الفكر الحضاري عند الإمام الشيخ عبد الحميد ابن باديس
بقلم: د. محمد الدراجي –
كان فكر الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله وما يزال، موضع اهتمام الدارسين والباحثين، رغم كثرة البحوث التي تناولته بالدراسة والتحليل، والاستنتاج والاستنباط، ورغم تنوع هذه البحوث والدراسات، إذ كان بعضها عبارة عن مقالات صحفية، والبعض الآخر مقالات علمية، والنوع الثالث كان عبارة عن كتابات عامة، و النوع الأخير هو عبارة عن دراسات أكاديمية متخصصة.
وذلك كله لأن جوانب العظمة في هذه الشخصية العملاقة متعددة ومتنوعة، فهو مصلح اجتماعي كبير، سخّر قدراته لمحاربة مظاهر التدهور الاجتماعي في الأمة الإسلامية، و هو مربّ أفنى عمره في تربية الأجيال وربطها بأصولها الثقافية والفكرية والحضارية حتى لا يمسخها الاستعمار بالتجنيس والاندماج.
وهو صحفي قدير وظف القلم و القرطاس لبلوغ مآربه في إيقاظ الحس الوطني والديني عند قطاع عريض من هذا الشعب الأبي.
وهو مجاهد كبير جابه الاستعمار الفرنسي دون خوف أو وجل، فأفسد عليه مشاريعه ومخططاته وهو شاعر مرهف الإحساس يتدفق شعره بالمعاني الجليلة والحكم السامية، وهو مفكر من الطراز العالي غلغل الفكر في البحث عن أسباب الوهن الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية، وهو أديب كبير امتلك ناصية اللّغة، ولهُ أسلوب يبوئه مكانة عالية بين الكتاب المجيدين، و هو خطيب مفوّه يشد إليه السامعين، ويستثير كوامنهم ويحرك وجدانهم، و هو مفسر لكتاب الله تعالى له نظرات مُوَفَّقةٌ في إدراك أسراره وفهم معانيه، وغيرها من الجوانب التي أشار إليها عارفوه ونوّه بها مترجموه.
ونحن في هذا البحث، سنجتهد في تتبع معالم الفكر الحضاري، في تراث الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، و هي كثيرة جدّا، وعليه فليس هدفنا هو الاستقصاء، وإنّـما الإشارة إلى جملة من القضايا التي تبرهن على أن الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس قد ارتقى بفكره إلى مستوى الحضارة، و عالج مشكلاتها وقضاياها من منظور إسلامي خَالص.
تحليل المصطلح
الفكر الحضاري، تركيب وصفى، يتألف من مصطلحين اثنين وهما الفكر و هو المصطلح الأول، والحضارة وهي المصطلح الثاني، ومادام فهم الشيء المركب متوقف على فهم جزئيه أو أجزائه، فلابد من تعريف الفكر أولاً، ومن تعريف الحضارة ثانيا، ثم نركب منهما مصطلحا يكون بمثابة اللقب للمفهوم الجديد.
فالفكر : هو النشاط العقلي، جاء في كتاب « المفردات في غريب القرآن » : الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، و التفكير جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دور الحيوان، و لا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب(1).
وهذا النشاط العقلي يتنوع بحسب الموضوع المتأمل فيه، فيصير إما فكرًا مجردًا، أو فكرا فلسفيا، أو دينيا، أو تاريخيا و هكذا، و الذي يهمنا نحن كثيرا هو الفكر الإسلامي وهو التأمل العقلي الناضج في نصوص الإسلام ومحاولة فهمها صحيحا، والاجتهاد في تنزيلها على الواقع، و عليه فالفكر الإسلامي غير الإسلام، و لقد أشار العلامة المرحوم محمد الغزالي إلى هذا الفرق الجوهري بين الإسلام و الفكر الإسلامي، فقال « و كنا في أثناء دراستنا الإسلامية نعرف الفرق بين الإسلام و الفكر الإسلامي، و بين الإسلام و الحكم الإسلامي.
الإسلام وحي معصوم لا ريب فيه، أما الفكر الإسلامي فهو عمل البشر في فهمه، و الحكم الإسلامي هو عمل السلطة البشرية في تنفيذه وكلاها لا عصمة له، و عندما يخطئ مفكر فإن خطأه لا يبقى طويلا حتّى يستدرك عليه مفكر آخر، و عندما يخطئ حاكم فإن زلته لن تطول حتى يصوبها ناقد راشد »(2).
هذا عن الفكر، أما الحضارة فهي في أصل الوضع اللغوي تعني الإقامة في الحضر(3) و ذهب العلامة عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته إلا أن الحضارة هي «غاية العمران، و نهاية لعُمره، و مؤديه لفساده »(4) و ذلك لأن الحضارة عند هذا المفكر الألمعي لا تعدو أن تكون «التفنن في الترف، واستجادة أحواله، و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه»(5) والملاحظ أن هذا التعريف ركز على جملة من العناصر المشكلة لمفهوم الحضارة، وأغفل عناصر أخرى لا تقل أهمية عن العناصر المذكورة في تحديد مفهوم الحضارة، وتدقيق تعريفها، فقد غالى ابن خلدون في تضخيم عنصر الترف، وجعله إيّاه جوهر الحضارة، في حين أنه هو أحد العناصر فيها لا غير، ثم إن الترف ليس بالضرورة أن يكون مذموما، ومصاحبا للفسق، والعطالة، وفقد الإرادة، والكسل وغيرها من المواصفات المؤذنة، بخراب العُمران إذ قد يكون الترف بمعنى الرفاهية أو تأمين الحاجيات الاجتماعية الضرورية المحققة للعيش الكريم، و هذا لا ضير فيه، وعليه فقد اتجهت الدراسات العلمية الحديثة إلى التمييز بين الحضارة و المدنية، و قال منظورها و مفكروها بأن المدنية تتمثل في السياسة والاقتصاد و التكنولوجيا على حين تتمثل الحضارة في الفنون والآداب والديانات والأخلاق وأن المدنية هي ما نستعمل، أما الحضارة فهي ما نحن وقال مفكر آخر إن الحضارة هي الروح العميقة للمجتمع، و أن المدنية هي الآلة الصماء وقال تايلور العالم الأنثروبولوجي الانكليزي الشهير إنها أي الحضارة «الكلّ المعقد التي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والتقاليد، وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع»(6).
وبناء على قول تايلور« وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عُضوا في المجتمع » فإنه يمكن القول بأن ما تتميز به المجتمعات الإنسانية الكبرى عن بعضها، نظرتها الكلية إلى الإنسان والكون والحياة، و نظرتها إلى ما وراء الطبيعة من الغيبيات، وطرق تحصيلها، ومناهج فهمها، وهذا الجانب يمكن تسميته بالجانب الفكري أو الثقافي، وهو الذي يمثل جوهر الأمة وكيان وجودها.
وتتمايز المجتمعات كذلك بالجانب العلمي والتقني، وهذا الجانب تتفاعل فيه الحضارات، فتبنى الحضارة الحالية على إنجازات الحضارات السابقة، و تمهد للحضارة اللاحقة، والأمم الجادة تستطيع أن تستفيد من إنجازات الحضارة الأخرى في المجال العلمي دون تفريط في هويتها الثقافية وإنّيتها الحضارية .
كما تتمايز المجتمعات بالفنون، لأن الفن وإن كان عالميًا كالغناء أو الرقص أو الموسيقى، فإنه يتطبع بطابع الأمة التي وجد فيها، يتشكل بمكوناتها الحضارية، وخصائصها الثقافية، فالفن كالماء يأخذ لون و شكل الإناء الذي يوضع فيه.
ومن تفاعل الفكر أو الثقافة مع الفن مع العلم تتكون الحضارة(7) وأخذا لهذه الأبعاد كلها للحضارة فقد عرّف هنتغتون الحضارة بأنها «أعلى تجمع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهُوية الثقافية لشعب، وتتحد بالعناصر الموضوعية المشتركة مثل اللغة والدّين والتاريخ والعادات و المؤسسات بآن معا» (8) أو بتعريف أكثر اختصارا فقد قال عن الحضارة بأنها « التحديد الذاتي الذي يقوم به شعب ما لنفسه »(9).
ولقد ذهب المفكر الأمريكي صموائيل هنتغتون، في كتابه صراع الحضارات إلى أن هناك سبع حضارات تتقاسم العالم اليوم، وهي: الغربية، اليابانية، الإسلامية، الهندية، السلافية الأرتوذوكسية، والأمر كية اللاتينية.
وعليه فإننا نقصد بالفكر الحضاري، ذلك الفكر الشمولي الذي يتجاوز في طرحه القضايا الجزئية إلى تناول القضايا الرئيسية، والمشكلات الأساسية التي تواجه أمة ما في مرحلة من المراحل التاريخية، في إطار كلّي، منطلقا من مرجعية ثقافية محددة، مستجيبا للتحديات الزمانية و المكانية إلي تطرح نفسها بإلحاح، فالحديث عن الفكر الحضاري هو حديث عن التأسيس للنهوض الحضاري، أو قل هو البحث عن الأفكار الحيّة المحيية، ذلك أن الأفكار بل وسلامة هذه الأفكار وحيويتها هي السبيل للنهوض بعد الكبوة، فلا يمكن مجتمع من المجتمعات، أن يعرف له انطلاقة حقيقية بعد مرحلة الركود والخمول إلاّ إذا جدّد عالم الأفكار عنده، و ذلك بالتخلص من الأفكار المميتة و القاتلة، واستلهام الأفكار الحية، و لقد أكد المفكر الإسلامي الكبير، مهندس الأفكار المرحوم مالك بن نبي بأن مسيرة الحضارة قوة وضعفا تتحكم فيها بالدرجة الأولى حالة الأفكار التي تكون شائعة في الوسط الثقافي، كما أنه لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات « أن يتابع مسيرته بعقول خاوية أو محشوة بأفكار ميتة »(10).
وهذه الحقيقة التي أكدّ عليها المفكر مالك رحمه الله قد أشار إليها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، و هو يقوّم الفكر وعلاقته بالسلوك الإنساني حين يقول : وأما ثمرة الفكر فهي العلوم، و الأحوال و الأعمال، و لكن ثمرته الخاصة بالعلم لا غير، نعم إذا حصل العلم تغير حال القلب، و إذا تغيّر حال القلب تغيرت أعمال الجوارح، فالعمل تابع الحال، والحال تابع العلم، والعلم تابع الفكر إذن هو المبدأ و المفتاح للخيرات كلها)(11).
فتجديد الأفكار هو أساس الانطلاقة الحضارية المنشودة، لأن التخلف العام الذي تشكو منه المجتمعات الإسلامية ليس مردّه فقط إلى النقص في الوسائل و الإمكانات - عالم الأشياء- بتعبير المفكر مالك بن نبي، و إنما سببه الجوهري هو الفقر في عالم الأفكار، يقول بن نبي رحمه الله «فالمجتمع المتخلف ليس موسوما حتما بنقص في الوسائل الماديّة و إنما يتجلى بافتقار للأفكار »(12).
و العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله عاش في أطلال حضارة عربية إسلامية، لم يبق منها إلاّ صفحات مضيئة في التاريخ، تمثلت في إنجازات المسلمين التي أسهموا بها في الحضارة الإنسانية، كما بقي منها أصل هذه الحضارة وسبب بعثها و هو الوحي الإلهي الأعلى.
وعاش في نفس الوقت حضارة غربية اجتاحت العالم أجمع ترتكز على العلم وتتقوى بالتكنولوجيا، و لكنها تحمل جملة من القيم، الغريبة والمفاهيم الدخيلة، والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا عهد للمسلمين بها، تطرح نفسها بديلا عن كل القيم والفلسفات والحضارات فإذا كان دُعاة الخمود و الهمود، و رافعو راية القعود، وجدوا الحل سهلا ميسورا و هو رفض هذه الحضارة و إنجازاتها بدعوى أنها حضارة كفر و إلحاد .
ووجد دعاة التفسخ والمسخ من التغريبيين الذي سموا أنفسهم كذبا وزورا بالتنويريين الحل كذلك سهلا، وهو الكفر بكل قديم حتى و لو كان وحيا معصوما، أو عملا نافعا، و الجري وراء الغرب شبرا شبرا وذراعا بذراع، و أن نتمثل الحضارة الغربية بقضها وقضيضها، حلوها ومرّها، ما يحمد منها وما يُعاب، ما يمدح وما يُذم .
فما هو الموقف الذي اتخذه العلامة ابن باديس إزاء هذين الموقفين المتناقضين؟ هذا الموقف هو الذي يعكس ملامح الفكر الحضاري عند العلامة ابن باديس.
إيمانه بالعلم
إنّ أهم خصائص الإنسان هو أنه كائن عالم، و هذا سبب تكريم الله تعالى له وتفضيله إياه على كثير من المخلوقات، والقرآن الكريم قد قصّ علينا شيا من الحيرة التي انتابت الملائكة حين أخبرها الله عز وجل أنه سيخلق في الأرض خلقا جديدا وهو الإنسان، و سيجعله خليفته فيها، ولكن سرعان ما بددت تلك الحيرة، و زال ذلك. الغمّ حين أطلعهم الله سبحانه و تعالى عن المؤهلات التي سيزوّد بها هذا المخلوق الجديد ليتمكن من تحقيق الغاية المرجوة من وجوده، و في مقدمة تلك المؤهلات إقداره تعالى لهذا الإنسان على التعلم والتعليم، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) (13).
فسبب التكريم هو العلم إذ به تتحقق عمارة الأرض، و يستجيب الإنسان للتحديات، و يتغلب على المعوّقات، ويبني حضارته التي تحقق له كل الضمانات المادية و الروحية.
والإسلام دين أقام حضارته على العلم، إذ أحدث ثورة على الأبائية والتقليد للأولين ودعا إلى البحث و التأمل و النظر، و رفض كل شيء لا يخضع للدليل.
ولقد استرشد المسلمون الأولون بهذه التوجيهات فأسسوا لهم حضارة عظيمة أسدت للبشرية قاطبة إسهامات جلّى في شتى ميادين العلم وفروع المعرفة، حين تفاعلت مع الحضارات الإنسانية السابقة فأحسنت استيعابها ثم أعادت بناءها بما يتطابق و توجيهات الوحي الأعلى، فكانت بذلك حلقة أساسية في تاريخ العلم ، و يكفي الحضارة العربية الإسلامية فخرا أنها هي التي أنتجت المنهج التجريبي في العلوم التطبيقية .
والشيخ الأستاذ الإمام ابن باديس قد أدرك هذه الحقيقة من خلال تدبره في معاني الكتاب والسنة من جهة، و من خلال تأمله في التاريخ الإنسان، فعند تعرضه لتفسير قوله تعالى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (14) مهّد لتفسير هذه الآية بالقول : العلم الصحيح والخلق المتين هما الأصلان اللذان ينبني عليهما كمال الإنسان، و بهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة من أصول التكليف فهما أعظم لما تقدمهما من حيث توقفه عليهما فجيء بهما بعده ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آياتها تقديم الأصل على الفرع(15) فالإنسانية و هي تسعى جاهدة لتحصيل الكمال و تحقيق السعادة، يجب أن تعي بأن سبيل ذلك هو العلم، وعليه فقد قرّر الإمام عبد الحميد بن باديس حقيقة علمية جريئة تبوئه مكانة ممتازة بين كبار المصلحين في العالم الإسلامي، و هي تلك المقولة الخالدة التي يقول فيها « العلم وحده هو الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات» (16).
ثم واصل رحمه الله يشرح سرّ تقدم العلم في كل شيء و لماذا جعله الإمام المتبع، فقال: « سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقا، يستقيم باستقامته و يعوج باعوجاجه و يثمر بثماره ويعقم بعقمه لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، و أقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، و اعتقاداته ثمره إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره»(17).
فبالعلم يحقق الإنسان التطور، ويحسن التجارب والخبرات، ويقترب شيئا فشيئا من الكمال الإنساني، عن طريق الاكتشافات التي تذلل له الصعوبات التي كانت تنغص عليه عيشه، و تكدر صفوه، ولذلك قال «و لما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل و التفكير امتاز عنه بالتنقل و التحول في أطوار حياته و نظم معيشته بمكتشفاته و مستنبطاته فمن المشي على الأقدام إلى التحليق في الجو مثلا وبقي سائر الحيوان على الحال التي خلق عليها دون أي انتقال، و بقدر ما تكثر معلومات الإنسان ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها ويستقيم تنظيمه لها تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس و المعقول و قسمي العلوم والآداب »(18) و هكذا يقرر ابن باديس رحمه الله بأن الاكتشافات العلمية التي نقلت الإنسان من طور إلى طور، وغيرت مجرى حياته تغييرا كليا، إنما هي نتيجة إعمال الفكر الذي هو ثمرة العلم، و عليه فحيث لا علم، فلا تحول ولا تطور نحو الأفضل، و لا تحسين في مستوى المعيشة وأنظمة الحياة، وإنما يكون هناك الهمود الذي يقود إلى الهلاك في العاجل والآجل، و لذلك قال رحمه الله « وإذا لم يصح إدراكه للحقائق أو لنسبها أو لم يستقم تنظيمه لها كان ما يتوصل إليه بنظره خطأ في خطأ وفساد في فساد ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول و في هذين هلاك الفرد والنوع جزئيا وكليا من قريب أو من بعيد، و هذا هو طور انحطاط الأمم الانحطاط التام و ذلك عندما يرتفع منها العلم و يفشو الجهل و تنتشر فيها الفوضى بأنواعها فتتخذ رؤوسا جُهالا لأمور دينها وأمور دنياها فيقودونها بغير علم فيضلون ويضلون و يهلكون و يهلكون و يفسدون ولا يصلحون وما أكثر هذا، على أخذه في الزوال بإذن الله في أمم الشرق والإسلام اليوم »(19).
إن من أهم أسباب التخلف، و الانحطاط اللذين آل إليهما العالم الإسلامي هو الابتعاد عن الأخذ بالعلم، و الاحتكام إلى نتائجه، و في شتى الميادين وسائر المجالات، فساد الاستبداد المجال السياسي وأنظمة الحُكم، وساد الفساد المالي قطاعات الاقتصاد، وساد القُصور التربوي مجالات التربية والتعليم، و ساد التقليد والابتداع مجال الفتوى والدين، و هكذا غيب العقل، وقتل الاجتهاد، و حورب التجديد، وسادت الفوضى جميع أنظمة الحياة، و تحلل النسيج الاجتماعي، وأصبح إنسانُ ما بعد الموحدين ، يحمل في جنباته بذور القابلية للاستعمار كما عبّر عن ذلك المفكر مالك بن نبي رحمه الله.
وإدراكا من ابن باديس رحمه الله لهذه الحقائق فإنه قد جعل من إصلاح التعليم أساس النهضة الإصلاحية المنشودة، فقال رحمه الله : «لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله كله، و إذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، و إنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم(20)، فأساس الإصلاح ومنطلقه واضح في ذهن العلامة ابن باديس و هو العلم الذي يصحح عقائد المسلمين و ينور عقولهم، و يزكي نفوسهم بالأخلاق الفاضلة، و الأعمال الحسنة، و إن أي إهمال لهذا الجانب الخطير، أو إغفال له و المراهنة على مجالات أخرى مهما كانت مهمة، وبدت خطيرة، كالإصلاح السياسي، أو الاقتصادي، فهي محاولة محكوم عليها بالفشل، لأن العملية الإصلاحية التي لا تجعل من الإنسان محور انطلاقتها، و هدفها الحقيقي، فهي عملية جزئية، لا تحقق نتائج تُذكر.
وجدير بالذكر أن العلم في المفهوم الباديسي، هو العلم بمعناه القرآني الشامل، و ليس العلم الديني فقط، على أهميته في المحافظة على الهوية الثقافية، والإنية الحضارية ، فها هو يوجّه نصيحة غالية للإنسان المسلم لهذا الشأن فيقول « فاحذر كل متعليم يزهدك في كل علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية، و دعا إليها القرآن بالآيات الصريحة وخدمها علماء الإسلام بالتحسين و الاستنباط ما عرف منها في عهد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم علماء أوروبا اليوم »(21).
ومن هذا المنطلق قام الشيخ ابن باديس بقراءة للحضارة العربية الإسلامية، في الجانب العلمي، وقدّم نطرة للحضارة الأوروبية الحديثة، فقال « وهذا كما كان العرب و المسلمون أياما بل قرونا مدنيتهم، عربوا كُتب الأمم إلى ما عندهم ونظروا وصححوا، واستدركوا واكتشفوا، فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم،و أناروا بالعلم عصرهم، و مهدوا الطريق، و وضعوا الأسس لما جاء بعدهم، فأدوا لنوع الإنسان بالعلم و المدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها و ماضيها ومستقبلها، وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة، أو عرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم فجاء هو أيضا بمكتشفاته التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده، و ثمرة تفكيره ونظره فيها، و قد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات عجز القرن الماضي لتكاثر المعلومات فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات فتكثر المعلومات فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها و هكذا يكون كل قرن ما دام التفكير عمالا أكثر معلومات و مكتشفات من الذي قبله )(22).
فنظرة العلامة ابن باديس وقراءته للحضارة العربية الإسلامية، وكذا الحضارة الغربية الحديثة كانتا متسمتين بالاعتدال، و موسومتين بالإنصاف، أما الاعتدال فلأنهما لم تغفلا عنصرا من العناصر التي كانت سببا في بعث الحضارة العربية الإسلامية إلا و تكلّمت عليه، و أعطته حقه، وبينت مكانه الطبيعي في العملية و هكذا ابتعدت نظرته عن السطحية، و الغثائية التي اتسمت بها كتابات كثيرة.
و أما الإنصاف فيتمثل في رؤيته العنصر الجوهري في الحضارة الحديثة و هو العلم والتكنولوجيا، وضرورة التسلح بهما، فدعا صراحة إلى الأخذ بكل الأدوات والوسائل التي تمكننا من التحكم في العلم و التكنولوجيا، و في مقدمتها اللغات الأجنبية فقال رحمه الله " إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوروبا، فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة و تكتنف دخائل الأحوال الجارية، أن تكون عالمة حيّة من لغات أوروبا، وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية فإنها تبقى في عزلة عن هذا العالم، مطروحة في صحراء الجهل والنسيان من الأمم المتمدنة التي تتقدم في هذه الحياة بسرعة لم يسبق لها مثيل، ومما لا يرتاب فيه - والواقع شاهد - أن مقدار كل أمة في اللحوق والتخلف بركب المدنية بنسبة كثرة وقلة انتشار لغة فيها من لغات الغرب »(23). فهدف الشيخ ابن باديس من وراء الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية، كل اللغات الأجنبية. إنما هو التمكن من العلوم و التكنولوجيا فما دام مصدر العلم اليوم هو أوروبا والوسيلة إليه هو التحكم في لغاتها، فبات من المصلحة الحرص على تعلم هذه اللغات وإتقانها، فقال رحمه الله معلقا على حديث الإمام الترمذي في
سننه «عن زيد بن ثابت قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أتعلم له كتاب يهود قال إني و الله ما آمن يهود على كتاب، قال فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، و إذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم »(24) تحت عنوان تعلم اللغات المحتاج إليها، ما يلي «كل قوم تربط بينهم المصالح لابد لهم من التعاون، و لا يتم التعاون إلا بالتفاهم، و التفاهم بالمشافهة و الكتابة فعلى القوم المترابطين بالمصلحة أن يفهموا بعضهم لغة بعض وخطه، و بقدر ما تكثر الأقوام المترابطة بالمصلحة تكثر اللغات والخطوط ويلزم تعلمها لأن العلة هي الحاجة، وسواء أكانت المصلحة التي تربط الأقوام عمرانية أو علمية، لأن المصلحة من حيث هي مصلحة محتاج إلى تحصيلها، و النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيدا بتعلم الكتابة لأن اللغة كانت عربية، و لو كانت لغةً أخرى لأمره بتعلمها لعلة الحاجة، و الحكم يدور مع العلة و قد جاء عن زيد من طريق آخر، ذكرها الترمذي وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم السريانية، فنحن اليوم وقد ربطت بيننا وبين أمم أخرى مصالح، علينا أن نعرف لغتهم وخطهم، كما عليهم هم أن يعرفوا لغتنا وخطنا»(25).
و هكذا نجد ابن باديس يجعل من تعلم اللغات الأجنبية و إتقانها وسيلة لفك الحصار على اللغة العربية، فإذا كان الاستعمار يحرص على تعليم لغته لأبناء المستعمرات ليكوّن منهم جيلا متنكرًا لأصالته، وقيم دينه، و لغته وتاريخه، أي جيلا ممالئًا للاستعمار مشحونا بالدونية، فإن ابن باديس حرص على أن يبقى المتعلم للّغات الأجنبيّة موصولا بأمته، مستشعرا لضرورة القيام بخدمتها، فمن تعلم لغة أجنبية يكون حاله كمن يحصل على سلاح يدافع به عن قومه، أمّا أن يوجه ذلك السلاح لصدور بني جنسه فهذا الجنون والخيانة، فقال «العلوم في الجزائر كما أظنها في غيرها، منها علوم تؤخذ باللسان العربي وهي علوم الدّين واللسان، و منها علوم تؤخذ باللسان الأجنبي وهي علوم الأكوان والعمران، وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام، كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على تيه وضلال، فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجارا، وأولئك يعتبرون هؤلاء كفارا.
وهكذا كانت الجزائر في الحركة العلمية، إلى أن مرّت عليها مائة عام، وانشئت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فتولت إفهام كل طرف قيمة الطرف الآخر، و بينت للجميع أنهم مهما نطقوا بأي لسان فهم من الجزائر وإلى الجزائر، ولا تنهض إلا بهم، ولا ينهضون إلا بها. و لقد وضعت هذه الجمعية برنامجا صالحا لتعليم الصغار اللسان العربي، وتكميل معلومات من تعلموا باللسان الأجنبي، كما خصصت دروسا للكبار»(26).
فمن درس لغة أجنبية وتعمق فيها يجب أن يبقى وفيا لأمته، خادما لها، موظفا ما تعلمه لترقية بني أمته وخدمتهم، و هكذا يكون من تعلموا اللغات الأجنبية أدوات تعمير لا معاول هدم، و عناصر إصلاح لا بيادق إفساد ولذلك قال عن الشيخ المصلح التونسي بشير صفر في حفل أقيم بتونس للاحتفاء بذكراه « إنه رجل بنى ما أخذه من العلوم باللغات الأجنبية على ثقافة إسلامية عربية، وبذلك استطاع أن يخدم أمته و إن يحتل قلبها»(27). وقال كذلك في محاضرة له بمدينة قالمة «فأرجوكم أيها الشبان الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان وعن أي شخص وجدتموه وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الانتفاع المطلوب كما أخذه الأروباويون من أجدادنا وطبعوه بطابعهم النصراني وانتفعوا به »(28).
وهكذا تحافظ الأمة على ذاتيتها وتنفتح على الحضارة المعاصرة، وهذا الموقف من اللغات الأجنبية الذي أملته ظروف الواقع ، وحتمته صيرورة التاريخ، لم يكن على عتوه ليقف سدا منيعا في وجه ابن باديس، لينادي بضرورة ترقية العربية، و بذل المزيد من الجهود لتكون العربية لغة العلوم والفنون كلها، لأنه لا يتم استقلال أمة، دون استقلال كامل عناصر هويتها، ومقوّمات شخصيتها وفي مقدمتها اللغة القومية، فهو يرى بأن «اللغة العربية من اللغات الحية التي تقرن بالانجليزية والألمانية»(29) وأنها قادرة على استيعاب كل العلوم وتدريسها بها ولذلك كان كثير الدعوة إلى إبراز خصائص العربية وقدرتها على مواكبة المستجدات، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي « كلفني الأستاذ الرئيس ابن باديس أن أحاضر هذا الجمع العربي الحاشد بكلمات في ناحية زاخرة من نواحي لغته الجليلة وجانب عامر من جوانبها الفسيحة، و هو فضلها على العلم والمدنية وأثرها في الأمم غير العربية، إشادة بفضل هذه اللغة الشريفة في هذا الاحتفال العلمي، ووفاء ببعض حقها علينا وحفزا لهممكم - وأنتم أبناؤها البررة - أن تهن في خدمتها أو تقصر في حقها، و إعلانا للمعنى الذي قامت بجمعية العلماء بتحقيقه وهو إحياء هذه اللغة و إحياء الدين الذي ترجمت محاسنه، واضطلعت بحمل أسراره»(30).
إنّ الإمام ابن باديس قد أدرك جيدا أهمية اللغة العربية في بناء الشخصية، وصناعة الفكر، وتحقيق الوحدة والتواصل بين الأجيال، و كذا بناء الذات المتميزة، و عليه فلا غرو أننا نجده يقول : «ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر والمستقبل السعيد، إلاّ هذا الحبل المتين اللغة العربية، لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة، إنها وحدة الرابطة بيننا وبين ماضينا، وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح أسلافنا، وبها يقيس من يأتي بعدنا من أبنائنا و أحفادنا الغر الميامين أرواحهم بأرواحنا، وهي وحدها اللسان الذي نعتز به، و هي الترجمان عما في القلب من عقائد، و ما في العقل من أفكار، و ما في النفس من آلام و آمال.
إنّ هذا اللسان العربي العزيز الذي خدم الدين وخدم العلم وخدم الإنسان فهو الذي نتحدث عن محاسنه منذ زمان ونعمل لإحيائه منذ سنين فليحقق الله أمانينا»(31) .
و إيمانا منه رحمه الله بأن اللغة العربية هي لغة الجنس والقومية، و الوطنية و الدّين، بل هي عنوان الحضارة العربية الإسلامية وشعارها، فقد عاش رحمه الله حياته كلها ينافح عنها ويدعم وجودها، و يبسط نفوذها، فقال رحمه الله « إنني أعاهدكم على أنني أقضي بياضي على العربية و الإسلام، كما قضيت سوادي عليهما إنها لواجبات ... وإنني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن،و لغة الإسلام والقرآن هذا عهدي لكم، و أطلب منكم شيئا واحدا وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام و القرآن »(32) وفي ختام كلامنا عن إيمان الشيخ عبد الحميد بن باديس بالعلم ومكانته في العملية الإصلاحية، يجدر بنا أن نؤكد أنّ العلم المقصود عند ابن باديس ليس هو حشو العقول بالمعلومات النظرية، و إغفال السلوك والأعمال التطبيقية، فالعلم وثيق الصلة بالأخلاق، وبدونها لا ينفع العلم لا في كثير ولا في قليل.
فالعلم والعمل متلازمان، يقول ابن باديس « إنّ الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، و قوة الإرادة، وقوة العمل، فهي أسس الخلق الكريم و السلوك الحميد»(33)
ويقول كذلك «حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث : الإرادة ، الفكر و العمل. وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لابد للإنسان منه، فالعمل متوقف على البدن، و الفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، و العمل المفيد من البدن السليم فلهذا كان الإنسان مأمورا بالمحافظة على هذه الثلاثة، عقله وخلقه ودينه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم ويقوّم أخلاقه بالسلوك النبوي، و يقوي بدنه بتنظيم الغذاء وتوقي الأذى و التريض على العمل »(34).
فالهدف من العلم في نظر ابن باديس هو بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة فهو ذو أبعاد نفسية وعقلية واجتماعية، ولذلك يقول رحمه الله « إن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، و المثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد ملى الله عليه وسلم في سيرته الطيبة »(35)، و يقول كذلك « على المربين لأبنائنا و بناتنا أن يعلموهم و يعلموهن هذه الحقائق الشرعية ليتزودوا و ليتزودن بها، وبما يطبعونهم ويطبعونهن عليه من التربية الإسلامية العالية لميادين الحياة» (36).
فهو يريد أن يتجاوز الطرق العقيمة في تدريس العلوم التي لا تعدو أن تكون عند طالبها ثقافة لفظية جدلية، لا تهذب سلوكا و لا تغيّر واقعا، بل تغرق طالبها في معارك وهمية، لا يخرج منها إلا وهو خائر القوة منهك الجسد دون أن يستفيد من ذلك شيئا، ولذلك يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي « كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة مع قليل من العلم، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا»(37).
فتزويد الطلاّب بالوعي الفكري و الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، و إعداد الرجال القادرين على تحمل المسؤوليات تجاه أنفسهم وأسرهم و وطنهم وأمتهم، هو هدف التربية و التعليم عند ابن باديس.
التكلم عن الصنائع والحرف اليدوية
و لا يمكننا أن نوفي الكلام حقه في هذا الموضوع و هو رؤية ابن باديس للعلم ومكانته في العملية الإصلاحية، دون الحديث عن موقفه من الحرف والصنائع اليدوية، ذلك أن ابن باديس يرى بأن العلم ليس عبارة عن معلومات نظرية يتلقاها الطالب، وإنما هو عبارة عن الجمع بين الفكر و العمل، بين النظرية و التطبيق، ويرى كذلك بأن الميزة الكبرى للجيل الأوّل من المسلمين الذين فتحوا العالم و نشروا الإسلام في ربوع الدنيا هو تطبيقهم الإسلام على أنفسهم وهذا جانب عملي، وحرصا منه رحمه الله على هذا البعد العملي في التعليم والتكوين فقد أدخل الصناعات التطبيقية في مناهج التكوين، ففي مقال له بعنوان إصلاح التعليم بجامع الزيتونة عمّره الله دعا إلى ضرورة تدريس الحساب والجغرافية بأقسامها، و على مبادئ الطبيعة و الفلك و الهندسة(38) و في سنة 1930 أسس الشيخ عبد الحميد ابن باديس جمعية التربية والتعليم الإسلامية، و قد حرّر الشيخ بنفسه قانون الجمعية الأساسي، والذي جاء في المادّة الثانية منه ما يلي : مقصود الجمعية هو نشر الأخلاق الفاضلة و المعارف العربية والفرنساوية و الصنائع اليدوية بين أبناء وبنات المسلمين وجاء في المادة الثالثة من قانون الجمعية : «تسعى الجمعية لمقصدها هذا، أولا بتأسيس مكتب للتعليم. ثانيا بتأسيس ملجأ للأيتام و ثالثا بتأسيس ناد للمحاضرات، رابعا بتأسيس معمل للصنائع، خامسا بإرسال التلامذة على نفقتها إلى الكليات و المعامل الكبرى» (39).
فهذا الموقف يعبر عن الاهتمام الكبير الذي أولاه ابن باديس للجانب العملي التطبيقي في التكوين، وقد بلغ من اهتمام ابن باديس بالصناعات، وإدراك أهميتها لقيام الحضارات، أنه عند تفسير قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)} (40).
فقد أوضح رحمه الله أن هذه الآية كشفت نواحي كثيرة من تاريخ العرب ومدى ما بلغه هؤلاء من مدنية و حضارة، فهي إذا نص صريح في استحكامهم بعلم تخطيط المدن والعمران بوجه عام، و لكن الذي لم يعجب ابن باديس هو حمل المفسرين للفظ المصانع في الآية على معنى القصور أو مجاري المياه، فقال « ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين على المعنى اللفظي الاشتقاقي، والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران، وهل كثير على أمة توصف بما وصفت به في الآية أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بلى و إنّ المصانع لأول لازم من لوازم العمران أو نتيجة من نتائجه» (41) وقال كذلك «ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر و لرحمتهم، و من لوازم ذلك أن تراعي فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة »(42) كما بلغ اهتمام الشيخ عبد الحميد ابن باديس بالصنائع أنه كان ينقل كل ما تنشره الصحف العربية والإسلامية داخل القطر وخارجه مما له صلة أو علاقة بموضوع الصنائع تنويرا للقارئ وتوعية له من ذلك نقله عن جريدة الأهرام، مقالا مما جاء فيه، « وإذا فالإسلام يحث على تعلم الصنائع ويسميها علما ويعتبرها رحمة ويبين أنه كان يقوم بها ويشرف عليها أفضل الخلق و هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهو لا يعادي علما ولا صنعة بل يعتبر القيام بالصنائع والعلوم من الفرائض التي يتقرب بها إلى الله تعالى »(43).
الوعي التاريخي و السننية الحضارية
لما كان التاريخ محيي الأمم ومفتاح فهم الحاضر وبناء المستقبل، لقد كان أحد ميادين الصراع المرير الذي خاض غماره الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني، ذلك أن الاستعمار الفرنسي حاول جاهدا أن يبرر وجوده في هذه الديار على أطروحة تاريخية مغلوطة، قائمة على جملة من الأوهام والافتراءات كدونية الجنس العربي، وتفوّق الجنس الأبيض وتحضره، وكون الأرض الجزائرية كانت في التاريخ القديم لاتينية مسيحية، و أن الجزائر لم تكن في يوم من الأيام أمة موحدة، وإنما هي شتات غير متآلف من الأجناس أو هي في أحسن الأحوال أمة في طور التكوين، كما تفتقت عن ذلك عبقرية " طوريز" سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي.
وبالمقابل فإن مظاهر التخلف الحضاري، والجمود الفكري التي كانت الممهد الأول للاستعمار الذي كان ينطلق في فراغ الأمة الإسلامية، والتي اجتهد الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في محاربتها من أجل الوصول بالأمة الإسلامية إلى مرحلة الصحة الحضارية، قد استند في ذلك إلى التاريخ وأحكامه وقوانينه التي تحكم سير النشاط الإنساني.
والقارئ لتراث الشيخ عبد الحميد بن باديس بتمعن يدرك أن التاريخ كان حاضرا عنده بقوة في كل ما كتب من بحوث ومقالات، وأنّ مواقفه السياسية كانت مبنية على مواقف ثقافية فكرية استلهم فيها التاريخ و وقائعه وأحداثه، و عليه فلا غرو أن نجد الإمام ابن باديس قد جعل من مادة التاريخ مادة أساسية في دروسه التي كان يلقيها على طلبته في الجامع الأخضر بقسنطينة(44)، و في البيان الذي أصدره الشيخ عبد الحميد في الشهاب سنة 1936م، و الذي يبين تطور التعليم ، جعل مقدمة ابن خلدون من الكتب التي تدرس في الجامع الأخضر(45)، لأنه كان شديد الإيمان بأن التاريخ هو محيي الأمم، و باعث نهضتها، ولذلك حين أصدر عضو جمعية العلماء الشيخ مبارك الميلي كتابه « تاريخ الجزائر في القديم والحديث » راسله الشيخ عبد الحميد بن باديس مبيّنًا أهمية هذا الجهد في مواجهة الأطروحات الاستعمارية، راغبا إليه في ذات الوقت أن يحمل هذا الأثر النفيس عنوان«حياة الجزائر » وهذا نص تلك الرسالة « أخي مبارك، سلام ورحمة، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم، وقفت على الجزء الأول من كتابك تاريخ الجزائر في القديم والحديث فقلت لو سميتَه حياة الجزائر، لكان بذلك خليقا، فهو أول كتاب صوّر الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سويّة، بعدما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهنالك، و قد نفخت فى تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حيةً على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا، و تخطه بيمينها في كتاب الخالدين.
أخي مبارك.
إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة ، أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها فليس و الله كفاؤ عملك أن تشكرك الأفراد، و لكن كفاءه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا، وتلك سنة الله في عظماء الأمم ونوابغها، و لن تجد لسنة الله تبديلا، وأنا واحد من هذا الجيل بلسان من يشعرون شعوري، أشكرك لأقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل ما لك من حق، جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن، بعلم وتحقيق وإنصاف والسلام من أخيك عبد الحميد ابن باديس »(46) فالتاريخ في نظر ابن باديس مقوم أساسي من مقومات الشخصية ، وباعث من أهم بواعث النهضة، ولذلك كان رحمه الله دائم التذكير لإنسان الجزائري بهذا التاريخ حتى يبعث فيه الاعتزاز بالوجود، ويدفعه للعمل من أجل تغيير واقعه، وفي هذا الإطار يقول: « وإذا كنتم تثقون بأنفسكم فثقوا بنفوس مؤمنة صادقة، ولم لا نثق بأنفسنا وقد أعطانا الله عقولا ندرك بها، ومواهب سنسخرها لما يرضي الله ورسوله، لنا مواهب مثل لما لغيرنا، ولنا من هذه القومية العربية الخالدة مثل ما لغيرنا ولنا من هذا التاريخ الممتد البعيد مجد و ملك مثل ما لغيرنا و فوق ما لغيرنا. ولقد أعطانا الله من هذا الدين الإنساني، من هذا الدين العقلي الروحي ما يكمل عقولنا ويهذب أرواحنا، أعطانا منه ما لم يعطه لغيرنا لنكون قادة وسادة، و أعطانا وطنا شاسعا مثل ما لغيرنا فنحن إذا شعب ماجد عظيم يعتز بدينه، يعتز بلغته يعتز بوطنه، يعتز بقوميته، يستطيع أن يكون في الرقي واحدا من هذه الشعوب وأن يفوق كثيرا من هذه الشعوب ولنا من تاريخه الحافل ما يجعلنا نؤمن بصدق معتقدنا فيه»(47)، ويواصل رحمه الله خطابه مبينا ضرورة معرفة التاريخ.
«إننا نعتصم بالحق، ونعتصم بالتواضع عندما نقول : إننا شعب خالد ككثير من الشعوب، ولكننا ننصف التاريخ إذا قلنا : إننا سبقناها في ميادين الحياة، سبقناها بهدايتنا، ونشرنا بينها الشريعة الحقة قبل أن تتكوّن هذه الأمم، وسبقنا هذه الأمم في نشر الحق، أيام كانت في ظلمات من الجهل حالكة أيام كانت تسبح في لجج من الأوهام والخيالات وذلك ما كنا فيه، و ما سنعود إليه إن شاء الله، و إنما علينا أن نعرف تاريخنا، و من عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به في هذا الوجود،و لا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأغر، والمستقبل السعيد إلاّ هذا الحبل المتين، اللغة العربية، لغة الدين، لغة الجنس، لغة القومية، لغة الوطنية المغروسة» (48).
فمن أراد أن يتخذ لنفسه منزلة لائقة بين الأمم في هذا الوجود، فلابد عليه من معرفة التاريخ، لأنه مصنع الحقائق الذي بدونه يجهل الإنسان حاضره، و يعجز عن بناء مستقبله، ولذا حرص الاستعمار على طمس الصفحات المضيئة، والفترات الزاهية من تاريخنا المجيد، وتجهيل الشباب الذين تثقفوا بثقافته، وتخرجوا في مدارسه وجامعاته، فها هو الزعيم السياسي المرحوم عباس فرحات يكتب مقالا بعنوان« فرنسا هي أنا» تنكر فيه لشيء اسمه الجزائر في التاريخ، و زعم بأنه بحث عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر، و فتش عنها في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر، فانبرئ الشيخ عبد الحميد بن باديس للرد على هذه الافتراءات والأكاذيب، بمقال عنونه «بكلمة صريحة » وظف فيه التاريخ،أيما توظيف، ومما جاء في هذا المقال، «إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ، و فتشا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة، كما تكونت و وجدت كل أمم الدنيا، و لهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ولها وحدتها الدينية واللغوية، و لها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمة في الدنيا.
ثم إنّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية، ليست هي فرنسا، و لا يمكن أن تكون فرنسا، و لا تريد أن تصير فرنسا، و لا تستطيع أن تصير فرنسا و لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، و في أخلاقها، و في عنصرها، و في دينها، لا تريد أن تندمج، و لها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة»(49).
ولذلك وجدنا الشيخ عبد الحميد بن باديس في افتتاحياته لخطبه و محاضراته، وكلماته التي كان يلقيها في جموع الشعب في المساجد والنوادي والمدارس، حريصا على إثارة هذا البعد التاريخي، فها هو يقول:« أيها الجزائري التاريخي القديم، المسلم الصميم»(50)،كما وجدناه يدعو الإنسان الجزائري أن يحاكم ما يعرض عليه من آراء و أفكار و مشاريع وخطط، على التاريخ لأنه الحكم الفصل، فيقول رحمه الله : «أيها الشعب الجزائري، أيها الشعب المسلم، أيها الشعب العربي الأبي، حذار من الذين يمنونك ويخدعونك، حذار من الذين ينوّمونك ويخدّرونك، حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك و من غير تاريخك وقوميتك، و من غير دينك وأبطال دينك وملتك استوح الإسلام، ثم استوح تاريخك، ثم استوح قلبك، اعتمد على الله ثم على نفسك، وسلام الله عليك )(51).
و لا نترك حديثنا عن موقف الشيخ ابن باديس من التاريخ و إدراكه لأهميته في بعث الاعتزاز بالمقومات الذاتية للشخصية، دون التعرض إلى تلك التراجم التي كتبها الشيخ ابن باديس رحمه الله لمجموعة من الصحابة والصحابيات، و أعلام السياسة ورجال الفكر، ورجال الفقه والدعوة، إذ كان الهدف من تلك التراجم خصوصا رجال السلف ونساؤه تقديم النموذج الذي يقتدي به الشباب الجزائري المسلم المتحفز للنهضة والعامل لها، فكتب رحمه الله يقول : «هذا باب جديد فتحناه في الشهاب أردنا منه أن يطلع القرّاء على تراجم بعض رجالنا ونسائنا من سلفنا الصالح ومالهم من صفات أكسبهموها الإسلام، و ما كان منهم من أعمال في سبيله، ففي ذلك ما يثبّت القلوب، ويعين على التهذيب، و يبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة، و ماحيي خلف إلا بحياة سلف، و ما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم و دوام ذكرهم ولسنا هنا لتتبع الأخبار واستيعاب الأحداث وإنما نقتصر على ما يحصل أصل القصد»(52)، فالهدف هو بعث الحياة في نفوس الشباب من خلال تقديم نماذج حية، عاشت حياتها بالإسلام و للإسلام، فقدمت أروع الأمثلة في التضحية والبذل والعطاء، و الصبر، و مواجهة التحديات، و ما أحوج شباب الجزائر خصوصا في تلك الفترة الحالكة إلى معرفة هذه الصفحات المضيئة من تاريخهم المجيد، حتى لا ينشئوا مبتوتي الصلّة عن الأصول الثابتة لأمتهم، و في هذا الإطار يقول ابن باديس « إنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي، وأصلح شأنه في الحال ومد يده لبناء المستقبل، يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه معرضا عما لا حاجة له به أو مالا يناسب بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته»(53).
هذا من جهة و من جهة أخرى فإن الأمم التي لا تخلد عظماءها في التاريخ وتحيي مآثرهم، في الأجيال الحاضرة تكون أمة عقيمة عن إنجاب العظماء، لأنها تخلت عن وسائل الإنجاب، قال الشيخ ابن باديس «إنما تقاس درجات لأمم بما تنتجه من الرجال و إنما تكون منجبة للرجال يوم تصير تعرف أقدار العاملين من أبنائها»»(54).
ولا يسعني في ختام حديثي عن التاريخ عند ابن باديس إلا القول بأن الوعي التاريخي وصل به إلى حد القول بوجود قوانين دقيقة تحكم سير النشاط الإنساني، و تجعله بعيدا كل البعد عن الصدفة، فالتاريخ في المنظور الباديسي فعل إنساني، ولاشك أنّ هذا كان نتيجة للتأمل العميق في آي الذكر الحكيم، و الإطلاع الدقيق على ما كتبه المفكرون المسلمون الأعلام، كأبي حامد الغزالي، و عبد الرحمان بن خلدون، وكذا سعة الإطلاع على تاريخ الأمم الشعوب، يقول الشيخ ابن باديس «إني درست التاريخ فوجدت الأمم تنهض بأحد أمرين بكثرة العلم، أو بكثرة الظلم، فأما العلم فنحن منه فقراء، وأما الظلم فنحن منه أغنياء، اللهم إن قصدت به إنهاضنا فنشكرك صابرين، و نشكرك مجاهدين، و نحمدك على ما سلحتنا به من إيمان قوي جعلنا نطمئن إلى تاريخنا، و تاريخ العرب مكتوب بحبر من نار وحروف من نور، و هذا النور لا يُمحى و تلك النار لا تنطفئ»(55).
لم يكن ابن باديس يريد التغني بالأمجاد، والإغراق في الماضي، مع إغفال الحاضر، وعدم التطلع إل المستقبل، و إنما الهدف كان هو البناء والتربية لكن على أسس متينة راسخة في القدم حتى يكون البناء متميزا و قادرا على مواجهات محاولات المسخ والتشويه، إن التاريخ في المنظور الباديسي هو روح الحياة، فأراد أن تأخذ الأجيال المعاصرة الأصول الثابتة لإقامة بنيان يصلح شأنها في الحال وتمد يدها لبناء مستقبل زاهر
الفهم الشمولي للإسلام
إن الإسلام كما تبينه نصوص الذكر الحكيم و السنة النبوية الشريفة هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، و الذي لن يقبل منهم دينا سواه و هو نظام شامل لشتى مناحي الحياة، وشؤون الدنيا، فهو عقائد تنور العقول، و أخلاق تهذب السلوك، و عبادات تحدد الصلة بين الخالق سبحانه وتعالى وعباده، و معاملات تنتظم كل قضايا الحياة، من البيع و الشراء، إلى قضايا الحكم و الدولة، إلى العلاقات الدولية التي تربط المسلمين مع غيرهم في حالتي السلم والحرب، فالإسلام دين و دولة، أدرك المسلمون الأولون هذا المعنى، و عاشوا خلال تاريخهم الطويل في غنى عن استيراد الفلسفات، و أنظمة الحياة، و كانوا إذا ألجأهم تطور الحياة إلى شيء من ذلك فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه لأهل العلم والرأي ليبدعوا من الحلول النظرية والعملية ما يواجهوا به التطور، ويستجيبوا به للتحديات، منفتحين على تجارب الأمم الأخرى بعد أن يصهروها في بوتقة الإسلام، فكانوا نموذجا رائدا للتفاعل الحضاري الذي لا ينفتح على تجارب الأمم الأخرى إلى درجة التفريط في المقومات، و لا ينغلق إلى درجة الاختناق بل الموت.
و ظل الأمر كذلك حتى داهم الاستعمار أرض المسلمين فاحتلها، و حاول إيجاد جيل موال له في الثقافة والفكر، يرى العالم من خلال تجارب الآخرين، و ما على العالم الإسلامي إذا ما أراد التقدم والتطور إلا أن يحذو حذو الغرب في كل شيء، عليه أن يحارب الدين وأن يكبر عليه قدرته على قيادة الحياة، وأن يطارده إلى المساجد والزوايا فذلك هو المكان الذي لا يجب أن يبرحه، وهكذا عرف العالم الإسلامي العلمانية لأول مرة في تاريخه الطويل، فانبرى رجال الدعوة و الفكر، والإصلاح إلى مقاومة هذا الفكر الوافد الدخيل، و اثبتوا أن التجربة التي عاشها الغرب مع الدين المسيحي ليست حتمية مع كل دين، و أن الإسلام غير المسيحية، و أن النهضة المنشودة ستكون مشوهة وممسوخة إذا أعرضت عن الدين وتعاليمه، و ألغت توجيهاته وأحكامه التي تنظم المجتمع ومؤسساته، و من هؤلاء العلامة عبد الحميد بن باديس الذي أقام دعائم نهضته الإصلاحية على الدين، إذ يقول «نعم نهضنا نهضة بنينا على الدين أركانها، و كانت سلاما على البشرية، لا يخشاها و الله النصراني لنصرانيته ،ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته و لكن يجب والله أن يخشاها الظالم لظلمه، و الدجال لدجله والخائن لخيانته »(56)،
إن النهضة التي أرادها ابن باديس و عمل لها قد أقام دعائمها على الدين، و بما أن النهضة تكون اجتماعية، وتكون سياسية، و تكون دينية، كما أوضح الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه في محاضرة ألقاها بعنوان «بماذا تنهض الأمة نهضة دينية »(57)،
فإن فهمه للإسلام ليس فقط مجموعة من الأحكام الفقهية المنظمة لعلاقة العبد بخالقه سبحانه وتعالى، كالوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والذكر، و قراءة القرآن فقط، وإنما هو إيديولوجية شاملة منظمة لشتى مناحي الحياة تغني عن المذاهب الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية المستوردة، فقال رحمه الله «إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه، و قد دلت تجارب الحياة كثيرا من علماء الأمم المتمدنة أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام، و من أحدث ذلك مما قرره مؤتمر القانون الدولي العام في حق الفقه الإسلامي وصلاحيته لأمور الحياة »(58) إن الإسلام في المنظور الباديسي نظام حياة تضمن كل المبادئ والأسس التي تضمن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، و يضمن رقيّه ومدنيته، فالإنسان المسلم المعاصر و هو يتحرك لبناء حضارته المعاصرة، يجب ألا ينطلق بعيدا عن أرضية الإسلام، و دائرة أحكامه و توجيهاته ولذلك قال ابن باديس، «فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة، فليس للجمعية من نسبة إلا إلى الإسلام، و بالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر و البلوغ فيها إن شاء الله إلى أرقى درجات الكمال »(59)، ونلاحظ أن ابن باديس قد جعل من صفات المسلم الذي يرنو إلى بناء حضارته المعاصرة منطلقا من الإسلام وحده، ونظرته إلى الكون والإنسان والحياة، الفقه في هذا الدين، أي الفقه في الإسلام لأن الفقه وحده هو الذي يبرز ما في هذا الدين من حقائق وحكم، و توجيهات، و مبادئ و آداب تصلح أن تكون منطلقا لبناء حضارة معاصرة، أما الجاهلون الذين لم يدرسوا الإسلام، أو درسوا بعض السفاسف عند المستشرقين فلا غرو أن نجدهم يكبرون على الإسلام قدرته على قيادة الحياة، وصلاحيته لبناء حضارة، فالمسألة مرتبطة بفهم المسلم للإسلام، و لذلك تحدث ابن باديس عن الإسلام الوراثي الذي رغم ما فيه من محاسن لا ينفع لبناء نهضة، كما تحدث عن الإسلام الذاتي فقال :«أما الإسلام الذاتي فهو إسلام من يفهم قواعد الإسلام، و يدرك محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأعماله، و يتفقه حسب طاقته في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويبني ذلك كله على الفكر و النظر فيفرق بين ما هو من الإسلام بحسنه وبرهانه وما ليس منه بقبحه و بطلانه فحياته حياة فكر و إيمان و عمل، ومحبته للإسلام محبة عقلية قلبية بحكم العقل والبرهان كما هي بمقتضى الشعور والوجدان» (60).
فالحضارة - التمكين في الأرض - في نظر الشيخ عبد الحميد بن باديس نتيجة للجهود التي يبذلها الإنسان، مستجيبا في ذلك للتحديات، متفاعلا مع السنن الكونية التي تحكم سير النشاط الإنساني، و حركة التاريخ، فعند تفسير قوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (61) قرر هذا المعنى جيدا، فقال : «و قد أفادت هذه الآيات كلها أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها ، موصلة من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره، وسننه في نظام هذه الحياة و الكون، و لو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يصدق المرسلين، و من مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ ها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، و هذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم، نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه و لكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم يضع عليه أخذه بالأسباب فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلا النّار» (62).
وعليه فقد رأى ابن باديس بأن أقسام العباد بحسب الأخذ بالأسباب الكونية أربعة أقسام و هي:
1- مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية ، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة .
2- دهري تارك لها، فهذا شقي فيهما.
3- ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا و ينجو بعد المؤاخذة على الترك في الآخرة
4- دهري آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
وراح يوظف هذا التقسيم لمعالجة التخلف في العالم الإسلامي، وكيف أن مردها الحقيقي إلى إهمال الأخذ بالسنن الكونية و ليس إلى التمسك بالدين الإسلامي كما كان يروج لذلك سماسرة الغزو الثقافي و الفكري، الذين حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يقنعوا المسلمين بضرورة التخلي عن دينهم وحضارتهم، والسير في طريق الغرب في كل شيء إذا أرادوا اللحاق بمصاف الدول المتقدمة فقال رحمه الله « فلا يفتتن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو من ضعف إيمانهم، و لم يتقدم غيرهم لعدم إيمانهم بل بأخذهم أسباب التقدم في الحياة، و قد علموا أنّهم مضت عليهم أحقاب و هم من أهل القسم الأول بإيمانهم ما صاروا أهل القسم الثالث إلا لما ضعف إيمانهم وساءت عمالهم وكثر إهمالهم فلا لوم إذا إلا عليهم في كل ما يصيبهم وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم »(63).
و هذا النص نفيس جدا لأنه يضع أيدينا على موطن الداء الحقيقي الذي يعاني منه الفكر الإسلامي في العصر الحديث، و الذي يتقاسمه اتجاهان متضادان في التعامل مع مشكلة التخلف في العالم الإسلامي تشخيصا وحلا، فاتجاه يقدم تناولا سطحيا للمشكلة، ويكتفي بإجابات عامة، كالقول بأن البعد عن الإسلام هو سبب التخلف، و العودة إليه هي الحل، دون تقديم تشخيص دقيق لأسباب المشكلة كالاستبداد السياسي، و مظاهر الفساد الاقتصادي، و القصور التربوي، و هكذا، و دون تقديم حلول واضحة إن على المستوى المنهجي العام، أو التفصيلي لكل مشكلة على حده، مثلا ما الذي يجب فعله لتجاوز مشكلة غياب الحرية الفردية و الجماعية في المجتمع الإسلامي.
أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه تغريـبي يريد إقصاء الإسلام نهائيا عن الفتوى في هذه المجالات بل و يحملونه الإسلام مسؤولية تخلف العالم الإسلامي حضاريا فإذا أردنا أن نتجاوز مشكلة التخلف فما علينا إلا أن نطرح ما كان سببا فيها و هو الإسلام. أما الشيخ عبد الحميد ابن باديس فلقد أدرك بأن سبب التخلف هو الإنسان، و ليس عقيدته الدينية، وأن الذين تقدموا من الأمم، قد تقدموا لأنهم أخذوا بأسباب التقدم وليس بسبب عقائدهم الدينية، فالتخلف و التقدم يخضعان لقوانين وأسباب بعيدة عن العقائد الدينية، و لكن الغريب في الأمر أن العقيدة الإسلامية تأخذ بأيدي إتباعها أخذا إلى هذه الأسباب، وتفتح عيونهم عليها وتدعوهم إلى الاعتبار بأوضاع الأمم وأحداث التاريخ، فالحضارة إذا هي ثمرة الجهود التي يبذلها الإنسان، مستجيبا للتحديات، آخذا بالسنن الكونية الموصلة إلى ذلك، لكنّها تصطبغ بلون عقيدة ذلك الإنسان، إذ العقيدة أيا كانت هي المحرك الذي يدفع الإنسان إلى الاستجابة للتحديات، والتغلب على المشكلات، و هكذا تتلون الحضارة بلون العقيدة، و انطلاقا من هذا التصور كان ابن باديس يعالج قضية كونية الإسلام، وكيف أن أحكامه و توجيهاته تلتقي عند إيجاد الإنسان الذي يصنع الحضارة، ففي خطاب توجّه به إلى الجمعيات الشبانية قال « الإسلام دين الحياة والعلم والفن، و الحياة قوّة و إيمان وجمال، و العلم ممثل القوّة والفن ممثل الجمال، و بهذا تحتفل بكم يا ضيوف القرآن جمعيات قسنطينة الحيوية التي تمثّل القوة والإيمان والجمال »(64).
وفي الأصول التي وضعها الشيخ عبد الحميد بن باديس لجمعية العلماء، و التي تعتبر الخلفية الفكرية للحركة الإصلاحية أوضح فيها ملامح الشمول في الدين الإسلامي الذي اختاره الله دينا للبشرية ليحقق سعادة الإنسان وهي: (65).
1- كما يدعو إلى الأخوة الإسلامية بين جمع المسلمين يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر أجمعين.
2- يسوي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين جميع الأجناس و الألوان.
3- لأنه يَفرض العدل فرضا عاما بين جميع الناس بلا أدنى تمييز.
4- يدعو إلى الإحسان العام،
5- يحرم الظلم بجميع وجوهه وبأقل قليله من أي أحد على أي أحد من الناس
6- يمجد العقل و يدعو إل بناء الحياة كلها على التفكير.
7- ينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالختل و الإكراه .
8- يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاءون.
9- شرك الفقراء مع الأغنياء في الأموال وشرع مثل القراض و المزارعة و المغارسة مِمّا يظهر به التعاون العادل بين العمال وأرباب الأراضي والأموال
10- يدعو إلى رحمة الضعيف فيُكفى العاجز و يعلم الجاهل و يرشد الضال و يعان المضطر ويغاث الملهوف و ينصر المظلوم ويؤخذ على يد الظالم.
11- يحرم الاستعباد والجبروت بجميع وجوهه.
12- يجعل الحكم شورى ليس فيه استبداد و لو لأعدل الناس.
وهكذا نرى أن الشيخ عبد الحميد بن باديس يفهم الإسلام بأنه الدين الذي ارتضاه
الله للبشرية ليرتقي بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال الإنساني، و يحقق له السعادة في الحياة الدنيا و يضمن له النجاة في الحياة الأخرى، لأنه دين الفطرة الإنسانية ودين التهذيب الإنسان العقلي والنفسي والخلقي، فهو عقيدة وعبادة ونظام حياة، تضمنت شريعته من المبادئ القانونية والأسس التشريعية ما يكسبه حيوية ومرونة وقدرة على التطور واحتواء الجديد النافع، و مواجهة التحديات، فهو دين إذا أحسن فهمه وتطبيقه، صالح لكل زمان ومكان، و هو حجة الله على الإنسان إلى يوم القيامة.
موقفه من الحضارة الغربية
لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله يملك تصورا واضحا حول الحضارة الغربية، و كيف يجب على المسلمين أن يتعاملوا معها ؟
لقد أدرك الشيخ عبد الحميد بن باديس أن هذه الحضارة الغربية هي ثقافة ومدنية، و علم و فكر، مادة و روح، وأنّ التعامل مع هذه الحضارة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الثنائية ليحسن كيفية الانتفاع من نتاجها الثقافي و الفكري و الحضاري. فلم يكن رحمه الله من دعاة الانغلاق و التقوقع الذين يرفضون كل جديد وافد من الغرب، لا لشيء، إلاّ لأنه من الغرب، و لم من دعاة التسيب الحضاري أو الانهزام الحضاري تجاه الغرب الذين دعوا إلى الأخذ بكل جديد قادم من الغرب، حتى لو أدّى ذلك إلى مسخ شخصيتهم ومحاربة ثقافتهم، بل كان رحمه الله من دعاة التفاعل الحضاري مع الحضارة الغربية، القائم على التمييز و التمحيص والمدارسة، و بالتالي اقتباس النافع فيها، و رفض الضار منها الذي لا يتناسب مع خصوصيتنا الفكرية و هويتنا الحضارية. يقول الشيخ ابن باديس « برزت جريدة المنتقد تحمل فكرة الإصلاح الديني بتنزيه الإسلام عما أحدث فيه المبتدعون وحذفه الجاهلون، و بيانه كما جاء في القرآن العظيم، و السنة المطهرة، و عمل به السلف الصالحون، معلنة أن المسلمين بذلك وحده تصفو عقائدهم، و تزكو نفوسهم وتستقيم أعمالهم، و ينبعثون في قوة وبصيرة في الأخذ بأسباب الحياة الراقية، و المدنية الطاهرة، مشاركين لأمم الدنيا في خدمة الإنسانية و ترقية الحضارة وتوسيع العمران، سالمين مما تشكو منه أمم الحضارة التي غلبت عليها المادية و الأنانية وتفشت فيها أمراض ليست من التمدن الحقيقي لا في قليل ولا في كثير»(66)،إن ابن باديس يريد من المسلم المعاصر أن يأخذ بأسباب الحياة الراقية، والمدنية الطاهرة، و أن يساهم بنصيب وافر في خدمة الإنسانية وترقية الحضارة، ولكن يجب أن يتجنب تلك الأمراض التي أفرزتها الحضارة المعاصرة نتيجة لماديتها وأنانيتها من ذلك حديثه عن معاناة العمال في المعامل إلى درجة إهدار كرامتهم، و مس إنسانيتهم، في معرض تفسير قوله تعالى : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) (67) و بعد حديثه عن المصانع وفوائدها، قال رحمه الله « ولا يقولن قائل إذا كانت المصانع ما فهمتم فلماذا يقبحها لهم و ينكرها عليهم فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها و إنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة، و القسوة لا تحمد مبدأ ولا غاية، و أي عاقل يرتاب في أن المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة، و وسائل تدمير لا تعمير، فهل يحمدها على عمومها وإن كانت دلائل حضارة و مدنية، ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر و لرحمتهم، و من لوازم ذلك أن تراعى فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة »(68) و من عيوب الحضارة الغربية التي وقف عندها مليا الشيخ عبد الحميد بن باديس هي النظرة الاستعلائية عند الإنسان الغربي، و ما يستتبع هذا من ازدواج المعايير في التعامل مع الشعوب والأمم، فالحرية مثلا التي هي مظهر التكريم الإنساني بل هي الحياة في المنطور الباديسي، إذ يقول عنها الشيخ عبد الحميد بن باديس: « حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدارما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيئ من حياته، و كما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها جعل للحرية أسبابها وآفاتها، و من سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منها إلا من تمسك بما لها من أسباب وتجنب و قاوم ما لها من آفات »(69) هذه الحرية تجعلها الشعوب الأوروبية حكرا لها وحدها دون باقي الشعوب، تحتفل بأعيادها، تقيم لتمجيدها التماثيل ، لكنها لا تتردد عن سلب هذا الحق عن كثير من الأمم، و قد لاحظ هذا الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكتب كلمة شاعرية هام فيها في تمجيد الحرية وبيان فضائلها، و لكنه تألم كثيرا لكون الشعوب التي تدعي تمجيد الحرية وتقديسها هي أول من يدوس هذا الحق إذا تعلق بغيره جاء فيه « كم من أمم تحتفل بعيدك، و قد وضعت نير العبودية على أمم وأمم، وكم من قوم نصبوا لك التماثيل في الأرض وقد هدموك في القلوب والعقول والنفوس، و كم من خطيب فيك مفوّه وقد كم عن ذكراك الأفواه، و كم من شاعر فتنه جمالك، و لكن لا شعور له مع المستعبدين، وكم من كاتب يلبسك الحلل الضافية من نسيج أقلامه، ولكنه ينيلك خرقة بالية من صنع يده، وكم هدم لسراحك ما هدم ولكن بن على أنقاضه سجونا للأحرار»(70).
ومما يوضح موقف الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله من الحضارة الغربية هو نقله كلمة عن المفكر والفيلسوف والشاعر الهندي المعروف " طاغور" ونشرها في جريدة الشهاب، و هي كلمة تدعو إلى ضرورة الشعور بالذات عند تعاملنا مع الحضارة الغربية، و وجوب الابتعاد عن التقليد الأعمى، يقول طاغور: « علينا أن نقبل الخير حيثما وجد، فعلينا ألا نأخذ ونستفيد من كل ما هو نافع في المدنية الغربية، و لكن لا يجوز لا بحال أذ نقلد الغرب تقليدا أعمى، إذ من العار علينا أن لا نرى أنفسنا متساوية مع الغربيين فنخضع لهم ونراهم فوقنا في كل شيء.
أقول لكم، إن الشرق مخدوع، وليس الغرب من العقل و الكياسة كما نتوهه نحن،لقد اجتمعت بأعظم مفكري الغرب فلم أر فيهم ما يرجحهم على المفكرين الشرقيين، إن أصل بلائنا هو أننا نسينا أنفسا وعزتنا وتاريخنا، ولولا ذلك لما وقعنا فريسة باردة لغيرنا» (71) و مما يؤكد تفتح الشيخ عبد الحميد بن باديس على الحضارة الغربية، و دعوته إلى الاستفادة من الجديد النافع فيها، حديثه عن نظام الانتخابات وبيانه لفوائده بل وضرورته للوصول إلى تمثيل حقيقي، ومقاومة حكم الفرد والاستبداد، فكتب رحمه الله يقول : «ليست الحرية إلا السلطة على إتيان كل شيئ لا يضر الغير، فإذا لا بد من نظام تعرف به حقوق النفس من حقوق الغير، و يوصل كل أحد إلى حقه ويوقفه عند حدّه، و لا بد أيضا من هيئات لتشريع القانون و تطبيقه و تنفيذه.
ولا تسلم حرية الشعب والفرد من الأذى وكرامته من المساس إلا إذا كانت هاته الهيئات منه لا من غيره، والطريق الموصل إلى تكوين هذه الهيئات هو الانتخاب العام الحر الذي تعرب فيه جميع طبقات الأمة عن إرادتها في اختيار هيئاتها و لهذا كان حق الانتخاب طبيعيا للأفراد، ولكنها لا تتوصل إليه إلا بالتدريج وبالرغم من جميع المعرقلات فإنه لا يزال يتسع نطاقه بين الأمم إلى اليوم شأن كل شيء طبيعي في هذا الوجود، الهيئات المنتخبة من الشعب كما تكون حاكمة عليه بإرادته كذلك هي في الوقت نفسه ممثلة لقوميته ونفسيته ورغائبه و أفكاره و لا يكون تمثيلها له صحيحا إلا إذا كانت منه، تحس بإحساسه، و تشعر بشعوره وتتألم بتألمه وتكون فوق ذلك منتخبة انتخابا حرا لا دخل ليد سلطة فيه فالانتخاب والنيابة القومية إذا هما الكفيلان بحرية الأمة وتمثيلها، وبهما تعرف درجة الأمة في الرقي ومنزلتها بين الأمم »(72).
الهوامش:
[1] - المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، ص 398.
- 2مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، ص 352.
3 - القاموس المحيط، الفيروز أبادي، مادة،ح، ض، ر.
4- المقدمة، ابن خلدون، ص 371.
- 5 الإسلام و مستقبل الحضارة، د. صبحي الصالح، ص 20 و ما بعدها.
6 - الإسلام و مستقبل الحضارة ، ص 20.
7- خصائص الفكر الإسلامي، د. محمّد عبد اللطيف صالح الفرفور، ص 13.
8- الإسلام و الديمقراطية، سعيد جودت، ص 26.
9- نفسه ص 26.
10- مشكلة الأفكار، مالك بن نبي ، ص 56
- 11إحياء علوم الدّين، أبو حامد الغزالي، ج 1 / ص 9.
12- مشكلة الأفكار، مالك بن نبي ، ص 58.
- 13سورة البقرة 30-33
14 - سورة الإسراء، الآية 36.
- 15 مجالس التذكير، ص 136.
- 16 مجالس التذكير، ص 139.
17- مجالس التذكير ، ص 139.
18- مجالس التذكير، ص 138
19- مجالس التذكير ، ص 138.
- 20 آثار الأستاذ الإمام ابن باديس، ص 4 / ص 74.
21- آثار الأستاذ الإمام ابن باديس، ص 4 / ص 43.
- 22 مجالس التذكير، ص 138.
- 23آثار الإمام ابن باديس، ص 4 / ص 40.
- 24 سنن الترمذي، كتاب لاستئذان ، باب تعلم السريانية ج 5 / ص 67.
25- مجالس التذكير من كلام البشير النذير، ص 72.
- 26 آثار الإمام ابن باديس، ج 4 / ص 166.
- 27 آثار الإمام ابن باديس، ج 4 / ص 317.
- 28آثار الإمام ابن باديس، ج 4 / ص 323.
29- آثار الإمام ابن باديس، ج 4 / ص 40.
- 30آثار الإمام الإبراهيمي ، ج 1 / ص 373
- 31آثار الإمام ابن باديس، ج 4 / ص 147.
- 32آثار الإمام ابن باديس، ج 6 / ص 366.
33- مجالس التذكير ، ص 269.
- 34مجالس التذكير، ص 269.
35- مجالس التذكير، ص 269.
- 36مجالس التذكير، ص 269.
37- آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ج 5 / ص 280 .
38- آثار الإمام ابن باديس ج 4 / ص 60.
39- آثار الإمام ابن باديس ج 4 / ص 53.
40- الشعراء 128 – 131.
41- مجالس التذكير ص 432.
42- مجالس التذكير ص 432.
43- الشهاب ، العدد 26 بتاريخ 30 ماي 1926 م.
44- آثار الإمام ابن باديس، ج 4 ـ ص 100.
- 45 آثار الإمام ابن باديس، ج 4 ـ ص 100.
46 - أنظر نص الرسالة في مقدمة كتاب « تاريخ الجزائر في القديم و الحديث» للشيخ مبارك الميلي.
47- أنظر نص التقرير الذي ألقاه عبد الحميد بن باديس بدار جمعية التربية و التعليم في اجتماع 28 ماي 1939م في آثار الإمام ابن باديس ج 4 / ص 146.
- 48 آثار الإمام ابن باديس ج 4/ ص 147.
- 49آثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 239.
- 50آثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 316.
- 51آثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 338.
- 52آثار الإمام ابن باديس ج 3 / ص 21.
- 53البصائر ، العدد 171، جوان 1939.
54- البصائر ، العدد 3 ، جوان 1939.
55- إبراهيم الهادي المشيرقي، قصتي مع ثورة المليون شهيد.
56- آثار الإمام ابن باديس ، ج 4 / ص 204.
57- آثار الإمام ابن باديس ، ج 4 / ص 57.
58- آثار الإمام ابن باديس ، ج 4 / ص 200.
59 - آثار الإمام ابن باديس ، ج 4 / ص 200
60- آثار الإمام ابن باديس ، ج 4 / ص 124.
61- الإسراء الآية 18.
62- مجالس التذكير ص82
63- مجالس التذكير ص 82.
64- آثار الإمام ابن باديس ، ج 6 / ص 366
65 - آثار الإمام ابن باديس ، ج 5 / ص 153
66- آثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 154
67- سورة الشعراء، الآية 128-129.
- 68مجالس التذكير، ص 432.
- 69آثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 454
- 70آثار الإمام ابن باديس ج 6 / ص 351.
71- الشهاب ، الجزء 1، المجلد 11، محرّم 1354 هـ، أفريل 1935 م.
72- أثار الإمام ابن باديس ج 5 / ص 182.