أم الجمعيات بالجزائر

بقلم: مراد ملاح -

عندما بان السطح وكثر النطح وعم البطح في الجزائر القابعة تحت لظى الاستدمار الفرنسي الخبيث، كان شيخنا عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- بالمرصاد لكل ما يمكنه أن ينال من كينونة الجزائر في قلوب الناس وعقولهم وإدراكهم الواعي واللاواعي، فلم يكن رحمه الله يداهن لما يتعلَّق الأمر بالعقيدة ومصير الأمّة، بل كان واضحا وحكيما ومباشرا، وعندما أبلغ فرحات عباس الجزائريين بما توصل إليه سنة 1936 بالقول: الجزائر هي فرنسا وإنّه على الجزائريّين أن يعتبروا أنفسهم فرنسيّين، وأنه فتّش عن القوميّة الجزائريّة في بطون كتب التّاريخ فلم يجد لها من أثر ! وفتّش في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر .رد الشيخ عبد الحميد بن باديس قاطعا الشك باليقين، بحكمته المعهودة قائلا قولته المشهورة، والتي لا يمكن وصفها إلا بكونها كانت شؤبوبا من الماء صب على اللهب، لهب التدليس والتنكر: إنّنا فتّشنا في صحف التّاريخ وفي الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمّة الجزائريّة المسلمة متكوّنة موجودة، كما تكوّنت ووجدت أمم الدّنيا كلّها. ولهذه الأمّة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينيّة واللغويّة، ولها ثقافتها الخاصّة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كلّ أمة في الدنيا. ثمّ إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت الآثار.

ولو كان بن باديس بيننا لقال لنا كما قال لميرانت مدير الشؤون الأهلية في الولاية العامة بالعاصمة لما استدعاه في الوقت المحدد سلفا كي يتعمد وجود والده مصطفى، لقال لنا : جمعيّة العلماء ليست جمعيّة عبد الحميد بن باديس، وإنمّا هي جمعيّة الأمّة الجزائريّة المسلمة، وما أنا إلاّ واحد فيها أتصرّف باسمها واسم الأمّة كلّها، ومُحَالٌ أن أتصرّف تصرّفا أو أن أقف موقفا يكون فيه قتل الجمعيّة على يدي، أقول هذا وحسبي الله ونعم الوكيل.

كذلك كان رحمه الله إلى آخر يوم توفي فيه، لما زاره الحاكم الفرنسي عبثا يحاول مساومته فرد بالقول:أخرجوه عني وإلا أخرجوني، وكذلك كان أقرانه ومساعدوه، واضحين غيورين على الوطن، مدافعين بما آتاهم الله من جهد ووقت وصحة ومال، ونحن اليوم نحيي ذكرى التأسيس الغالية، تتنازعنا مشاعر الفرقة على رجالات الجمعية ممن غيبهم الموت رحمة الله عليهم جميعا، ولكننا لوصيتهم أوفياء الجزائر أولا وأخيــرا.

مشروع الجمعية بعين السياق العلمي لا الغوغائي

لغة المشاريع في العالم واحدة، لا تعترف بتصفية الحسابات ولا الآثار الجانية لحليب الفرانكفولية الذي رضعه البعض، فأثَر على مخارج الحروف عندهم وشوه عقولهم، وزج بهم في سياق غوغائي مناف للمنهج العلمي، وبعيدا عن عواطف تجر عواصف، نستحضر المعايير الثلاثة لقياس نجاعة المشروع من عدمه، ألا وهي مستوى الإضافة ومستوى الرشاد وقدرة المشروع على الاستمرار والصمود والدوام، أما الإضافة فيشهد عليها الفصل الأول في دستور الجمهورية الجزائرية الأبية، وهو ما سطره الشيخ ودعا إليه "الإسلام ديننا الجزائر وطننا والعربية لغتنا".

والحقيقة أن هذه الثلاثية فوق مفهوم الاضافة لأنها جوهر الهوية الجزائرية التي حفظتها الجمعية وساهمت مع كل الجزائريين كل من موقعه في حفظ الوجود الجزائري بالنجود والينوع والنضوج الذي عززته في قلوب وعقول الجزائريين، وأما الرشاد فهو الميزان بين ما استخدمته الجمعية من وسائل وبين ما جنته على أرض الواقع، أما الوسائل فيشهد عليها شبه مقر للجمعية يقع في الدور الأول لمبنى مديرية الشؤون الدينية لولاية الجزائر العاصمة، وتشهد عليها أيضا إسهامات أبناء الجمعية في حفظ خطها ودعم لسان حالها جريدة البصائر من حل مالهم، وأما الإنجازات فتشهد عليها فروع الجمعية في كل ولايات وجامعات الوطن، وخلفها مئات المدارس القرآنية الأصيلة.

سيل من الدروس والمحاضرات والندوات العلمية، والعديد من مشاريع النفع التي وصل مداها إلى غزة المحاصرة، والشامخة شموخ مستشفى الجزائر التخصصي كما سماه أبناء فلسطين تيمنا وعرفانا بجمعية الجزائريين، وأما القدرة على الاستمرار فتشهد عليها مواقف الجمعية الصامدة تجاه محاولات لم تنته لزج الجمعية في مستنقع التجاذبات السياسية الضيقة والاتهامات المقززة التي طالت مؤسسها والرجال من بعده، ولم تنل من عزيمة أم الجمعيات مقدار أنملة ومازادتهم إلا إصرارا على القول للمسيئين إليها، كما قال شيخها :إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت".

وسيشهد التاريخ على نضج مواقفها، وحكمة رجالاها المتشبعين بالقيم والإرث الحضاري للامة الجزائرية، والحديث عن الشيخ بن باديس ملازم للحديث عن رفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي، الذي طلب منه الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر الوقوف مع الرئيس الجزائري أحمد بن بلة رحمه الله، في صراع الأجنحة المتقد على السلطة، وقال قولته المشهورة "كلهم أبنائي، وأنا ذاهب لأصلح بينهم".

في الخامس مايو من سنة 2017 تمر ستة وثمانون سنة على تأسيس جمعيتنا المباركة، ولايزال العطاء والبذل ديدن الجمعية وجوهر رسالتها، ولئن سلطت السيوف على الجمعية لأنها ذادت عن بيوت الله ولغة القرآن ومدارس القران، فإنما ذاك تشريف يخص الله به عباده ممن يشاء، وستبقى البصائر كما قبلها الشهاب والمنتقد، صوت الحق الذي يهمس في قلب كل جزائري ينبض حبا للوطن ووفاء للعلماء والشهداء همسة شيخنا بن باديس الخالدة.

إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. ولجمعيتنا والقائمين عليها، نقول لَكَم هو مجحف في حقكم عبارة كل عام وأنتم بخير، بل الأجدر والأصلح أن نقول لَكُم أنتم الخير لكل عام، والمجد والخلود لمشايخنا وشهدائنا، وبكم وبجهود المخلصين أمثالكم ستبقى الجزائر عصية على أي مسار يحيد بها، مادام فيها شعب يتنفس البطولات والملاحم .

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.