علاقة الإسلام والديموقراطية في فكر مالك بن نبي
بقلم: محمد البنعيادي -
إن الموضوع الذي بين أيدينا يثير الكثير من الأسئلة المشروعة التي تؤرخ لواقعنا المثقل بالأسئلة المعلقة، هل تقبل المرجعية الإسلامية بالديموقراطية؟ هل يتجانس الطرح الديموقراطي مع الأسس الإسلامية؟·
لقد كان مالك بن نبي واحداً من المفكرين السبَّاقين لمحاولة الإجابة على هذا السؤال من خلال كتاباته المتعددة وبخاصة المحاضرة التي ألقاها في نادي الطلبة المغاربة في سوريا سنة 1960م(81)، هذه المحاضرة التي حاول فيها إبراز الموقف الإسلامي من الديموقراطية في وقت لم يكن الموقف منها متبلوراً بالقدر الكافي داخل الوسط الإسلامي·
ولقد حاول الأستاذ مالك من خلال هذه المحاضرة ومن خلال إشارات أخرى في جل كتبه، الغوص إلى أبعد الحدود في تحليل العلاقة بين الإسلام والديموقراطية·
لقد رأى مالك المشكلة ـ أساساً ـ في الربط بين مصطلحي <الإسلام> و<الديموقراطية>· وكخطوة منهجة أولى لتفكيك وتحليل هذه العلاقة، كان من اللازم تعريف كلا المصطلحين، فما الإسلام إذاً، وما الديموقراطية؟
في معنى الإسلام
يستقي مالك تحديده لمعنى الإسلام من حديث جبريل ـ عليه السلام ـ والذي جاء فيه بأن <الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً>(19)، ويتضح من خلال هذا النص أن الإسلام مجموعة من المعتقدات والأفكار والأحكام والتشريعات المترابطة والمرتبطة بالوحي في مجالات الكون والإنسان والحياة تتوخى هداية الإنسان· إنه توجه ـ وتوجيه ـ قيمي يرسم المسيرة الصحيحة لحياة الإنسان وخلافته في الأرض، إنه <فكر> منظم رؤية فلسفية تتميز بالتكامل والشمول والتوازن عبر <شريعة> تنشد ارتقاء الإنسان في الدنيا والآخرة· ولعل أحد أهم مجالات التشريع هو الحياة الاجتماعية التي تتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والحكم· إذاً، الإسلام لابد وأن يهتم بالسياسة، والسياسة لا بد وأن تتحرك في نطاق الدين ويظهر ذلك ـ بيسر ـ لكل متأمل في محتوى وطبيعة القضايا الدينية والسياسية، فالمشترك بين الدين والسياسة يرتبط بالهدف والقضايا الاجتماعية المراد معالجتها، بل لن نكون مغامرين إذا قلنا بأن الدين يغطي باستمرار كل مجالات السياسة· ولعل المتأمل في حركة الأنبياء عموماً ـ والحركة النبوية المحمدية خصوصاً ـ يلاحظ أن الفكر السياسي التوحيدي ظل نبراساً للعمل السياسي في مجتمعات الدعوة والدولة معاً·
وتتلخص معامل هذا الفكر السياسي التوحيدي في:
أ ـ إقرار الحق للناس ودفع الظلم عنهم·
ب ـ الدعوة إلى الله وتنظيم علاقة الإنسان مع خالقه ومع العباد، يقول تعالى في الآية 52 من سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، ولا شك أن إقرار العدل والقسط في حاجة إلى قانون والذي بدوره لا وجود له إلا بوجود نظام حقوقي واضح والذي لا يمكن تنفيذه إلا في إطار نظام سياسي وأدوات تنفيذية واضحة، كما لا يتحقق الحكم والنظام السياسي إلا بفكر سياسي ذي مرجعية دينية ثقافية واضحة في أذهان الفاعلين السياسيين من جهة وفي ذهن الأمة المسلمة من جهة أخرى·
ويجدر أن ننبه إلى أن مفهوم <الأمة المسلمة> ـ عند تأمله ـ مفهوم إيجابي يمثل حال الوعي والمسؤولية والالتزام بالمضامين الإسلامية ويمثل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم نواتها، هذه النواة التي قاومت مشروع <الأمة الظالمة>، ورموزها المستبدين الذين ساروا بشعوبهم نحو الفساد والإفساد في الأرض· إن <مفهوم الأمة المسلمة> ـ بعبارة أخرى ـ هو ذلك المفهوم الذي تلخص في التطور الكمي والنوعي، والتطور المفاهيمي والمؤسساتي على مستوى <الناس> يوازيه تطور على مستوى المرجعية الدينية والثقافية التي تؤطر في اتجاه تنمية الالتزام والمسؤولية والانضباط لدى <الناس> ليصبحوا ممارسين للفعل التغييري السياسي عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبر نظام ثقافي يؤسس لنظام سياسي يمتلك مقومات بناء نظام اجتماعي تبرز من خلاله مختلف التصورات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية التي تحقق خيرية هذه الأمة لقوله تعالى في سورة آل عمران في الآية 110: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، وتحقق فلاح المؤمنين (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران:104·
في معنى الديموقراطية
وما الديموقراطية في أبسط معانيها؟ إنها تعني <سلطة الشعب> أو الجماهير·
إنها مجموعة ممارسات ووسائل لصناعة القرار السياسي عن طريق مشاركة الأغلبية من أفراد الأمة باعتبارها حجر الزاوية الأساس للنظام والفكر الديموقراطي، إنها تقوم على مبدأين كبيرين: حرية الإنسان والاعتراف بالآخر، إنها مدلول عملي مؤسساتي أكثر منه أكاديمي نظري فلسفي ميتافيزيقي، إنها نظام معرفي ـ يمكن أن يطبع بأي طابع ـ ينعكس على الواقع من خلال بنية مؤسساتية، إنها تيكنولوجيا وآليات وأدوات تعزز من قيمة الإنسان في الأرض وخلافته عليها، وتعزز مساحة الحرية والحركية للإنسان محور الديموقراطية·
إذاً ما وجه المقارنة بين مفهوم سياسي يفيد <سلطة الإنسان> في نظام اجتماعي معين وبين مفهوم ديني يفيد <خضوع الإنسان> إلى سلطة الله في النظام نفسه؟
كذلك <الديموقراطية> لا يعرف ـ بالضبط ـ متى أدرجت في اللغة العربية كمفردة مستوردة ولا حتى تاريخ حدوثها في لغتها الأصلية·
وبهذا يظهر أن الصلة مفقودة بينهما زماناً ومكاناً، وربما أمكن القول مجازفة، نظراً لهذا التباعد من حيث الجغرافية بأن ليس هناك <ديموقراطية في الإسلام>(20)·
بين الإسلام والديموقراطية
هل إقامة حكم الشعب <الديموقراطية> مشروطة بإلغاء الحاكمية الإلهية؟ وهل تقف الحاكمية الإلهية ضد حاكمية الأمة والشعب؟
لتحرير القول في ذلك لابد من مراعاة حقيقتين مهمتين:
1 ـ الحقيقة الدينية: حيث لا يختلف إنسان مسلم كيفما كان مذهبه على أن الحاكمية الأولى هي الحاكمية الإلهية وإلا سقط المعنى الأول والأساسي للدين الذي يختزن مجموعة من الحقائق الدينية (الحياة، الموت، البعث···)·
2 ـ الحقيقة الاجتماعية ـ السياسية: حيث من المسلَّم به أن الإسلام يستهدف تحويل نصوصه وتعاليمه إلى قيم وأخلاق وأحكام، وبالتالي إلى ثقافة تؤطر الإنسان المسلم بقوتها ونفاذها ونفوذها، وذلك لا يتحقق إلا بتفاعل الديني مع الاجتماعي مع الثقافي مع السياسي، حيث على السياسي ـ مثلاً ـ تسخير الديني المقدَّس في بناء الثقافة السياسية للمجتمع المسلم، ولذلك فقد <يختلف مجال الديمقوقراطية كما تختلف قضيتها، فإذا كان الإسلام يتعارض مع بعض المسائل الوضعية للديمقراطية، فهذا بسبب سمته الكلية كدين··· لكن لأنه لا يوجد إجماع على المعنى الدقيق للديموقراطية كنظام سياسي، فإننا لا نستطيع أن نجعل من تعريف واحد أساساً <لمقارنة الإسلام والديموقراطية> وأنه لا يوجد نوع من الحكم القائم على أساس أيديولوجي أو تركيب اجتماعي واقتصادي لا يمكنه أن يكون جديراً بصفة الديموقراطية بالمعنى الشائع عنها في زماننا دون أن يكون معتمداً على عدد من المبادئ أو متجلياً في المواقف والقيم الاجتماعية عند تابعيه أو ظاهراً في قوانينها، وأهم هذه المبادئ الاعتراف رسمياً بقيمة كل مخلوق إنساني بصرف النظر عن صفاته··· ومساواة كل المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن السمات العرقية أو القومية أو الطبقية···>(20/1)·
إن عدم التدقيق في ماهية الموضوعات قد يوقع في خطأ المقارنة بين موضعين من طبيعتين مختلفتين مثل المقارنة بين الإسلام والديموقراطية، أي بين ما طبيعته اعتقادية فكرية سلوكية <الإسلام> وبين ما طبيعته تدبيرية إجرائية <الديموقراطية> ـ كما سنرى ـ والحقيقة أن المقارنة يجب أن تطال مساحة ما يسمَّى <الفراغ التشريعي> أو مقاربة المشترك بين الحقلين وذلك، فالذي لا شك فيه أن كلاً من الإسلام والديموقراطية يحتويان على مضمون ثري يجب إظهاره لتيسير المقارنة.
إن أي مفكر إسلامي ـ مثل مالك بن نبي ـ عندما يتصدى لوضع نظرية جديدة عن <الديموقراطية الإسلامية> فإنه <يقوم خاصة بالمقارنة بين مفاهيم المساواة في الإسلام وبين الفكر الكلاسي الغربي، فإنه يستمد شجاعة وقوة قلب عندما يجد أن المساواة التي يقر بها الإسلام ـ على خلاف ما هو معروف عند اليونان ـ لا يحتويان على أي شرط مسبق>(20/2) سوى التقوى والعضوية في الأمة، لأن الإسلام يعترف بالإنسان رسمياً بصرف النظر عن عقائده وجنسه، وإن كان يعارض النزعات القومية فحجته في ذلك أنه يستنكر كل المعايير <الجاهلية> العرقية والقومية والإرثية التي تميز بين المخلوقات الإنسانية باستثناء التقوى التي تجعل إنساناً أعز وأكرم وأفضل من آخر (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)·
لحل الإشكال، يركز مالك على الأسس والبنية الداخلية للديموقراطية والمراتب التي تعتمدها في تطوير ذاتها دون ربطها بأي مفهوم مسبق كالإسلام أو المسيحية، ويذهب إلى أنه <ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديموقراطية ونحددها دون ربطها مسبقاً بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها أي في إطار عموميتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق· ففي مثل هذا الإطار··· يجب أن نعتبر الديموقراطية من ثلاثة وجوه:
1 ـ الديموقراطية كشعور نحو الـ<أنا>·
2 ـ الديموقراطية كشعور نحو الآخرين·
3 ـ الديموقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد·(21)
إن ابن نبي يتحدث عن الديموقراطية بوصفها شعور الإنسان ذاته، نحو بنية <الأنا>· وهذا الوعي بالذات شرط جوهري في بناء الثقافة الديموقراطية المتمحورة حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول العقل والحرية والخلافة وصناعة التاريخ·
كما أن الوعي بالذات يسهل منظومة ثقافية واجتماعية تفضي تلقائياً إلى الوعي بالآخر <الشعور نحو الآخر> عبر منظومة قيمية أساسها الحوار والوعي المتبادل· ولذلك نلاحظ ـ مثلاً ـ أنه بالثقافة الديموقراطية والحس الديموقراطي والوعي الديموقراطي، والروح الديموقراطي رفع الإنسان الأوروبي من مستوى قن (Serf) إلى مستوى مواطن (Citoyen)، وهذا التساوي عزز من قدرة الثورة الفرنسية على ترسيخ شعاراتها: الأخوة، المساواة··· ولهذا ركز مالك على فلسفة الوعي بالآخر الذي إذا فقد فقدت الديموقراطية معناها البنائي، وبالتالي فقدت الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبناء الديموقراطية الحية الحقة· إن <الشعور نحو الآخرين> كما حددها مالك بن نبي يؤسس قواعد المنهج الاتصالي في النظام الديموقراطي ويعزز فلسفة الاتصال في بعدها الثقافي والروحي والإداري والسياسي··· ولذلك نراه يدعو إلى إنشاء علم اجتماع ديموقراطي وبخاصة في الكيانات التي تتوافر على خصائص <مجتمع> لترسيخ الثقافة والتربية الديموقراطية·
لكن هل النص القرآني والحديثي يحتوي على المعادلات المشكلة لبناء المشروع الديموقراطي؟
إن هذه المعادلات قائمة في بنية النص قبل وجودها في الديموقراطية الغربية، والروح الديموقراطي يتشابه إلى أبعد الحدود مع الوظيفة القرآنية وروح المشروع القرآني الذي يتمحور حول الإنسان·
وهكذا نلاحظ أن النص القرآني ـ كذلك ـ كان فيه الإنسان محوراً مهماً لقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء:70، وهكذا التكريم يقتضي بداهة الإحساس بالذات والوعي بالآخر في الوقت نفسه·
إن موقع الإنسان في النص يتجلى من خلال:
ـ محورية الإنسان في القرآن·
ـ جعله خليفة في الأرض·
ـ التأكيد على بناء الخلافة في النفس والآخر قبل بنائها في الأرض·
ولتفعيل هذه المحورية ربط النص الحديثي ـ مثلاً <الأنا> بـ<الآخر> في قوله صلى الله عليه وسلم: <لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه>(22)، وقوله صلى الله عليه وسلم: <مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى>(23)، إنه الوعي والإحساس بالآخر في أجلى صوره، وإنه منهج اتصالي رفيع داخل النص يؤمِّن سلامة البناء وتفعيله·
إن الإسلام يحمل رؤية متكاملة تشكل وعي الإنسان الخليفة وتحدد حركته في الأرض، هذه الرؤية التوحيدية تحمل ثقافة اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية وروحية وتربوية·
إن هذه الوجوه الثلاثة <الشعور نحو الأنا والشعور نحو الآخر والشروط الاجتماعية والسياسية> تبرز ـ دون شك ـ ما تقتضيه الديموقراطية في الجانب الذاتي والموضوعي، أي كل <الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديموقراطي والعدة التي يستند إليها النظام الديموقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديموقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوافرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد>(24)، وهذه الشروط <خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين>، معنى ذلك أن هذه الحركة وهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان هما الشرطان الأساسيان لنشوء وتخلق <الشعور الديموقراطي> ليصب نظرية أو رؤية في بناء النظم والمؤسسات من أجل تغيير الواقع إلى الأحسن، نحو تحرير الإنسان من قيد العبودية والاستضعاف·
إن هذا الشعور ـ وعبر تراكمات ـ كفيل بأن يكون اللبنة والمنطلق في بناء صرح الحرية وحقوق الإنسان وبناء دولة الإنسان كما يقول السيد محمد حسين فضل الله، ومهما يكن الغموض الذي يكتنف هذا الشعور الديموقراطي، فإنه يبرز عندما نخلصه من قيود التاريخ والسياسة السائدة ونعبر عنه بلغة علم النفس وعلم الاجتماع كما يذهب إلى ذلك المرحوم ابن نبي·
مظاهر السلوك الاستبدادي: فروعون أنموذجاً
عندما يدعو ابن نبي إلى اعتماد علم النفس وعلم الاجتماع في تحليل الموضوع الذي بين أيدينا، فإنه يريد تحليل النوازع النفسية للنفس البشرية في علاقتها المؤثرة والمتأثرة بمحيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي· ذلك أنه عندما تكون النزعة الذاتية ـ مثلاً ـ أقوى من نزعة الإيمان لدى الإنسان، وعندما تتحرك نوازع الشيطان وعوامل الفجور الأخلاقي والثقافي والسياسي···· في النفس، تتحرك ـ موازاة مع ذلك أو نتيجة له ـ نزعة الاستبداد الفعلي أو الفكري لتطلق ممارسات استبدادية جبروتية تسعى لتحريف الحقائق والهيمنة عليها إلى حد قد ينصِّب الإنسان نفسه إلهاً معلناً كما قال تعالى عن فرعون: (فحشر فنادى· فقال أنا ربكم الأعلى) النازعات:23 ـ 24، و(قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر:29، و(قال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) القصص:83، وقال لموسى عليه السلام: (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) الشعراء:29··· أو إلهاً غير معلن بادعائه امتلاك الحقيقة وناصية المعرفة، ذلك هو السلطان الجائر والحاكم الظالم والمفتي الكاذب··· الذي لا يقبل نقاشاً أو انتقاداً··· هذا هو حاكمنا الراهن ذو الثقافة الأحادية كما قال مالك بن نبي، وهذه هي دولنا المستبدة·
ويبلغ الاستبداد بالحاكم إلى درجة الاستهانة والاستخفاف بالمجتمع كما فعل فرعون (فاستخف قومه) الزخرف:54، حتى إن المجتمع فقد ثقته بثقافته وفكره وعقله ثم بنفسه، فأطاع الحاكم طاعة عمياء نفت شعوره الذاتي (فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) الزخرف:54·
إن فرعون عندما استكبر بحكمه وميَّز بين نفسه وبين شعبه فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فقد ساقهم بذلك إلى الاستضعاف والاستعباد· يوقل تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المسرفين) القصص:4·
لكن إذا كان <الناس> هم سند الأنبياء والمرسلين ـ بعد الله عز وجل ـ في الدعوة والتغيير فلا غرو أن نجد القرآن الكريم يوجه موسى ليطرح قضية الإصلاح والتغيير على فرعون قائلاً: (اذهب إلى فرعون إنه طغى· فقل هل لك إلى أن تزكى· وأهديك إلى ربك فتخشى) النازعات: 17 ـ 19·
لكن فرعون الذي أسست الخرافة ونرجسية الذات مكاناً لهما في عقله وتصرفاته وسلوكه، أصبح عدو نفسه وشعبه، بل أصبح سجين أوهامه التي جعلت موسى عليه السلام يقود حركة تغييرية غاضبة عليه، ويأتي مبشراً قومه بحكومة الصاحين الصالحين المتقين: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) الأعراف:128، ويؤكد داود عليه السلام هذا التبشير بحكومة العدل والتوحيد (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء:105·
إن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ قوبلت بمواجهة ضارية من طرف فرعون، وعلى جميع الأصعدة لطبيعته الاستبدادية، فالحاكم المستبد دائم الخوف، حيث لا يحتمل حملات التوعية والدعوة إلى الإصلاح الذي يستهدف نظامه وربما وجوده أيضاً، ولذلك يضطر إلى اللجوء إلى اتهام أقطاب المعارضة بكل التهم الممكنة وغير الممكنة، كإجراء وقائي ضد كل الأخطار التي تهدده· (قالوا أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين) يونس:78، بل يجعل الناس ينفرون من المعارضة الصالحة باتهامها: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) طه:57، (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) طه:63، إن فرعون يصور للناس وضعهم البائس تصويراً جميلاً نعته بالطريقة المثلى·
حتى إذا فشل، بدأ يتوسل بادعاء التدين والتستر به وتنصيب نفسه حامي حمى الملة والدين في محاولة لعرقلة مسيرة التدين الحقيقي (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد) غافر:26، وقد يتمادى المستبد في مخادعة الجماهير وتضليلهم وينصِّب نفسه مرشداً روحياً هادياً إلى الحق والصواب (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر:29· وقد يعمل <الفرعون> على تقسيم مجتمعه بين مستكبرين يعينونه على المستضعفين لتثبيت سلطانه (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) القصص:4، مدعياً امتلاك <المكان> الذي يعيش فيه المجتمع (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) الزخرف:51· إن التاريخ مليء بمآسي الاستبداد والديكتاتورية التي حوَّلت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق مثل قصة أصحاب الأخدود والجبابرة الذين ما نقموا من قومهم إلا لأنهم لم يريدوا اتباع مسلكهم وآمنوا بالعزيز الحميد كما ورد في سورة البروج·
إنها طبيعة المستبد، جشع بالغ وطمع يتجاوز كل الحدود، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد·· إنه تاريخ مشحون بالمآسي والدموع·
فالقرآن الكريم يصف فرعون بأنه كان مستكبراً متعالياً مسرفاً متجاوزاً الحد، فهو يرى نفسه فوق الآخرين وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم، وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) يونس:83، (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين· إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين· فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) المؤمنون: 45ـ47، إنه تصوير رائع لحالة سياسية مستبدة إذ الاستبداد <حالة طغيان تجعل الحاكم المستبد لا يقبل نصيحة أو انتقاداً فيصير سيء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب· أسباب السموات والأرض فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب) غافر: 36 ـ 37، <إن الحاكم المستبد في الرأي والحكم يعتقد أنه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته سواء أوافق الدليل أم لا وسواء أطابق المصلحة أم لا، بل يكفي في صحته ولزوم طاعته أنه رأي الملك ومشيئته>(24/1)·
إن القرآن الكريم في حديثه عن فرعون وهامان ونمرود وأصحاب الأخدود··· وكل جبابرة التاريخ، يدين الحكومة الاستكبارية التي تربط الناس والنظام والقانون بوجودها بديلاً عن جهاز سياسي قويم قوامه إرادة تقابل إرادة أنظمة الحكم الفاسدة المستبدة، إرادة التغيير الحضاري الشامل الذي ينطلق من أسس الثقافة التوحيدية التي تحترم حركة الإنسان وحركة المستضعفين (ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين· ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) القصص:5ـ6·
ولذك فالتشريع الإسلامي نظام حقوقي يستدعي سلطة سياسية تتعهد بتنفيذها، كما أن الدعوة تستهدف هداية الناس مما لا يمكن تحقيقه إلا في إطار سياسي، فالأنبياء عموماً والرسول صلى الله عليه وسلم خصوصاً ـ انطلقوا في مواجهة المجتمعات الجاهلية ورموز أنظمتها على أساس جهادي قوامه فكر توحيدي يخطط وينظم ويؤسس لعمل سياسي·
مالك بن نبي: نأخذ بالديموقراطية الغربية··· ولكن!!
وينتقل بنا مالك إلى أوروبا للحديث عن <الشعور الديموقراطي> الذي أرجعه إلى كونه نتيجة ومآلاً طبيعياً لحركة الإصلاح والنهضة التي عرفتها أوروبا خصوصاً، رغم أن الأمر· في مقارنته بالمرجعية الإسلامية· يحتاج إلى المزيد من الحذر، فقد يتصور المرء في بادئ الأمر <أن الغرب يمارس ديموقراطية حقيقية غير أن من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفية يرى صورة عن الديموقراطية لا روح فيها، وشكلاً من حرية الانتخاب لا وقع له، فالإنسان في تلك الديار ـ والتي خبرها مالك بن نبي عن قرب ـ مسير بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح، فالإنسان الغربي يمارس ديموقراطية كاذبة لأنه لا يختار إلا تحت التأثير الإعلامي من تريد تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه أو يحكم به عقله وتقتضيه مصالحه>(24/2)·
إن مالك بن نبي ـ أحد كبار أقطاب <الاستغراب>· والذي قضى قسطاً كبيراً من عمره محتكاً بالمجتمع الغربي ومفكريه وفلاسفته علم أن الديموقراطية الغربية متخلفة في جانبها التطبيقي، وإن كان يرى الأخذ بإيجابياتها المنسجمة مع الإسلام· لقد علم أن الإنسان في الغرب ينتخب تحت تأثير الأجهزة الإعلامية والدعائية الفاعلة والمؤثرات ما ظهر منها وما بطن <الجلية والخفية>، ينتخب من تروج له دعايات أصحاب الشركات والمعامل الكبرى أو من تدعو له الراقصات والمغنيات والعاهرات الحاملات لصور المرشح على صدورهن العاريات، ناهيك عن شراء الأصوات والتحالفات المصالحية، لذلك إن انتخاب مرشح شرذمة معينة لا قيمة له في ميزان العدل والحق الإسلاميين إذا كان الشعب يُسَاقُ مثل القطيع إلى صناديق الاقتراع، كما يصور مالك بن نبي الانتخابات في الجزائر على عهد الاستعمار الفرنسي وأذنابه، ولذلك نجد مالكاً يركِّز على تحليل <البنية الداخلية للديموقراطية>، و<التربية الديموقراطية>، نحو الأنا والآخر والشروط الاجتماعية·
إن هذا المعنى لا يمكن سحبه على البلدان الأخرى، ولكن <الشعور الديموقراطي> ـ عامة ـ هو <نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي الحد الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضاً بالنسبة للآخر>(25)· مثل المستعبِد والمستعبَد، والمستبِد والمستبَد به، والإنسان الذي تتمثل فيه قيم الديموقراطية هو ذلك الذي يمثل الحد الإيجابي بين <نافية العبودية ونافية الاستعباد>، هذا هو المقياس <الذي تقاس بهالأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديموقراطي سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع>(26)·
إن تطوراً من هذا النوع هو في حقيقة الأمر عملية تصفية للإنسان حين يتخلص من رواسب العبودية ونزعات الاستعباد بصفتهما صورة مشوهة للشعور الديموقراطي· فالعبد الذي يقول: <نعم> في كل الظروف يكرس سلبية معناها رغم إيجابية لفظها>· إن <نعم> هنا تساوي نافية، تلغي قيمة الـ<أنا> والذات أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبني عليها الديموقراطية في نفس الفرد الشعور الديموقراطي>(27)، وأن المستبد المستعبد صورة أخرى لنفي للآخرين·
ويورد مالك ـ للتمثيل ـ ذلك الحوار القرآني الذي دار بين فرعون وموسى في سورة طه، ذلك الحوار الذي يعطي صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون الذي لا يعبر عن نافية إزاء <الأنا> بل عن نافية إزاء الآخرين، يقول تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى· قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى· قال فما بال القرون الأولى· قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى· الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى· كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى· منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى· ولقد أريناه آيايتنا فكذب وأبى· قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى· فلنأتينك بسحر مثله· فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى· قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى· فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى· قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى· فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى· قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى· فأجمعوا كيدكم ثم إئتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى· قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى· قال بل ألقوا· فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) طه:49:66، إلى قوله تعالى: (قال آمنتم قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم من خلاف) طه:71، ففي الطغيان السياسي <وجدنا أن فرعون لا يريد أن يحكم الإنسان فقط، ولكنه يريد أن يحكم الأرواح والضمائر··· ولذلك عندما آمن السحرة فهو يقول لهم باستكبار واستنكار (آمنتم له قبل أن آذن لكم) فهو ينتظر أن يكون الإيمان والكفر بإذن منه هو···>(27/1)، <فقد أنكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم كأن عملية الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة، ولكن تلك هي سيرة الطغاة وعقليتهم في كل زمان ومكان عندما يريدون أن يملكوا على الناس عقولهم وأفكارهم فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة، فالتفكير ممنوع، والإيمان محرَّم من دون الإذن الرسمي من قبل السلطة الرسمية التي تملك العقول كما تملك الأجسام والأعمال <نافية الآخرين>(27/2)، ثم يحاول أن يخفف عن نفسه وقع الصدمة وحرج الموقف ـ يقول محمد حسين فضل الله في الصفحة نفسها ـ باعتبار أن ما حدث (إيمان السحرة بموسى) يشكل نقطة ضعف في سلطانه لأن المتمردين <السحرة> هم من أتباعه المقربين، فيحاول أن يصور لنفسه وللآخرين أن القضية، من البداية، لم تكن تمرداً عفوياً يصدر عن قناعة الدعوة الجديدة ورفض للسلطة القديمة بكل ما تملكه من أفكار، بل كانت مؤامرة سابقة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة، باعتباره أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر وأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف موقف المهزوم، ولم يفلح تهديده··· بل وقفوا موقف اللامبالاة أمام كل صرخات التشنج التي يطلقها فرعون ليقولوا له بكل قوة: إننا لن نؤثرك على ما شاهدناه من البينات فافعل ما تريد··· إنه الموقف الرائع والأنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورة للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان وبين قوى الحق والإيمان>، بين الحرية والعبودية الحقة والشعور الديمقراطي نحو الأنا والآخرين الذي يمثله موسى والسحرة من جهة وبين نفي الآخرين واستعبادهم والذي يمثله فرعون من جهة أخرى·
ونلاحظ ـ هنا ـ أن في العمل الرسالي التغييري ليست القضية قضية خاصة ليدخل الداعية المناضل <الموضوع في حساباته الشخصية أو مركزه العملي، بل إن القضية قضية الفكرة التي يؤمن بها، والدعوة التي حمل مسؤوليتها مما يجعل قضية النجاح أو الفشل قضية الأمة··· وربما كان موقف موسى في حواره مع ربه، وطلب إشراك هارون معه يمثل القمة في وعي المسؤولية بعمق وإخلاص، إنه الدرس القرآني العظيم لأولئك الذين يفكرون بالعمل الرسالي <التغييري> من زاوية الأنانيات الشخصية والاعتبارات الذاتية التي تمنع الإنسان من التعاون مع أي إنسان كان>·
إن موسى ـ رمز المستضعفين ـ من خلال هذا الحوار الشيق مع فرعون ـ رمز المستكبرين ـ يقود حركة المستضعفين الغاضبة تجاه تحرير مفهوم العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، يعتمد منهجاً علمياً واضح المعالم، هذا المنهج الذي واجهه فرعون بمنهج <نفي الآخرين>، وإرهابهم: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنَّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) طه:71·
إن موسى عليه السلام كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، أي يعتمد منهجاً علمياً واضح المعالم، هذا المنهج الذي لم يجد معه فرعون إلا منهج <نفي الآخرين> وإرهابهم (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنَّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) طه:71، <والغريب أن فرعون ألحظ فيه ما ألحظه في المستبدين، وهم أن فيهم كبرياء وعناداً وفسوقاً وجحوداً وقسوة قلب عجيبة··· وفيهم أيضاً إلى جانب هذا كله غباء يستدعي النظر لأنه وهو يطارد موسى ومن معه وجد البحر يخضع لعملية تحول غير عادية··· الأمواج تنحدر يمنة ويسرة، ويبدو الطريق يبساً··· فكان ينبغي أن يفهم أن هناك حاجة غير ما ألف، وغير ما ينتظر· وهؤلاء ـ بعصا موسى ـ عرفوا كيف يشقون طريقهم إلى البحر، فكيف يمضي وراءهم؟ إنه فهم أن البحر سيظل معجزة قائمة من أجله··· هذا هو الغباء وهو غباء مألوف لدى المتكبرين··· بل لاحظت أن نهايات هؤلاء الجبابرة تكون من غبائهم الشخصي، فهم حتى آخر لحظة تكون لهم تصرفات فيها صلف وعمى ينسج على بصائرهم فلا يستطيعون أن يروا إلا أهواءهم>(27/3)·
إن موسى ـ عليه السلام ـ كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل أن العبودية الحقة لا تعني إلا الحرية المطلقة من كل مؤثر سوى الله عز وجل، إنها فك قيود الشهوات والولاءات الزائفة· وهذه الحرية تحضر برؤية سياسية عميقة تربط بين التوحيد والتغيير السياسي معاً، فموقف الإنسان من الله ومن الشيطان يؤثر على حقيقة الحرية والأسر، ولذلك فالتحرر من الدين انقياد لسلطة الطاغوت الذي يحتاج في تسلطه إلى ثغرة يتسلسل منها إلى داخل الإنسان ليأسره، وقد تكون هذه الثغرة مفهوماً ثقافياً أو رغبة دنيوية أو حاجة أو شهوة كما فعل فرعون·
لذلك فمجاهدة هذه المؤثرات السلبية ـ كما هو حال موسى مع السامري وعجله في سياق سورة طه نفسها ـ سيؤدي إلى مجاهدة الاستبداد والاستكبار انطلاقاً من مرجعية قوامها فكر سياسي توحيدي يقارع الظلم والاستعباد·
وأعتقد أن القرآن الكريم <إنما قص هذه القصة عن فرعون وبني إسرائيل، ومصير المستبدين سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو ماليين، إنما فعل هذا لكي نأخذ عبرة: بأنه ما يجوز ترك حاكم يتفرعن، يجب تقليم أظفار الذين ينزعون إلى الاستعلاء على الخلق وادعاء الألوهية، فإذا كانت السلطة أو الثروة من أسباب الشذوذ، فيجب أن تقيد السلطات بحيث لا تغري أحداً بهذا الاستبداد الأعمى، وأن تقيد الأملاك وأن تراقب فلا تكون سبباً في أن يتألف من أصحاب الأموال طبقات من المترفين الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون··· يقول الشيخ رشيد رضا في المنار: <إن موسى ذكر في القرآن 120 مرة، فما ذكر اسم بشر ولا ملك كما ذكر اسم موسى··· إن قصة موسى لم تذكر للتسلية، وإنما حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة، وحتى تعرف الشعوب أيضاً أن عبادة غير الله جريمة، وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان في الدنيا والهوان في الآخرة>(37/4)·
وقد نجد أحياناً ما يعبر عن النافيتين معاً (نافيتي الـ<أنا> والآخر) وذلك حينما يشير أحد القياصرة ـ مثلاً ـ إلى أحد جنوده فيلقي بنفسه في هاوية سحيقة كأنه آلة تحركت بضغط زر، <فهذا المشهد يتضمن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل المستبد أي نافيتي الشعور الديموقراطي>(28)·
إن الحديث عن علاقة الديموقراطية بالإسلام منوط بما ذكرت من العناصر الثلاثة السالفة <الشعور نحو الأنا، نحو الآخرين، الشروط الاجتماعية والسياسية>، باعتبارها شروطاً عامة لوجود <الشعور بالديموقراطية> في أي بيئة، ويطرح مالك السؤال مجدداً: هل الإسلام يتضمن هذه الشروط الذاتية والموضوعية أي نحو الـ<أنا> ونحو <الآخرين>؟ هل يتضمن <الشعور الذي يطابق الروح الديموقراطي كما بينا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟>(29)·
وقبل الإجابة، يؤكد مالك على التسليم بداهة أن الإسلام ـ بفضل تربيته المتميزة للنفوس ـ يخفف ـ إن لم نقل يقضي على ـ كمية وحدة الدوافع السلبية والنزعات المنافية للشعور الديموقراطي والتي تطبع علاقة المستعبد بالمستعبد، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً·
إن مالك بن نبي يقر بأن الديموقراطية تحمل مضموناً إنسانياً نبيلاً هو حق الآخر في التعبير عن نفسه، لكنها في الوقت نفسه تفتقد القدرة على الصياغة الشمولية: العقيدة والمشاريع والبرامج··· ولذلك فهي تمارس بداعي الحاجة إلى تلافي الشقاق وتنظيم الاختلاف الذي ينبت في الأنظمة الفكرية الحرة التي تكتفي بالضوابط العامة وتترك تفاصيل الأشياء <للناس>، وفي هذا السياق يندرج الإسلام كمنظومة تبرز فيها منطقة الفراغ التشريعي التي تستدعي التدبير والتطلع ـ بشكل جوهري ـ إلى الأهداف والمقاصد عبر إطلاق قواعد عامة ضابطة للحركة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذه الحركة التي نجد صداها في البعد التربوي / العقدي الذي يمثل المرجعية الثقافية الأساس للأمة مثل: الرقابة الإلهية والمسؤولية الفردية والجماعية والحرية··· وحسبنا ما كتب في مقاصد الشريعة والفقه المقاصدي والاجتهاد المقاصدي من كتب ومصنفات تضاهي أرقى النظريات الغربية في المجال·
إن الكتاب والسنة يقدمان ضوابط عامة تعني بالمقاصد الأساسية كالعدل والتآخي ومحاربة الفساد··· ضوابط مرتبطة بالثوابت لا تدخل في المتغيرات وبخاصة في مجال التنظيم والتدبير، مجال عمل الديموقراطية، بمعنى أن مجال عمل الديموقراطية هو تلك المساحة التي اكتفى منها الشرع بوضع ضوابط عامة أو منطقة الفراغ التشريعي، ومفهوم الديموقراطية ـ من هذه الناحية ـ يتكيف مع حرص الإنسان على ضبط اجتماعه السياسي بأقل سلبيات ممكنة·
وفي إطار الجدليات المُشار إليها في مجمل كتاباته <الثقافة والسياسة، الأخلاق والسياسة، الأيديولوجيا والسياسة···>، نجد ابن نبي يجعل المشروع الثقافي ضرورياً في تأسيس أي مشروع هادف إلى الديموقراطية من داخل منهج يشمل الجوانب النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، من ذلك يتبين تجاوز مالك للمعالجة السطحية والفهم السطحي لمسألة الديموقراطية، هذه السطحية التي تنشأ عن تناول المعنى الدارج أي في حدود اشتقاق المفردة الأثينية، وبالتالي فالديموقراطية ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير· إن الديموقراطية هي <تكوين شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية يشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالباً إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديموقراطي عندما يصبح واقعاً سياسياً>(30)·
وهكذا يظهر أن الاستعارات السياسية والدستورية التي تأخذ بها دول العالم الثالث لا تجدي نفعاً في إقرار واقع ديموقراطي، لأنها وحدها غير كافية إلا إذا صحبتها إجراءات تتعامل مع نفسية الشعب وهويته وتراثه وإقناعه بهذه <التقنيات الغربية>·
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي ( الكويت ) العدد : 464 بتاريخ 12 ماي 2004م