مجيئه إلى تلمسان في خصومة دائمة
وكان العديد من أنصار الشيخ منضوين في حزب الشعب الجزائري. ولم يكونوا يجدون أي تناقض في النضال في الحركتين في آن واحد. وكانوا يعتبرون الحركتين متكاملتين: حزب الشعب الجزائري يوقد فيهم جذوة استقلال الجزائر ، وجمعية العلماء تسند أسس وطنيتهم (الإسلام - اللغة العربية).
ونجح الشيخ أيضا في التقريب بين المتعلمين بالعربية، وأغلبهم من طلبته، وبين خريجي الجامعات الفرنسية. وكان من هؤلاء أطباء ومهندسون معماريون .
واحتفظ بصورة أمي التي كانت صارمة مع أبنائها، سواء في قواعد النظافة أو القيم الأخلاقية.
ومازالت ذكريات زيارات الشيخ عبد الحميد بن باديس العديدة إلى والدي عالقة بذهني. كانا يصلان إلى البيت مساء وكنت أنا الذي أصب من إبريق نحاسي ماء وضوئهما. وكانا يسهران طويلا، وفي الصباح الباكر كان ابن باديس يركب القطار باتجاه الجزائر العاصمة. ويوم ذاك كنت ألحظ المفارقة الأخاذة بين جسده الزاهد النحيل وصوته الجهوري الأخاذ، بين نظرته العذبة وحضوره الساحق. كان يضع يده على رأسي، ويدعو لي ببعض الأدعية. وترك ذلك علي كطفل انطباع الرجل الذي يجسد القداسة .
ويوم دشنت دار الحديث سنة 1937، خرج آلاف التلمسانيين في مسيرة ضخمة لاستقباله ومرافقته من محطة القطار إلى المدرسة، أذكر أني بكيت في ذلك اليوم بدموع حرى لأني وصلت، بعد أن غسلتني أمي ومشطت شعري وألبستني أفضل ثيابي، متأخرا إلى الاحتفال بالتدشين .
كان هناك زائر مرموق آخر يأتي مرتين في السنة على الأقل، وهو إبراهيم الكتاني. مبعوث حزب الاستقلال المغربي. وكان الغموض والسرية يكتنفان زياراته. ولم يكن والدي يستقبله في دار الحديث. وإنما في البيت، بعيدا عن أنظار وأعين الإدارة الفرنسية وما أكثرها وكان هو الذي يخبر والدي بنشاطات حزب الاستقلال، ومحن زعيمه علال الفاسي، والجهود الإصلاحية للشيخ محمد بلعربي العلوي وعن الظهير البربري إلخ...
وكان هو أيضا، من يطلع والدي على كل ما كان ينشر بالمغرب الأقصى من نصوص قديمة ومجلات وجرائد ومؤلفات حديثة وليس صدفة أن يكون هو الشخصية غير الجزائرية الوحيدة التي حضرت تدشين دار الحديث، وكأني بالوطنيين المغاربة الذين لم ينكروا يوما تأثير جمعية العلماء الجزائريين في عملهم ، أرادوا بذلك تثمين هذا الحدث .
وحين سيدرس المؤرخون العلاقات المغاربية في الفترة الاستعمارية، سيسجلون بكل تأكيد دور إبراهيم الكتاني كرائد للعلاقات الجزائرية المغربية، و كهمزة وصل بين الوطنيين في المغرب الأقصى والجزائر
وإن نسيت فلن أنسى سفري الأول في القطار. فقد صادفت أيام عطلتي اجتماعا للمكتب الإداري للجمعية، فقرر والدي اصطحابي معه إلى الجزائر العاصمة. و قد أذهلتني زيارتي الأولى إلى العاصمة. وأدهشني اكتشافي البحر. أكيد أن البحر كان يفتنني باتساعه ومجاله وأهواله . كان كل أعضاء المكتب الإداري للجمعية ينزلون في فندق (الديوان) القريب من نادي ترقي مقر الاجتماع، وكان الشيخ بن باديس يطرق غرفة باب والدي كل صباح قائلا له: سأدعك تكتب في هدوء، وآخذ أحمد معي وكنت فخورا أن يأخذني هذا الرجل من يدي و الناس يحييونه، إما من على بعد بتحية احترام، وإما بمصافحة حارة، وإما بتقبيله على الرأس
و كان يقوم بنزهته اليومية سيرا على الأقدام من ساحة الحكومة إلى ساحة بروسون، مرورا بشارع باب عزون، ثم يعود سالكا طريق الكورنيش المطل على البحر الأبيض المتوسط بعد استراحة على مقعد في السكوار، وحين نعود إلى الفندق نجد والدي لا يزال منهمكا في الكتابة .
كان العمل الإصلاحي الديني والاجتماعي الذي شرع فيه والدي يشمل أيضا العادات والسلوك: كان يشجع تعليم البنات، وييسر الزواج بمحاربة مطالب أهل الخطيبة المبالغ فيها بفرض مهر رمزي، ويحارب الطلاق السهل إلخ ...
كان والدي معارضا للالتحاق يالمدرسة الفرنسية بسبب محتوها الاغترابي. والدليل على ذلك هو أن أخي، الذي كان عمره تسع سنوات حين قدمنا إلى تلمسان سنة 1933، لم يدخلها. والشيخ ابن باديس هو الذي أقنع والدي بفوائد تعلم الفرنسية خلال زيارته إلى تلمسان في السنة نفسها . وقد روى لي أخي أنه كان شاهدا على حديث مثير بين الرجلين بشأنه. وكان ابن باديس يرى أن اللغة الفرنسية ستساعدنا على كفاحنا. مستشهدا بمثال الأمين العمودي، الذي برع في اللغتين، وأفاد بذلك الجمعية وابن باديس، نفسه، هو الذي رافق أخي إلى أقرب مدرسة من أغادير ، وهي مدرسة ديسيو التي سيتردد عليها ، ويتابع في الوقت نفسه دروس والدي ، وقد مكنه ذلك من إتقان اللغتين بامتياز .
وفي العاشر من أفريل 1940 صدمت صدمة أخرى جعلتني أكتشف بشكل عنيف الظاهرة الاستعمارية .ففي الساعة الخامسة صباحا اقتحمت الشرطة الفرنسية بيتنا لاعتقال والدي واقتادته بعنف نحو وجهة مجهولة.
لقد أقلقت الحركة الشعبية التي كان والدي يقودها في تلمسان السلطات الفرنسية التي انتهى بها الأمر إلى تحييد آذاه بإبعاده عن تلمسان بمئات الكيلومترات .وقد علمت فيما بعد أن السبب المباشر لنفيه هو رفضه القاطع لتأييد فرنسا في حربها مع ألمانيا.
في الأول من سبتمبر 1939 عبرت الجيوش الألمانية حدود بولونيا، وفي الثالث منه أعلنت بريطانيا العظمى وفرنسا الحرب على ألمانيا، وابتداء من هذا التاريخ فررت فرنسا تحييد الوطنيين الجزائريين ليستتب لها الأمر في الجزائر. كان مصالي الحاج في السجن، وكان ابن باديس مصابا بمرض عضال وكانت أيامه معدودة، ولم يبق إلا الإبراهيمي الذي جعل من تلمسان مركز إشعاع للإسلام والوطنية.
في نهاية 1939 قام القاضي محمد بن حورة برحلة أولى من الجزائر العاصمة إلى تلمسان، وكلف النقيب شون مسؤول مصلحة الاتصال في شمال إفريقيا، (أي مصالح المخابرات في الواقع) بإقناع الشيخ الإبراهيمي بتحديد موقفه عبر أمواج إذاعة الجزائر من النزاع العالمي، لكن الشيخ رفض متحججا بكون الشعب الجزائري لا ناقة له ولا جمل في هذه الحرب، حتى وان أرغم أبناؤه على أن يحاربوا إلى جانب فرنسا. وأمام هذا الرفض أغلقت مدرسة 'دار الحديث' بأمر من الوالي .
وفي مطلع عام 1940 كرر ابن حورة خلال زيارته الثانية إلى تلمسان الطلب باسم الحاكم العام للجزائر، مشفوعا بوعد بإنشاء منصب شيخ الإسلام (مفتي الديار الجزائرية) يسند إلى الشيخ الإبراهيمي، وأمام رفضه للمرة الثانية، قررت فرنسا كما سبق وضعه تحت الإقامة الجبرية بأفلو على بعد مئات الكيلومترات .
بعد مضي عشرة أيام انتهى إلى علم العائلة أن والدي يوجد تحت الإقامة الجبرية بأفلو ، وهي قرية في الجنوب الوهراني، وأن أهله وأصدقاءه ممنوعون من زيارته. لقد غمرنا، والحق يقال، تلاميذه في مدرسة 'أهل الحديث' بأسمى صور التعاطف، ويبدو هذا الأمر طبيعيا. لكن حين اختلى بي جانبا ذات يوم معلمي، السيد بيرسيل وسألني عن أخبار والدي شعرت، بالدهشة والتأثر، وقد ظل التلمسانيون يتذكرون طويلا هذا المعلم الفرنسي، عضو الحزب الشيوعي، الذي كان يحلو له ترديد، أحب تعليم الأطفال الجزائريين. إنها طريقتي الخاصة في التكفير عن ذنوب بلدي الذي حمل إليكم بحد السيف، الإنجيل، الكحول والسيفليس، أجل. الإنجيل لتنصيرنا، والكحول لإفسادنا، والسيفليس للقضاء علينا .
وكان علينا انتظار صيف 1941 لكي ترخص السلطات الفرنسية لأسرتنا تحديدا (أمي وأبناؤها الأربعة) الالتحاق بوالدي .
بمجرد وصوله إلى آفلو أقام والدي بالفندق الوحيد في القرية، فندق جبل عمور، الذي كانت تديره عائلة هرنانداس، ونزل في الغرفة رقم7، وهناك علم برحيل رفيق دربه الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي توفاه الله يوم 16 أفريل وحين علم الشيخ ابن باديس برفض صديقه ما عرضته عليه فرنسا وما ترتب عن ذلك من وضعه تحت الإقامة الجبرية، بعث إليه خطابا مؤرخا بـ13 أفريل، وربما هو آخر ما كتبه، يعبر له فيه عن تضامنه وإعجابه ويقول فيه: فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم: 'الآن يا عمر' فقد صنت العلم والدين صانك الله وحفظك وتركتك، وعظمتهما عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق، وبيضت محياهما، بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم، وأنني أتصور مدى تأثر والدي بهذا المصاب الجلل المتمثل في وفاة الشيخ ابن باديس، ونجد أصداء ذلك في ما خلفه من كتابات في تلك الفترة
كان والدي في أيامه الأولى يشعر بعزلة زاد من هولها تجنب سكان أفلو بصفة عامة زيارة الضيف المبعد من تلمسان خشية انتقام الإدارة، لكن سرعان ما شرع بعض المتعلمين في القرية، من أمثال محمد بن داود ومحمد مريح، في زيارته باستمرار في فندق جبل عمور.
في أوت 1941، وبعد الحصول على ترخيص للأسرة بالالتحاق بوالدي، أكترى شقة متواضعة لاستقبالنا، أمي وأخي محمد وأختي رشيدة وأختي الأخرى زينب التي ولدت في غرة نوفمبر 1938 بتلمسان.
لقد وضعت، بالتأكيد، الحكومة الفرنسية بنفيها لوالدي حدا لتعلميه ولعلمه بصفة عامة في الغرب الجزائري. لكنها قدمت، من حيث لا تقصد، خدمة جليلة لأبنائه الذين أصبحوا لأول مرة ينعمون بحضوره وعلمه، فبعد صلاة الفجر من كل يوم كان والدي ومحمد ورشيدة يتلون جزءا من القرآن الكريم، ثم نجلس حول مائدة وكل واحد منا يحمل كراسا
وكان أبي يملي علينا آية قرآنية، أو حديثا نبويا، أو بيتا من الشعر العربي، وكانت أول آية فسرها لنا هي قوله تعالى: «يا آيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى» وأول حديث شريف شرحه لنا هو: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وأول شعر حفظته عنه هو هذان البيتان :
رضينا قسمة الجبار فينا *** لنا علم وللجهال مال
فان المال يفنى عن قريب *** وأن العلم باق لا يزال
ثم بعد ذلك يخوض في تعليقات على ما أملاه، متبوعة باستطرادات فلسفية وأخلاقية وتاريخية ، وكان في بعض الأحيان يلقي علينا درسا حقيقيا في التاريخ، حيث يتوقف مليا عند التيارات الكبرى أكثر من توقفه عند الحوادث، باختصار، أعتقد أنني مدين في هذه الفترة فيما تعلمته بالعربية.
التأم لأول مرة شمل الأسرة، وهكذا كان لدي متسع من الوقت لملاحظة الوالدين.
كانت أمي في الأربعين من العمر، تنعم بالصحة والصفاء، وكان وجهها يوحي بالطمأنينة ويتسم بالإشعاع، ميزتها صبر جميل وهي ترعى الجميع، وتسهر على كل شيء، أعتقد ان ورعها الرزين ساعدها على تخطي المحن التي ألمت بها.
وكان والدي قد جاوز الخمسين، وكان متوسط الطول، ذا بنية قوية. كان في عنقوان نشاطه. كانت عيناه براقتين، وأسنانه لامعة، بسحنة بيضاء، ولحية مقدودة، وكان يحمل عصا بسبب عرج أصيب به في طفولته. وكان يتألق طيبة. كانت ابتسامته الرقيقة تخلق من النظرة الأولى ودا مدهشا يسمح له بالتواصل مع أقل الناس انقيادا.
كان مناخ أفلو قاريا حارا جدا صيفا وشديد البرودة شتاء بثلوج غزيرة .وكان والدي مضطرا كل يوم اثنين أن يقطع ومهما تكن حالة الطقس، وكانا يزوران من حين إلى آخر والدي. و كان أكثرهم مداومة على هذه الزيارات هو عمار سليمان طالب الذي سيصبح سكرتيرا لوالدي، وهو منحدر من القبائل الكبرى، وكان قد درس في مدرسة المعلمين ببوزريعة. واضطر إلى تركها حين توفي أبوه و خلفه في دكانه بأفلو من أجل إعالة أسرته الكثيرة العدد. أما أخوه الأصغر السعيد الذي ولد في 1930 فقد أصبح رفيقي وصديقي. وقد تقدمنا لنيل شهادة التعليم الابتدائي معا في تيارت في جوان 1942. فقرر والدي عدم ترك السعيد يضيع في أفلو وسجله معي في آن واحد في السنة الأولى إعدادي في ثانوية دي سلان بتلمسان
أكثر من كيلومتر مشيا على قدميه ليذهب إلى مقر الجندرمة في الطرف الآخر من القرية من اجل التوقيع على وثيقة تشهد أنه لم يغادر افلو
كنت مسجلا في المدرسة البلدية في السنة الخامسة ابتدائي, وكان مدرسنا هو السيد مارشال . مدير المدرسة نفسه. وكانت أقليه من الفرنسيين تدرس معي، ومنهم ابن الحاكم الإداري غيزولفي. وكانت القرية تبدو معزولة عن العالم الخارجي وعن السياسة والحرب. باستثناء صباح الاثنين حين كان المدرسون و التلاميذ يحضرون في ساحة المدرسة لرفع الألوان الفرنسية وإنشاد نشيد أيها المارشال، ها نحن على استعداد
كان المدرسان الجزائريان الوحيدان بالمدرسة هما السيد محمد العيد و أحمد صبار
ها أنا إذا من جديد في تلمسان في أكتوبر 1942. لكن هذه المرة من دون والدي اللذين بقيا في أفلو وسكنا وأنا وسعيد عند عمتي يجب أن أعترف أنني كنت تلميذا ممتازا خلال دراستي الابتدائية لكنني أصبحت كسولا في المتوسطة على الأقل خلال السنتين الأوليتين. وكنت أذهب إلى الحوض الكبير رفقة السعيد، لألعب كرة القدم . وكنا نتردد على دور السينما مرة في الأسبوع . وكانت أفلامنا المفضلة هي أفلام جيمس كاغني وروبير تايلور وبيير بلانشار، وكنا نستأجر دراجات ونقوم برحلات طويلة في أرباض تلمسان.
لم يكن الناس في أفلو يشعرون بالفاقة من جراء الحرب فلم يكونوا يجدون ما يشترونه إلا نادرا . وكانوا يتزودون بالحليب والزبدة والبيض والدجاج من السكان أنفسهم . لكن الوضع في تلمسان، كما في كل المراكز الحضرية بالتأكيد ، كان مغايرا . فقد كان الجوع حقيقة صارخة ، وغير تقنين المواد الغذائية من عادات السكان وكان الشمندر والخرشف هما القوت اليومي . وكان اللحم مفقودا وانتشرت المواد البديلة، فعوض الحمص القهوة، واستبدل السكر بالتمر .
وبعد ثلاث سنوات من الإقامة الجبرية في أفلو، أطلق سراح والدي في جانفي 1943، بعد ما استقبله في الجزائر العاصمة الجنرال هنري جيرو، الحاكم المدني والعسكري للجزائر في 23 ديسمبر، رفقة عمار سليمان طالب، ثم التحق بتلمسان، حيث استقبل بحفاوة منقطعة النظير.
وفتحت مدرسة 'دار الحديث' أبوابها من جديد من تلاميذة والدي، أمثال محمد بابا أحمد، وعبد الوهاب بن منصور، ومولاي حسن القادري، وجيلالي حجاج ، ومختار الصبان، وعبد الله بوعنان، ومحمد ملوكة، وأحمد شاوي، ومنير شلبي، وقد واصل بعض تلاميذ والدي دراستهم بالفرنسية حتى شهادة الباكالوريا، مثل بومدين الشافعي الذي هاجر إلى مصر، وأصبح مختصا مشهورا في علم النفس، وبشير قليل الذي عجل به الموت، والتجيني هدام، وعبد المجيد مزيان، اللذين اشتهرا في الجزائر المستقلة الأول طبيب جراح، والثاني كعالم اجتماع .
وكلهم يذكرون دروس والدي بطرق مختلفة، بعضهم يثمن فيه معرفته الجيدة للغة العربية، وبعضهم الآخر يتوقف عند قدرته على الارتجال، وآخرون معجبون بسعة إطلاعه، لكنهم كلهم، بدون استثناء، يتفقون على التأكيد على فصاحته التي كانت كلهم تنسيهم رتابة خطب الجمعة التي تعودوا عليها .وفضلا عن ذلك، كانوا كلهم يعترفون بدفئه الإنساني وذاكرته الخارقة، وجمعه بين الموهبة الأدبية وتفقهه في الدين، أما العلماء الذين عرفوهم من قبله، فقد كانوا إما فقهاء وإما أدباء .
ذات يوم تناول السيد بابا أحمد في درسه تاريخ الزيانيين والمرينيين وتأسيس المنصورة. وكان درسه بمثابة المنبه الذي فتح عيوننا على أشياء جديدة . وبدأنا مع المجموعة من الأصدقاء نزور هذه الآثار كل يوم أحد، ولم يكن الدافع الذي يحركنا هو الحنين الكئيب إلى هذه الرسوم ، لكن الرغبة في العودة إلى المنابع. وكنا نتساءل إذا كان أجدادنا قادرين على تشييد مدن كهذه والدفاع عنها. فما الذي يمنعننا نحن من طرد الغزاة وإقامة العمران؟ ذات مرة ركبنا حافلة باتجاه أبعد إلى ندرومة، مسقط رأس عبد المؤمن بن علي، الذي وحد منطقة المغرب العربي، وأصبح بطلنا الوطني منذ قدم لنا السيد بابا أحمد صورة تفريظية عنه.
ومن جهة أخرى ومنذ الأيام الأولى لارتيادي مدرسة دي سلان، استدعى المدير غالان كل التلاميذ المسجلين في السنة الأولى متوسط ليطرح عليهم هذا السؤال الغريب: ما هي اللغة الأجنبية الأولى التي تختارونها: هل هي العربية، أو الانكليزية، أو الألمانية ؟
ويجب أن أعترف، أيضا، أن الفضل في نجاحي في الثانوية يرجع بالدرجة الأولى إلى أمي .ففي غياب والدي، الذي كان دائما إما في جولة، وإما في المنفى، وإما في السجن، كانت أمي صارمة إزائي، وكنت أضيق ذرعا بها أحيانا، لكنني فيما بعد أصبحت ممتنا لها، وحاولت أن أعبر لها عن عرفاني بطريقة غير موفقة.
وخلال هذه السنوات الثلاث التي قضيتها في تلمسان (1942-1945) حيث كنت في آن واحد تلميذا في 'دار الحديث' وفي ثانوية دي سلان، نشأت علاقة ودية بيني وبين زميلين في الدراسة، هما محمد بغدادلي وعبد الله سلعاجي. وبدأ اهتمامي بالسياسة يزداد نموا إلى أن بلغ أوجه خلال حوادث 8 ماي 1945.
لم نكن نتحدث في السياسة في الثانوية، لكننا في المدرسة كنا نتابع بتعاطف ، يشجعنا في ذلك معلمونا. حركة أحباب البيان و الحرية. و كنا نشاهد على جدران المدينة كتابات مثل أطلقوا سراح مصالي و الإبراهيمي، وعباس. وفي تلمسان جاءني خبر اعتقال والدي في الجزائر العاصمة يوم 27 ماي 1945 مرفوقا بتفتيش دقيق لمنزلنا في القبة .
كان والدي نشطا منذ أن أطلق سراحه من أفلوفي جانفي 1943، ليس في الغرب الجزائري فحسب، بل في عموم الجزائر بحكم رئاسته لجمعية العلماء، و يبدو أنه كان مصمما على تجاوز الإطار الثقافي لدخول المعترك السياسي. ويتجلى ذلك بمناسبة زيارة لجنة برلمانية أرسلتها الحكومة الفرنسية بهدف إعداد تقرير حول الإصلاحات الإسلامية في الجزائر. والتي اتصلت لهذا الغرض بشخصيات إسلامية. من بينهم الشيخ الإبراهيمي. يجدر التوقف عند إجابته على هذه اللجنة. أن أقترح إصلاحات في مجالات القضاء و التعليم والمساجد. وهو ليس بالشئ الجديد في مساعيه ، تطرق إلى إصلاحات سياسية لخصها في خمس نقاط :
أولا: إنشاء جنسية جزائرية تشمل جميع الطوائف التي تعيش بهذا الوطن بغير تميز بين أصولهم وأديانهم ، يساوون بموجبها في الحقوق والواجبات.
ثانيا: استبدال جميع التشكيلات الاستعمارية بحكومة تسمى الحكومة الجزائرية تكون مسؤولية أمام مجلس تشريعي جزائري (برلمان)
ثالثا: إسناد الوظائف الإدارية لجميع الجزائريين على أساس الكفاءة الشخصية .
رابعا: اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في المعارف و الإدرارات بجانب اللغة الفرنسية .
خامسا: يحفظ لأهل كل دين حقهم في إقامة شعائر دينهم ،و تصرفهم المطلق في معابدهم وأوقافهم بواسطة تشكيلات حرة يرتضونها لأنفسهم .
هل ينبغي لي أن أشير إلى هذا النص الذي وجه إلى الحكومة الفرنسية حرر في 1944 ، أي عشر سنوات قبل انطلاق الثورة و 18 سنة قبل استعادة الاستقلال؟
وبنفس التوجه و المسعى شارك الإبراهيمي مشاركة فعالة في اجتماعات أحباب البيان والحرية التي كانت تجمع أتباع مصالي الحاج و أنصار عباس فرحات، وهي الحركة التي كانت تنشد كهدف دائم لها وحدة الوطنيين
رفض أحباب البيان و الحرية أمرية 1944، و كان ديغول هو ملهمها ، لأنها تجاهلت إنشاء الدولة الجزائرية .
ولنفس المسعى استقبل والدي في تلمسان في جويلية 1944 المخيم الفيدرالي للكشافة الإسلامية الجزائرية وقد كان دائما من داعمي الحركة الكشفية، وبرز كمنظم من الطراز الأول، حين حث سكان تلمسان على إيواء 400 مشارك كانوا مخيمين في موقع لالا ستي الرائع، ويتناولون طعامهم عند العائلات التلمسانية. وقد اندهشت و تأثرت بالاستعراض الذي قام به هؤلاء الشباب في شوارع المدينة. وقد استشهد البعض منهم أثناء حوادث ماي 1945 .
ويجدر التذكير هنا بأنه في الوقت الذي كان يحتفل فيه الحلفاء بـ8 ماي 1945، معتقدين أنهم تخلصوا نهائيا من الفاشية والنارية. وكأيديولوجيات قاهرة لإرادة الشعوب و في الوقت الذي أنجز فيه ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو انضمت الجزائر إلى هذه الاحتفالات بتنظيم مظاهرات في شوارع سطيف وقالمة وخراطة وغيرها. لتظهر للعالم أن الانتصار على النازية هو أيضا انتصار لحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبدل أن يتعامل الجيش الفرنسي مع هذه الفرحة العارمة بصفة ايجابية. رد على أهلها. بلا رحمة وبلا شفقة وأزهق 45000 من الأرواح. وكان من بين الضحايا عائلات جنود جزائريين مجندين في الجيش الفرنسي شاركوا في تحرير فرنسا من النير النازي تصوروا لحظة كيف كان تفكيرهم و شعورهم حين عادوا إلى أرض الوطن ولم يجدوا أهلهم وذويهم.
أما بالنسبة إلينا .نحن تلاميذ 'دار الحديث' وثانوية دي سلان، فإن مجازر 8 ماي 1945 دقت ناقوس نهاية الأطروحات الاندماجية (التي ابتذلت في نظرنا) وأضاءت لنا الدرب، وهو أن الاستقلال آت لا محالة. وإذا كانت فرنسا تملك القدرة على القمع، فمن واجبنا أن نصمد وان نقاوم .اعتقل والدي يوم 27 ماي 1945 بتهمة التحريض على هذه المظاهرات .وبعد أن عانى عدة أشهر من الحبس الشاق في السجن العسكري بالجزائر العاصمة، نقل إلى المستشفى العسكري في قسنطينة، قبل أن يطلق سراحه في مارس 1946.
إن حوادث ماي 1945 والمذابح التي راح ضحيتها آلاف الجزائريين جعلتني أدرك حقيقة القمع الاستعماري بكل حدته وبشاعته. ومنذ ذلك الوقت بدأت أهتم بالمشاكل السياسية المرتبطة بمستقبل بلدي. ليس فقط لأن والدي كان مسجونا، لأن كلمات مثل 'الوطن' و'الاستقلال' لم تعد مجرد كلمات، وإنما أصبحت تثير في نفسي كثيرا من الانفعال والتأثر .
الفصل الثاني جاء تحت عنوان مراهق في العاصمة 45-1949: حيث بوفاة الشيخ ابن باديس تولى والده رئاسة الجمعية وانتقلت العائلة إلى العاصمة وهنا تعرف على شخصيات بارزة مثل حسين لحول، أحمد بودة، فرحات عباس، أحمد بومنجل، عمار أوزجان وغيرهم، كما يقول عن نفسه أنه في هذه الفترة كنت شغوفا بالمطالعة خاصة وأني كنت محاطا بالكتب وفي هذه الفترة أيضا مررت بتجربة زهد صوفي أو بالأحرى ورع مغالى فيه، وعن اختياره لدراسة الطب يقول أن الكتابان اللذان ساهما في توجيهه نحو هذا العلم هما مدخل إلى دراسة الطب التجريبي لكلود برنارد والإنسان ذلك المجهول لألكسيس كاريل.
وعن تجربته الصحفية الأولى يقول شرعت في كتابة مقالاتي الأولى بالعربية أملا في نشرها في البصائر لكن والدي كان يرفضها ويوصيني قائلا: قبل أن تكتب يجب أن تحسن القراءة وقبل أن تتكلم يجب أن تحسن الإصغاء، ليتحدث بعد ذلك عن الآلة الراقنة أوليفيتي التي أحضرها والده إلى البيت وكانت عربية والتي حولته من ابن إلى سكرتير لوالده خلال سنوات 1948-1952 حيث كان والده يملي عليه مراسلاته التي يبعث بها إلى مراسليه الموزعين عبر العالم ذاكرا أسماء كل من شفيق معلوف في ساوباولو، والمستشرق عبد الكريم جرمانوس في بودابست، وراعي العلماء والأدباء محمد نصيف في جدة، والكاتب طه حسين في القاهرة، لكنه يأسف لعدم عثوره بعد استعادة الاستقلال على نسخ من هذه المراسلات.
وفي دراسته للطب أيضا يقول حين اخترت هذا التخصص أهداني والدي كتابا لا يقدر بثمن هو طبعة من القانون لابن سينا منشورة في روما سنة 1593 وحين سلمني الهدية علق قائلا: من خلال هذه الموسوعة العظيمة سوف تدرك أن أجدادك ساهموا مساهمة لا يستهان بها في بناء صرح الحضارة الإنسانية حتى في الميدان الذي اخترته.
الفصل الثالث عنونه في رحاب جامعة الجزائر 46-1954: الشباب المسلم رحلات نحو الغرب والشرق: استهل هذا الفصل بالإقرار أن الطلبة الجزائريين كان عددهم لا يتجاوز عشر مجموع الطلاب البالغ عددهم خمسة آلاف طالب في جامعة الجزائر ويعيشون في وسط مغلق ومع ذلك كانت هناك مجموعتان صغيرتان نشيطتين ومهيكلتين جيدا وهما الشيوعيون والمسيحيون اليساريون، ويقول كانوا يدعونني إلى بعض المناظرات لعل أسخنها نقاش حول الأمة الجزائرية "بينما الشيء الوحيد الذي كان يعيبه على الطلبة المسيحيين هو أن إرادتهم لفهم الجزائر العميقة وقعت إلى حد كبير تحت تأثير شباب جزائري نأى بنفسه عن الإسلام، قبل أن يسرد أمثلة عن عنصرية بعض الأساتذة تجاه الفرنسيين ويكتشف فرنسا سنة 1950 عندما يرافق والده للعلاج ويكتشف أيضا أن فرنسيي فرنسا أكثر طبيعية وأقل توترا من فرنسي الجزائر فهناك يخاطبك الناس مخاطبة الند للند.
ويذكر عن والده أيضا أنه في سنة 1951 سافر مرة أخرى إلى باريس للقاء وفود البلدان العربية والإسلامية المجتمعة بمناسبة انعقاد دورة الأمم المتحدة واقترح عليها تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة القادمة للأمم المتحدة، ليستدعى ابتداء من 07 مارس 1952 لزيارة بعض البلدان العربية كتب لها أن تستمر عشر سنوات.
ويتحدث عن جو دراسته بالجامعة فيقول كنا نصدم بلا شك بجدار من اللامبالاة والاحتقار لكننا نحن أيضا نفتقد إلى الليونة ورحابة الصدر ولا أذكر أنني ناقشت مشكلة بعمق مع زميل أوربي، ومن جهة أخرى كانت المشاكل المهمة التي لها صلة بمستقبل البلاد لا تطرح للنقاش لأنها تدخل ضمن المحرمات، وأما ما يسميه بالمفارقة يقول بدأت في التفكير جديا في رد الفعل وخلصت إلى نتيجة وهي أن أفضل طريقة للدفاع هي إنشاء جريدة باللغة الفرنسية تكو ن بالمقابل وسيلة للتأصيل ومن ثمة وسيلة للتحرر وعرضت المشروع على الشخصيات الثلاث التي كانت تدير جمعية العلماء في غياب والدي (العربي التبسي ومحمد خير الدين وأحمد توفيق المدني) فوافقوا عليه، وهكذا صدر العدد الأول من le Jeune musulman في 06 جوان 1952 التي انضم إليها فيما بعد شخصيات مثل مالك بن نبي وعبد العزيز خالدي والهاشمي التيجاني وإسلام مدني، ليتعرض بعدها للسجن أكثر من شهر ويقول مثلت أمام المحكمة العسكرية وإني لمدين بإطلاق سراحي إلى التدخل الحازم لفرحات عباس الذي كان آنذاك نائبا في المجلس الجزائري وفي يوم 22 أوت 1953 يقول وصلت القاهرة وكلف والدي الذي كان في الحج طالبا مصريا وهو علي عفيفي ليرشدني فزرت معه مقر "الإخوان المسلمين" حيث استقبلني المرشد العام نفسه حسن الهضيبي وكذلك مسؤولو الفروع المختلفة (طلبة وعمال وفرع الاتصال بالعالم الإسلامي) إضافة إلى حضوره عدة أنشطة أخرى..
ويضيف كان والدي يغتنم كل الفرص التي كانت القاهرة تتيحها له للتعريف بالقضية الجزائرية قبل أول نوفمبر 1954 أو بعده، وكان يحاضر في مقر "الإخوان المسلمون" وكان يجلس في الصف الأمامي كل من حسن الهضيبي وسيد قطب وعبد القادر عودة وعبد الحكيم عابدين وسعيد رمضان ومحمد الغزالي، كما يذكر استقبال عبد الناصر لوالده وتعرفه على بعض أعضاء مجلس الثورة.
وبعودته للجزائر في 1953 عاد ومعه أمل التحرر من الاستعمار بعد أن فتحت له رحلته إلى مصر باب الأمل في مستقبل أفضل لبلدي كما يقول وبدا له التحرر ممكنا وقريبا لأنه على حد قوله يندرج في مسيرة شاملة لتصفية الاستعمار كانت جارية ولأننا نملك قاعدة خلفية هي العالم العربي الإسلامي ومنارته هما القاهرة وباكستان.
كما يذكر استقبال الشيخ محمد نصيف له ووالده وهما في الطريق لمكة لأداء فريضة الحج وما بعثت فيه من أحاسيس وانفعالات روحية وفكرية وسياسية، في وقت كان والده في انتظارهم في دمشق وهناك كما يقول تعرفت على أصدقائه مثل بهجت البيطار وزين العابدين بن الحسين ومصطفى السباعي زعيم الإخوان المسلمين في سوريا، ليعرج فيما بعد على تركيا التي قضى فيها أسبوعا في اسطنبول وكانت الطائرة التي حملته من بيروت مكتظة بحجاج أتراك عائدين من جدة يصف المشهد فيقول يا له من ورع لم يفلح كمال أتاتورك في إخماد إيمان الشعب التركي أو حتى إضعافه.
وعند عودته للجزائر يخبره صديقه أنه حول ملفه من كلية الطب بالجزائر إلى باريس وأن أباه لن يوافق على ذلك إلا إذا سافرنا معا ويقول نجحت بصعوبة في إقناع والدي بذلك.