جَمْعِيَّتُنا.. هُوِيَّتُنا
بقلم: عبد القادر بن مسعود -
قال محمد العيد آل خليفة أمير الشعراء الجزائريين ذات يومٍ ما يلي:
هَذَا ابْنُ بَادِيسَ يَحْمِي الْحَقَّ مُتَّئِداً ** كَذَاكَ يتأذ الشمّ الأَمَاثِيلُ
عَبْدُ الْحَمِيدِ رَعَاكَ اللهُ مِنْ بَطَلٍ ** مَاضِي الشَّكِيمَةِ لا يَلْوِيكَ تَهْوِيلُ
عليك مِنِّي وإن قَصَّرْتُ في كَلِمِي ** تحيةٌ مِلْؤُها بِشْرٌ وتَهْلِيلُ
ما أظلمت الدنيا ساعةً إلا وبزغ فجر ساطع ينير الدروب ويحيي الآمال في القلوب، ما اشتدت الهموم يوماً إلا وظهر رائد يصدق الناس الهداية ويسير بهم نحو برِّ النجاة، ووسط الظلام القاتم الذي عصف بالجزائر إبّان فترة استعمارها الفرنسي، ظهر إلى الوجود ذلك الإنسان التقي النقي، فاحتضنته أرض الجزائر، والتفت حوله ثلة من خيرة أبناء هذا الوطن، مجاهدين وعلماء وطلاب علمٍ، صابرين محتسبين حاملين همّ قضية وطنهم فوق العقول والأكتاف، فكان لزاماً خوض معركة فكرٍ وهوية.. مرحباً بكم في جمعيتنا هويتنا.
عبد الحميد ابن باديس، الإمام والداعية والمفكر والمصلح وحتى المجدد، وُلد الشيخ عبد الحميد ابن باديس في الرابع من ديسمبر/كانون الأول من عام العباقرة عام 1889م الموافق للسنة الهجرية 1307هـ، في مدينة النور الجزائرية قسنطينة، حفظ القرآن في سن الثالثة عشرة وصلى إماماً بالمصلين بعد ذلك بسنة واحدة، أوصاه شيخه حمدان الونيسي وصيةً كان لبّها "اطلب العلم للعلم لا للوظيفة"؛ ما جعل عبد الحميد يقطع عهداً على نفسه بألا يقرب الوظائف الحكومية الفرنسية.
التحق بجامع الزيتونة فأخذ من علمائها الزاد المعرفي الكثير، ليواصل شق طريق العلوم إلى المدينة المنوّرة التي التقى بها رفيق دربه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ليضعا في المدينة المنوّرة أسس وخطط الإصلاح في الجزائر، قبل أن يقررا العودة لخوض غمار ثورة إصلاحية كانت ممهدة للثورة التحريرية.
ما إن وطِئت قدما الشيخين محمد البشير وعبد الحميد أرض الوطن عام 1913، حتى بدأ في تنفيذ ما ناقشاه بالمدينة المنوّرة، فبدآ في تنظيم دروس للكبار والصغار، لتخرج إلى فكر الشيخ ورفيقه فكرة إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كان لزاماً على الشيخ عبد الحميد أن يتجه إلى الصحافة؛ في محاولة للإقناع بالفكرة.
وفي يوم الخامس من مايو/أيار من عام 1939، تجلت فكرة الشيخ عبد الحميد ابن باديس إلى الواقع، إثر دعوة الشيخ جميع العلماء الجزائريين المسلمين للاجتماع في نادي الترقي بالعاصمة الجزائر؛ قصد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حضر ذلك الاجتماع ما يقارب 70 عالماً من علماء الجزائر، منتخبين الشيخ عبد الحميد ابن باديس رغم غيابه عن الانتخاب، ومجلساً إدارياً من 13 عالماً؛ أبرزهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والطيّب العقبي ومبارك الميلي، لتبدأ جمعية العلماء المسلمين في تسطير ملحمة وتحدٍّ كبير في الحفاظ على الهوية الجزائرية.
سعت فرنسا، منذ تثبيت أقدامها في الجزائر، إلى طمس الهوية الجزائرية؛ من أجل البقاء أطول مدة ممكنة في الجزائر، فأحدث المشروع الاستعماري الفرنسي جروحاً عميقة في الهوية الوطنية الجزائرية، فرنسا الفاشية عملت على ضرب وحدة الجزائريين القبلية، واتبعت سياسة تبشيرية تهدف إلى القضاء على دينه ومعتقده الإسلامي، بالإضافة إلى إحياء كنيسة إفريقيا الرومانية التي أخذت بشعار ''إن العرب لا يطيعون فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين''.
كان التوجه الفرنسي يعتمد على معاداة العروبة والإسلام، فعملت على محو اللغة العربية، وطمس الثقافة العربية والإسلامية للشعب الجزائري، وبدأ ذلك بإغلاق المدارس والمعاهد، ثم تدرّج مع بداية القرن العشرين إلى منع تعلّم اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية، وعدم السماح لأي شخص بأن يمارس تعليمها إلا بعد الحصول على ترخيص خاص وفي حالات استثنائية، ومن ناحية أخرى عملت على نشر الثقافة واللغة الفرنسية، واشترطوا في كل ترقية اجتماعية ضرورة تعلُّم اللغة الفرنسية، كذلك عملوا على الفصل بين اللغة العربية والإسلام، والترويج لفكرة أن الجزائريين مسلمون فرنسيون.
عملت جمعية العلماء المسلمين على مواجهة هذا المشروع وإحياء الهوية الإسلامية العربية للمواطن الجزائري، ففتحت الجمعية مدارس لتعليم الأطفال الجزائريين، كما هاجم ابن باديس الفرنسيين وظلمهم، وشنَّع على عملية التجنُّس بالفرنسية وعدّها ذوباناً للشخصية الجزائرية المسلمة، وطالب بتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأثمرت هذه الجهود تكوين نواة قوية من الشباب المسلم يمكن الاعتماد عليها، ذلك الجيل فجّر بعد وفاة عبد الحميد ابن باديس أعظم ثورة في تاريخ العصر الحديث، شباب قال عن أحده الجنرال الفرنسي بيجار: "لو كان عندي عشرة كالعربي بن مهيدي لغزوت العالم".
بعد مرور 86 سنة على تأسيس جمعية العلماء المسلمين، خرج علينا بوق من أبواق فرنسا ليسبّ على الملأ وعلى الهواء الجمعية وتاريخها، شتمٌ لم يأتِ صدفةً بما أن الحرب على الهوية الجزائرية لم تتوقف رغم خروج فرنسا من الجزائر، ودفاعنا عن هذه الهوية أيضاً لم يجمد مع وفاة ابن باديس وغير إمامنا الكثير، أغلقت المدارس القرآنية في عهد ابن باديس وها هي في عهد حكام باريس تُغلق في وجه أحفاد باديس، نُكِّل باللغة العربية في وقت محمد البشير الإبراهيمي وها هي تطلب الرحمة اليوم من أحفاد محمد البشير، كانت هذه هي جمعية العلماء المسلمين هوية وطن.