من وحي رجل من ذهب "الإمام عبد الحميد بن باديس"
بقلم: نائلي دواودة عبد الغني -
بعد أن نال الإمام عبد الحميد بن باديس شهادة " التطويع " بجامع الزيتونة بتونس سنة 1912 ، و بعد أن علم في جامع الزيتونة عاما واحدا ، اقتنع الإمام عبد الحميد بن باديس بواجب الرجوع إلى الوطن ، مهما كانت الظروف ، ليؤدي دوره في مجال التربية و التعليم و الإصلاح و المساهمة في محاربة سموم الاستعمار الفرنسي . و لما عاد الإمام عبد الحميد بن باديس و رفاقه إلى وطنهم الجزائر ، الذي كان يعاني من سيطرة الاستعمار الفرنسي ، الذي جهله و تسبب في تخلفه و عمل على طمس معالم الحضارة العربية الإسلامية في الجزائر ، الأمر الذي جعل الدين الإسلامي و اللغة العربية بها مهددان بالزوال ، فتغيير هذا الواقع المر هو الذي شكل أبرز ملامح أهداف جهاد الإمام .
و تحقيقا لأهدافه جهاده اتبع الإمام عبد الحميد بن باديس عدة أساليب و استعمل وسائل مختلفة من أبرزها التعليم و إنشاء المدارس الحرة . بدأ الإمام التعليم في قسنطينة في الجامع الأخضر ، فكان يعلم الصغار و الشباب في النهار ، و الكبار في المساء بين صلاتي المغرب و العشاء ، و النساء يوم الجمعة .
و كانت الدروس تشتمل على تعلم اللغة العربية ، و مقاصد الشريعة الإسلامية و مبادئ العلوم و الحساب و غيرها من المواد التعليمية و دروس الوعظ و الإرشاد و التوجيه ، و تفسير القرآن و شرح موطأ الإمام مالك .
و ما نسجله في هذا الصدد هو أن يوم الإمام كان حافلا بالعمل المتواصل من صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء ، لا يكل و لا يمل ، و كأنه يسابق الزمن من أجل الإسراع في تكوين رجال يحملون معه أعباء الجهاد الإصلاحي لتغيير أوضاع الجزائر المستعمرة ، و الحفاظ على شخصيتها العربية الإسلامية التي حاول الاستعمار الفرنسي طمسها و القضاء عليها .
و عندما رأى الإمام بن باديس الإقبال يزيد على التعلم و أن الحاجة ماسة إلى تعليم الصغار قام بتأسيس جمعية التربية و التعليم في قسنطينة لتهتم بالتعليم هناك . و كان هذا العمل فاتحة خير على الجزائر كلها ، إذ بعد ذلك تتابع إنشاء و انتشار المدارس الحرة في قسنطينة و غيرها من المدن الجزائرية الأخرى .
مع العلم أنه بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ركز الإمام بن باديس جهوده على إنشاء المدارس الحرة بفضل أمواله الخاصة و تبرعات الشعب . و مع إنتشار حركة بناء المدارس الحرة و إقبال الشعب عليها ، قام الإمام بتكليف الشيخ البشير الإبراهيمي بقطاع الغرب ، و الشيخ الطيب العقبي بقطاع الوسط ، و تكلف هو بنفسه بقطاع الشرق .
و ما نسجله في هذا الصدد أنه إلى جانب جهده التعليمي و الإصلاحي في قسنطينة ، كان الإمام كثير التنقل و الحركة في القطر الجزائري ، يلقي الدروس و المحاضرات في النوادي و المساجد و الزوايا ، و يعلن عن نشاطه التربوي طالبا من الجزائريين إرسال أبنائهم للتعلم .
و الإمام عبد الحميد بن باديس ، شخصية عظيمة ، متعددة المواهب :
- فهو عالم دين متمكن من علوم الإسلام .
- و فقيه مجتهد .
- و مفسر غزير المعرفة لعلوم القرآن .
- و صاحب مدرسة في تفسير الكتاب العزيز .
- و مجدد و مصلح أمة .
- و هو موهوب .
- و معلم قدير .
- و هو كاتب أديب .
- و صحفي بارع ، صاحب قلم سيال .
- و خطيب بليغ يسحر كلامه العقول و القلوب .
- و شاعر فحل.
- و مصلح مصر على الجهاد و نشر أفكاره.
و مايدل على ذلك رده المفحم على مسؤول استعماري قال له : " إما أن تقلع عن هذه الأفكار و إلا أغلقنا المسجد الذي تنفث فيه سمومكم ضدنا " .
فأجابه الإمام عبد الحميد بن باديس قائلا : " لن تستطيع ذلك ، فأنا إن كنت في عرس علمت المحتفلين ، و إن كنت في مأتم ، وعظت المعزين ، أو في القطار علمت المسافرين ، أو في السجن أرشدت المسجونين ، فأنا معلم مرشد في جميع الميادين ، فالأمة استجابت لداعي الله الذي يحييها ، و خير لكم أن لا تتعرضوا لها في دينها و لغتها " .
من هذا الموقف الصامد نستشف:
- عظمة الإمام عبد الحميد بن باديس .
- و نفاسة معدنه و صدق توجهه .
- و صفاء نيته و قوة عزيمته و إصراره .
فأقل ما نرده لهذا المصلح الكبير اعترافا بالجميل و تخليدا لدوره و استماتته من أجل أن تبقى الجزائر عربية مسلمة ، قررت الجزائر المستقلة أن تجعل من تاريخ وفاته ( 16 أفريل1940 ) يوما للعلم في الجزائر لتذكير أجيال الجزائر المتعاقبة ، أن صمود الشعب الجزائري في وجه الاستعمار الفرنسي و حفاظه على عروبته و إسلامه كان بفضل جهاد و نضال رجال أمثال الإمام عبد الحميد بن باديس ، الذين ضحوا بكل غال و نفيس من أجل أن تحيا الجزائر مسلمة ،عربية ، حرة شامخة .