ابن باديس مجدد التّفكير الدّيني في الجزائر
بقلم: عبد الرزاق الحمامي-
كان عبد الحميد بن باديس (1940-1889) من أبرز دعاة تجديد التّفكير الدّيني في الجزائر وهو من تلاميذ الشّيخ الطّاهر ابن عاشور بالجامعة الزّيتونية، ونظراً إلى انتمائه إلى ذات المدرسة السّلفية فإنّ مواقفه بين إصلاح المجتمع الإسلامي تكاد لا تختلف عن مواقف أستاذه، فلا صلاح للمجتمع دون إصلاح الفرد ولذلك اعتنى الإسلام بتهذيب الفرد وتقويم خُلقه واستقامة سلوكه سالكاً في ذلك طريقتين: 1- إصلاح عقائد الفرد من الشّرك، 2- إصلاح أخلاقه من المفاسد والمساوئ.
فالعقائد والأخلاق هما أساس الأعمال والمجتمع، كما يرى ابن باديس، وهو يبّرر تنبيهه إليهما باستمرار، فالعقائد السّليمة هي قاعدة الإصلاح الاجتماعي، وما بلغه المسلمون من تدهور مردّه تدهور العقيدة عندهم وتطرّق الشرك الخفيّ إليهما، وعليه فلا علاج لهذا التّقهقر إلاّ بإصلاح العقيدة الدّينية، إنّه نفس ما انتهى إليه ابن عاشور وغيره أيضاً من المجدّدين، يقول ابن باديس «فالإيمان والتّقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأنّنا إذا ألتزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب، ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلاّ إذا أقمنا متعاونين أفراداً وجماعات، فجعل كلُّ واحدٍ ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه ثمّ فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثمّ في جميع أهل ملّته، فمن جعل هذا من همّه وأعطاه ما قدر عليه من سعيه كان خليقاً أن يصل إلى غايته أو يقرب منها»(1).
ويطرح الخطوط الكبرى لإصلاح المجتمع عبر الدّين في نفس خطابي قائلاً: «ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشّرك وأخلاقنا من الفساد وأعمالنا من المخالفات، ولنستشعر أُخوّة الإيمان التي تجعلنا كجسد و احد ولنشرع في ذلك غير محتقرين لأنفسنا، ولا قاطنين من رحمة ربّنا ولا مستقلّين لما نُزيله كلّ يوم من فسادنا، فبدوام المسعى واستمراره يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله»(2).
فالإقرار بوجود فساد واضح وعلاجه بمقاومة الشّرك في العقائد، وقد سخّر ابن باديس كتاباته لغرض مقاومة الفساد في الأخلاق، ومن هنا نفهم سبب حملته على رجال الصّوفية لتأثيرهم السّلبي في عقيدة البسطاء من النّاس واستئثارهم بكرامات مزعومة تشرّع للشّرك بالله وتُضعف قوى الأمّة عن مكافحة الاستعمار وتبدّدها في انتظار الحلول من لدن الصّوفية والأولياء. لقد نقد ابن باديس ما رَان على عقيدة المسلم الجزائري من خرافات وبدع فأنبرى للكشف عن مظاهر الشّرك السّائدة في المجتمع إذ لا يمكن إصلاح النّفس بالعقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة فقط، وإنّما أيضاً «بصحة العلم، وحجّة الإرادة، فإذا صلُحت النّفس هذا الصّلاح، صلُح البدن كلّه بجريان الأعضاء كلّها في الأعمال المستقيمة، وإذا فسدت النّفس من ناحية العقائد أو ناحية الخُلق أو ناحية العلم أو ناحية الإرادة فسد البدن وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السدّاد»(3).
ومن مظاهر التجديد في فكر ابن باديس أنّه كان سلفياً متفتحّاً، فهو لم يكتف بالاحتماء وراء سياج المدرسة السّلفية مكتفياً بالدّعوة إلى إحياء الماضي لتحقيق الإصلاح واسترجاع ما كانت عليه الأمّة من تقدّم ورقيّ ومقاطعة الحاضر، فهو دعا إلى ضرب من التّوفيق على نحو ما اقترحه قبله خير الدين التّونسي منذ القرن التّاسع عشر أي المزاوجة بين إيجابيات التّراث من جهة واقتباس وسائل الحضارة الحديثة من الغرب من جهة ثانية شرط عدم الذّوبان فيه وفقدان الشخصية وعلامات الهويّة، ففي بعض مقالاته في جريدة «الشهاب» خاطب ابن باديس المواطن الجزائري قائلاً: «... وحافظ على مالك فهو قوّام أعمالك، فأسلك كلّ سبيل مشروع لتحصيله وتنميته وأُطرُق كلّ باب خيري لبذله، حافظ على حياتك، ولا حياة إلاّ بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداته، وإذا أردت الحياة لهذا كلّه فكن ابن وقتك تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطُرق المعاشرة والتّعامل، كن عصريّاً في فكرك وعملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدّنك ورقيّك»(4).
ومن أطرف مواقف ابن باديس التّجديدية وعيه بعامل الزّمن ودوره في تقدّم الأمم إن هي أدركت قيمته ودوره في الحياة فعند تفسيره للآية 79 من سورة الإسراء {أقم الصّلاة لدلوك الشّمس إلى غسق اللّيل} يعلّق: «في ربط الصّلاة بالأوقات تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكلّ عمل وقته، فللنّوم وقته وللأكل وقته، وللراحة وقتها، ولكّل شيء وقته وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته وتطّرد أعماله ويسهل عليه القيام بالكثير من الأعمال...»(5). ومثل هذا الوعي ينسجم عموماً مع رأيه في ضرورة الإعداد للنّهضات الإصلاحية، فهي لن تقوم على الفوضى أو الارتجال بقدر ما تحتاج إلى الفكر والتّخطيط والتّنظيم والدّقة، لكن عند تحديد أدواء المجتمع الإسلامي وحاجته الماسة إلى العلاج أو الإصلاح يكتفي بدواء واحد هو القرآن، فقياساً على مجتمع الدّعوة والمرحلة الخلافية الرّاشدة، وهو مجتمع تكوّن في أحضان القرآن فكان «سليم العقل والضّمير والوجدان قويّ الجسم والخلق والإرادة» ينبغي في رأي ابن باديس الرّجوع إلى القرآن لإنقاذ المجتمع من كلّ ما يعانيه فضلاً عمّا يوفّره من وازع نفسي لمقاومة أعداء الإسلام الذين اغتصبوا أرضه: «لا نجاة من هذا التّيه إلاّ بالرّجوع إلى القرآن، إلى علمه وهديه وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه»(6).
وإذا كان القرآن وسيلة جوهرية لعلاج العقيدة والأخلاق وهما متلازمان في جلّ مواقف ابن باديس ومؤدّيان إلى علاج باطن المسلم فينعكس ذلك على سلوكه في الحياة العمليّة فإنّ مجهودات الفرد لتحقيق نهضة المجتمع الإسلامي الشّاملة تبقى ضئيلة، وعليه فلابدّ من تنظيم يوحّد جهود المسلمين في شكل حركة أو جمعيّة تتّفق أهدافها وطرق عملها: «إنّما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم باللّه ورسوله إذا كانت لهم قوّة، وإنّما تكون لهم قوّة، إذا كانت لهم جماعة منّظمة، وتفكّر وتدبّر وتتشاور وتتآزر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضّرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة»(7). وقد أسّس ابن باديس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، وكان لها دور هام في التّصدي للبدع والمساهمة في نشر التّعليم العربي ومقاومة الاتجاهات السّياسية المنحرفة كالفرنسة والتجّنيس والاندماج، وقوّت العاطفة الدّينية في نفوس الجزائريين بما ساهم في دعم حركة التّحرر الوطني والثورة على الاستعمار، وشعوراً منه بقيمة الجمعية التي أسّسها نجده يقول في «الشهاب» سنة 1936 «لم تقم في أمّة إسلامية هيئة علمية منظّمة تعلن الدّعوة إعلاناً هاماً وتصمد للمقاومة غير مبالية بما يؤيّد البدع والضّلالات من سلطان ديني وسلطان دنيوي ـ غير الأمّة الجزائرية فكان من علمائها الأحرار المستقلّين الذين لا يعيشون على الوظيفة أولئك الذين نهضوا بالدّعوة الإصلاحية منذ بضع عشرة سنة وجاهدوا فيها للّه وصابروا وأسّسوا لها مؤسّسة دينيّة جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين حتّى أصبحت الدّعوة الإسلامية. والفضل للّه ثابتة الأركان مشيّدة البنيان باسقة الأفنان، دانية الثّمار وارفة الظّلال، لا على الجزائر وحدها بل على الشّمال الأفريقي كله»(8).
وعبّرت جمعية العلماء هذه بواسطة رئيسها عن رؤية إسلامية شاملة للأوضاع ولطريقة إصلاحها، ففي سياق التّصدي للبدع والضّلالات وجّه بياناً إلى علماء الزّيتونة في جريدة البصائر سنة 1936 يستنكر فيه صمتهم عن مقاومة البدع بعد أن تحرّك علماء الأزهر وعلماء طرابلس الغرب وطالبوا بوجوب إلغاء ممارسات أصحاب الطّرق وشعوذتهم وتوجيه علماء المغرب نداءاً إلى ملكهم يدعو إلى منع بدع الطّوائف كالعيسوية، فهو يسائلهم مستنكراً «فأين أنتم أيّها الشّيوخ، وأين إيمانكم؟ لقد سُئلتم عن رفض الشريعة الإسلامية بسبب التَّجنس ذلك الرّفض المخرج عن الإسلام فسكتّم، وقال النّاس إنّكم خفتم على مناصبكم وها أنتم أولاء تُسألون اليوم عن البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين باسم الدّين، تُنكر البدع التي أماتت ضمائرهم وخدّرت عقولهم وجمّدت أفكارهم وأفسدت أخلاقهم وأضاعت أموالهم، وسلبتهم حقيقة دينهم، وتركتهم بلاءاً على أنفسهم، وفتنة لغيرهم، فهل أنتم اليوم أيضاً ساكتون، وبالتّخوف على مناصبكم معتذرون؟»(9).
والواقع أنّ هذا البيان على صلة وثيقة بردود على فتوى أصدرها شيخ الإسلام المالكي محمد الطّاهر ابن عاشور حول قراءة القرآن على الميت بجريدة «الزهرة» سنة 1936، وهي ردود قام بها عبد الحميد بن باديس على امتداد أسابيع بجريدة البصائر النّاطقة بلسان جمعيّة العلماء خالف فيها أستاذه ابن عاشور، وعكست وجهاً من وجوه الحوار داخل المدرسة السّلفية وشدّة الحماس للدّفاع عن مبادئ الدّين واعتباره الوسيلة الوحيدة والمثلى لأيّ تجديد أو إصلاح. فدور العلماء في تحقيق الإصلاح جوهري ومسؤوليتهم جسيمة في نظر ابن باديس.
الهوامش :
(1) ابن باديس، عبد الحميد: ابن باديس حياته وآثاره (في 4 أجزاء)، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، ط1، 1968 والشاهد من تفسير ابن باديس ص 164.
(2) المصدر نفسه.
(3) تفسير ابن باديس، ص96.
(4) الشهاب، العدد 49، السّنة الثانية، 2 أوت 1926.
(5) تفسير ابن باديس، ص173.
(6) الشّهاب، جII، المجلد 8، ص57.
(7) تفسير ابن باديس، ص428.
(8) الشهاب، الجزء 12، المجلّد 11، عدد ، مارس 1936، ص464.
(9) ابن باديس حياته وآثاره مرجع مذكور ج3، ص 117.