محاولة اغتيال الأستاذ الإمام ابن باديس وصورة الحادثة
بقلم: محمد الصالح بن عتيق -
ترصد المجرم للأستاذ بعد عودته من الجامع الأخضر ليلا، وكمن له في الطريق، وبينما كان الأستاذ متلفّعا ببرنوسه في غفلة وربما كان يفكر في حال الأمة، وفي مستقبل الوطن، إذا بضربة هراوة تهوي على رأسه، وهنا يقع لطف الله وينتشله من براثين هذا الوحش الهائج، وتبعت في الأستاذ قوة خارقة للعادة، فيمسكه وهو الضعيف النحيل كأنه أمسك عصفورا صغيرا بين يديه، ويصعد به في الدرج إلى الطريق العام، ويصيح مستغيثا فتبلغ صيحته جماعة كانت بمكان قريب منه، فيهرعون إليه ولما رأى المجرم إقبال الجماعة لاذ بالفرار، وإلى أين؟ إلى منزل الأستاذ حيث وقف ببابه ولعله كان ينتظر الإجهاز عليه بطعنة بسكين كان يحملها، ولكن خاب ظنه، وخذلته بركة الشيخ والزاوية، فعثروا عليه هناك، وانقضوا عليه، وكادوا يقتلونه لولا تدخل الأستاذ الإمام، قائلا: كفوا عنه فليس الذنب ذنبه، فما هو إلا صخرة مسخرة، شاع الخبر في المدينة فأقبلت الجموع تستطلع الخبر، وتتأكد من حياة الأستاذ برؤيته ولكن الطبيب والأهل منعوا الناس من الدخول عليه لأنه كان متعبا، ولما بلغ الخبر إلى طلبته جاؤوا مسرعين في حيرة وذهول قاصدين منزل الشيخ وطلبوا رؤيته فمنعوا من ذلك فأصّروا على رؤيته وعلا ضجيجهم، ولما علم الأستاذ أن الطلبة يريدون الدخول عليه أذن لهم بالدخول.
ولما دخلنا عليه رأينا ويا هول ما رأينا شخصا نحيلا علاه الاصفرار يصارع الألم الذي أصابه بصبر وثبات فأصابنا حزن عميق وقد أدرك ما نحن عليه فابتسم وقال لنا أتذكرون درس الليلة في تفسير قوله تعالى: ] لَهُمْ دَار السَّلام عِنْد رَبّهمْ وَهُوَ وَلِيّهمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ قلنا نعم نذكر جيدا، والحمد لله على سلامتكم.
وقبل أن ننصرف سألناه عن الحادثة وكيف جرت بينه وبين المجرم قال: بينما كنت عائدا من إدارة الشهاب ليلا، وقد تلفعت ببرنوسي من شدة البرد أفكر في أعمال الغد، وأنا ذاهب إلى المنزل، وعندما كنت على السلم الواصل إليه، لم أشعر إلا بضربة شديدة تهوي على رأسي، ولولا العمامة التي وقتني لنالت مني هذه الضربة أكثر مما نالت، فاشتبكت مع المجرم، واستطعت أن أحمله بين يدي هاتين، مشيرا بيديه، وأصعد به في الدرج وبلغت به الطريق العام، ثم سكت قليلا، ثم قال: أتدرون كيف تغلبت عليه؟ قلنا لا، والله إنها أعجوبة. قال: إن الأمر أهون مما تتصورون السّر يكمن في أن الرجل بدوي يجهل السير على الدرج وخاصة الضيق منها، أما أننا فقد تعودت السير عليها، ولم أجد في ذلك حرجا. وأبى رحمه الله يجعلنا نعتقد أنها كرامة له من الله، وهي كذلك فمن عرف المكان الوعر والوحش الكاسر، وما معه من سلاح، ومن عرف ما عليه الأستاذ من الضعف والهزال أيقن أن الله كان معه يدافع عنه.
ولله در شاعر الشباب محمد العيد يسجل هذه الحادثة في قصيدة قائلا في مطلعها:
حمتــك يــد المـولى و كنت بهـا أولى ~~~ فيالك من شيـخ حمتــه يـد المـولى
وبعد هذا الحديث الذي دار بيننا وبينه، خرجنا مودعين من طرفه مزودين بدعائه، سائلين له الشفاء والعافية، ونفوسنا حزينة وقلوبنا دامية، فمنا من كان يبكي رحمة وشفقة، ومنا من كان واجما يفكر في حالة الأستاذ، وبعضنا يلعن المجرم ومَنْ سخّره، وأذكر أننا قضينا تلك الليلة في الحديث عن تلك الجريمة، والتعليق عليها، وكنا نضيف هذه الكرامة إلى كرامات أخرى شاهدناها للأستاذ عدّة مرّات، ولولا أن الكلام في مثل هذا لا يرضيه، فكثيرا ما كان ينهانا عن الاهتمام به وروايته لأتيت بالكثير من الكرامات شاهدتها منه شخصيا و شاهدها الثقات من الطلبة و غيرهم، لكن مثل هذا لا يعجبه كما قلت، بل يرى في ذلك ذريعة إلى تقديس الأشخاص والتعلق بهم، وبالتالي يجر إلى عبادتهم، والتمسح على أعتابهم، والاستغاثة بهم كما نشاهد اليوم من العوام وأشباه العوام، وهو الشرك بعينه نعوذ بالله منه ومنهم.
صدى الحادث الأليم:
ما كاد خبر الحادثة يقع حتى انتشر الخبر في أنحاء الوطن العربي، فورد على مجلة الشهاب عشرات من القصائد والمقالات يستنكرون فيها محاولة اغتيال الأستاذ ابن باديس من طرف دعاة البدعة بإيعار الإدارة الاستعمارية.
وكل هذه المقالات تفيض شعورا وإعجابا بجهاد الأستاذ وشجاعته فمن ذلك القصيدة التي وردت من شاعر الشباب، وأمير شعراء الجزائر الشيخ محمد العيد آل خليفة الذي خاطب بها الأستاذ الإمام بعد الحادثة، و مطلعها:
حمتـك يـد المـولى و كنت بـها أولـى ~~~ فيـالـك من شيـخ حمتـه يـد المـولى
وأخطــاك المـوت الــزؤام يـقـوده ~~~ إليـك أمـرؤ أمـلي له الغـي مـا امـلي
وأهــوى إلى نصــل بكف لـئمــة ~~~ تعــود أن ينضـي بها ذلـك النصــلا
فـأوسعهـا وهنـا، و أوسعتهـا قــوة ~~~ وأجـهدتهـا عـقدا، و أجهدهـا حــلا
وكـادت يـد الجـاني السخّر تــعتلـي ~~~ يـد الشيـخ لـولا الله أدركــه لـولا
وجاءت من الشاعر الكبير الشيخ السعيد الزهري قصيدة ينوه فيها بشخصية الأستاذ ابن باديس، ويستنكر فعل خصومه الأنذال ومطلعها:
لا تبلـــغ العليــــاء دون ثبــــات ~~~ هيهـــات دون المجـــد كـــل أداة
يـا وقفــة لـك فـي سبيــل الله لــم ~~~ نـرهــا لغيــرك مـن ذوي الـوقفـات
بعثـوا إليــك منـومــا يعــدو علـى ~~~ مـا فيـك مـن جــد ومـن عزمــات
قـطـع عليـك الطريق فـي غسـق ~~~ و لـم تـكـن التّيــوس لتقطــع الطـرقـات
نهضـوا لحـرب المصلحيــن لـعلــهم ~~~ يـقفـون دون طـــريقـه عشــرات
أذوك حين دعـوت مــن ضـلـوا الـ ~~~ ــدين النيــر بحكمـة وعـظـــات
وجاء من الشاعر الوطني رمضان حمود قصيد مطلعه:
عـش ســالمـا عبـد الحميـد مـن البـلا ~~~ قـد خـابـت الأنـذال و هـي كتائـب
عـش كــالهــلال سنــاؤه و علــوه ~~~ والكـل نحــوك نجـــم و كــواكب
أريد الحياة و يريد قتلي:
تحت هذا العنوان كتب الشيخ العربي – وهو طالب بالأزهر الشريف بمصر – مقالا باسمه الخالص، يتألّم لما أصاب الأستاذ الإمام من طرف المجرم العليوي الذي ناله بهراوته على رأسه، وحاول اغتياله. وبعثه إلى مجلة الشهاب التي نشرته في عددها رقم: 27 عام 1927 م.
قال العربي التبسي – بعد أن أثنى على مجلة الشهاب – وما كان قبل اليوم كاهن، ولا عراف، ولا زاجر، يقر إليه (في أذنيه) يظن أن هناك مخلوقا من إنس، أو جن، تحدثه نفسه بأن يحمل المعاول والفؤوس ليهد علما يزاحم الكواكب بالمناكب، من أعلام الإسلام في سبيل الشيطان، ومرضاة الطاغوت، ولكن من سبقت عليه الشقاوة وجرى عليه القضاء، اتبع هواه فركبها عشواء مظلمة !
من ذا الذي لا ينفلق كبده أسفا وغما لما أتاه هذا الأفاك الأثيم العليوي مما يغضب الرحمان، ويثير الأشجان؟
ألا فليعلم العليوي السفاك، ولي إبليس، أن فعلته التي فعل لم تكن مسددة إلى الأستاذ العظيم ابن باديس، وإنما رمى بسهمه نحر الإسلام، وأنه أراد هو وشيعته أن يأتوا بدين مزيج من معتقدات الآباء الكاثوليك، والرسل البروستانتيين، فليس له أن يرغم علماء الإسلام على قبول شنعة باسم دينهم وأن يكم أفواههم حذر أن يبينوا للناس ما أتيتم به مما ينقض الهيكل الإسلامي، ويحطمه لبنة لبنة، فدون وصولكم إلى غايتكم - والله- لمس السماء، ودك الشاخب (الجبال).
والمقال طويل، وأننا نقتصر على ما ذكرنا منه، لأخذ العبرة، وأننا نلمس فيه صدق اللهجة، وحرارة العاطفة، وغيره على الإسلام الصحيح، والرد على من يحاول إطفاء نوره.
وهكذا استمرت الرسائل والقصائد تهنئ ابن باديس وتنعي باللائمة على المعتدي وحزبه، فكانت هذه الحادثة رغم فضاعتها وبشاعتها مباركة على المصلحين وأنصارهم، فقد تأهبوا للدفاع عن الفكرة الإصلاحية ورعايتها بينما باء أهل الزيغ والضلال بالهزيمة وسوء السمعة فانكشف حالهم وحبطت أعمالهم فكانوا من الخاسرين.