جمعية العلماء … الملف الإعلامي
بقلم: محمد بغداد –
يمكن فهم الأبعاد الإستراتيجية للمشروع الإعلامي لجمعية العلماء، من خلال ما أكده ابن باديس، وشرح أهدافه وبين غاياته بقوله: (باسم اللّه، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون، وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها) ، إن هذا الخط الافتتاحي، الذي وضع معالمه ابن باديس، قد يكون مثار الكثير من الجدل والنقاش واستعراض وجهات النظر، حول مفهوم الصحافة ودروها، إلا أن البعد البراغماتي والإيديولوجي، بارز في المفهوم الذي يعتنقه المشروع الإعلامي لجمعية العلماء، وهو المشروع الذي تمكن من تحقيق أهم هدف له، المتمثل في ترسيخ صورة جمعية العلماء في المخيال الجماعي للمجتمع في السنوات القادمة، وهو الهدف الذي ضمن للجمعية تواجدها في الوجدان الجمعي عبر التاريخ.
راهنت جمعية العلماء على الخيار الإعلامي في تحقيق أهدافها ومواجهة خصومها، وإن كانت الجمعية لم تخترع هذا السلاح وإنما وجدته متوفرا في الساحة، كون الممارسة الإعلامية الجزائرية كانت في قمة نشاطها، فأسست جمعية العلماء العديد من الجرائد في حركة متوالية وتصميم عنيد ظاهر، يواجه كل قرار تعسفي استعماري، بالغلق أو المصادرة، بإطلاق مشروع جريدة أخرى، معتمدة على الإمكانيات المادية التى كانت تحوزها، والتي توفرها لها النخب البرجوازية التي كانت تناصرها، فأصدرت جريدة السنة النبوية المحمدية، وجريدة الشريعة النبوية المحمدية، وجريدة الجحيم، وجريدة الصراط السوي، وجريدة البصائر، وجريدة الشهاب، وهي المشاريع التي كان قد تم الإعداد لها قبل تأسيس الجمعية، من خلال ما حازه مشروع جريدة المنتقد، التي أطلقها ابن باديس سنة 1925، والتي جعلها المرجع الأساسي لبناء المشروع الإعلامي لجمعية العلماء.
ارتكز المشروع الإعلامي لجمعية العلماء في تحقيق أهدافه على مرتكزات أساسية، تمثلت في الاعتماد على المحترفين من الإعلاميين، الذين امتلكوا الخبرات الصحفية والمهارات الإعلامية خلال تواجدهم في المشرق العربي، والذين كانوا قد فهموا جيدا الرهان الإعلامي، واستثمرت فيهم الجمعية وفتحت المجال أمامهم لقيادة الجرائد التي أسستها، وهي الفرصة التى اعتبرها هؤلاء البوابة الأهم لإبراز قدراتهم وتحقيق النجاح من خلالها، الأمر الذي ساهم بقدر كبير في إعطاء المشروع الإعلامي للجمعية زخمه القوي وفعاليته الميدانية، بالرغم من الصعوبات التي واجهها أولئك الإعلاميون، وبالذات من قبل الذهنية القيادية للصف الأول للجمعية، الذين كانت الأولوية عندهم للخطاب الاصلاحي، وليس للخطاب الإعلامي.
كما إن إدراج جمعية العلماء لمشروعها في سياق التجربة الإعلامية الوطنية، والاستفادة من ديناميكية الحركة الصحفية الجزائرية، التي بلغت في العشرينات والثلاثينات أوج قوتها، جعل من المشروع يأخذ شرعيته الميدانية في انسجام توليفي، يجعل من الصحافة وسيلة مقاومة ذاتية، توفرت للنخب في تلك الظروف للتعبير عن هويتها والإعلان عن مواقفها والتعريف بهويتها، وهو الأمر الذي جعل المشروع الإعلامي للجمعية، يستفيد من الخبرات المتوفرة آنذاك، على مستوى الشعور الجمعي والمسار القائم.
ومن المرتكزات المهمة التي اعتمد عليها المشروع الإعلامي لجمعية العلماء، تلك المواقف العنيفة والقمعية التي واجهت به السلطات الاستعمارية جرائد جمعية العلماء، وهي السلطات التي كانت تسارع دائما إلى قمع الإعلاميين وغلق جرائدهم وتسليط أقصى العقوبات عليهم، وحرمانهم من حرية التعبير، وهي السلوكات التي أعطت للمشروع الإعلامي الشرعية الذاتية، وزادت من مصداقيته لدى الرأي العام، باعتبار ذلك المشروع هو المعبر عن الذات والمدافع عن الشخصية والمنافح عن الحقوق الجماعية، فاكتسب المشروع شرعية تمثيل الذات ومنبره في مواجهة الآخر الاستعماري.
إن المشروع الإعلامي لجمعية العلماء، بقدر ما حقق من الأهداف التي سعى إليها، بقدر ما يشكل موضوعا مهما للنقاش والتساؤل، وبالذات تلك الأسئلة المتعلقة بالهوية الإعلامية الذاتية، التي تشكل المرجعية المهنية والأخلاقية للممارسة الإعلامية الجزائرية، والتي يعتبر فيها المشروع الإعلامي للجمعية، المحطة البارزة فيها والأكثر جدلا، وهو اليوم يحتاج إلى مناقشته في تلك المواقع المتخصصة والمناسبة له، بعيدا عن المزاجية والعاطفية والانطباعية، حتى تتمكن النخب الإعلامية القادمة من تكوين صورة قريبة من الحقيقة عن هويته الإعلامية.