الإمام الشهيد العربي التبسي مصلحًا وثائرًا
بقلم: الشيخ عبد الرحمن شيبان-
إن المتأمل في حياة الإمام الشهيد الشيخ العربي التبسي، عليه رحمة الله، يجِدُها قائمة على دعامتين أساسيتين، هما: الدعامة الأولى: الإصلاح بالتربية والتعليم والتكوين، والدعامة الثانية: المقاومة والثورة. فالدعامة الإصلاحية تتمثَّلُ في عنايته بالمدرسة والمسجد؛ فالمدرسة يُمثِّلها معهد "عبد الحميد ابن باديس" الذي تولَّى إدارتَهُ منذ تأسيسه إلى غلْقِه. يقول، في خطابٍ ألقاهُ في حفْلِ اخْتتام السنة الدراسية (1948-1949)، عن حاجة الأمة إلى العلم الديني والدنيوي لتحقيق نهضتها.
واجب الأمة ..
"إنَّ الجزائر مخلوق جديد، حديث النشأة بالإفاقة، فهي تعاني الضِّيق، وتُلاقي العقبات، في كل ميادين الحياة. والتعليم العربي، تبعًا لذلك، في أزمات مادية كبرى، إذ ليس له من مُعين أو مُسعِف، سِوَى الأمة، والأمة وحدَها، فليستعدَّ الجزائريون أجمعون للجُود بالمال على هذا المعهد الذي هو معهدهم جميعا".
مـا يتطلَّبه العصر..
وأضاف يقول : "إنَّ هذا المعهد لا يُرجى منه تخريجُ نَشْءٍ مثقَّفٍ بالتعاليم الدينية، وعلوم اللغة العربية، وما يربط به ماضيَه الفاخر، من تاريخ وسيرة فحسب، فإن هذه المواد وإن كانت جليلة ولازمة معا، لكنها غير كافية وحدها. فإنَّ العصر يتطلب أكثر من ذلك، فالواجبُ يقضي بأن نعمل على إرسال "بعثات علمية" إلى أوربا، للتزوّد من العلوم التي تقوم عليها حياة اليوم. فإننا متى أعددنا شبابا مسلَّحا بالسلاحين: السلاح المستمد من ديننا وتاريخنا، والسلاح المادي الموجود عند أوربا، الآلية الصناعية، نكون عندئذ قد أسَّسنَا للشعب دعائم العزة وأركانَ السيادة والسعادة ".
هـل يستحق الحياة إلاَّ المناضلون!؟
واستطرد مدير المعهد الشيخ العربي التبسي يقول:"إنَّ إدراك هذه الغاية يتطلب من الأمة نضالا، وهل يستحق الحياة إلا المناضلون!؟ فعلى الأمة جميعا أن تعمل على تحرير مساجدها، وتدعيم حركتها الاقتصادية، وإصلاح حياتها السياسية. إنَّ الأمة كلها مطالَبةٌ بالقيام بهذه الأشياء وغيرها من شؤونها الحيوية؛ لا هذه الشخصية وَحْدَهَا، ولا ذلك الحزبُ وَحْدَه، ولا تلك الجمعيةُ وحدَها، فإنَّ العصر عصر اتّحادٍ وإجماع".
محاسبة العاملين..
ثم دعا الخطيبُ الأمةَ إلى محاسَبة جميع العاملين، في الحقل الوطني العام، فقال: "يجبُ على الأمة أن تَضْربَ على يد كل من تسول له نفسه الأثيمة، بأن يَعْبَثُ بحركاتها العلمية، أو السياسية أو الاقتصادية. فكفانا ما قاسينا من كيد الدجالين، وما تجرَّعنا من غُصص العابثين".
إدارة الحياة ونبذ الجمود..
وقبل الختام، أهاب الشيخ المدير بالأمة أن تشمّر عن ساعد الجدّ، وتسعى إلى أهدافها سعْي الأمم الأخرى، التي نَشَدَت الحياةَ فبلغتْها، بأن تُجرِّدَ نفسَها من أكسية الجمود والنقائص الموروثة.
أمّا عنايتُهُ بالمساجد، فأقتصِرُ على ذكرْ تدشينه لمسجد "تازمالتْ "–بولاية بجاية، حيث تمكَّنَ مِنْ حلّ عقدة مستعصية، وحسم خلاف متأزم، ارتبطا بتدشين الجامع الجديد بتازمالت. وكان السببُ في ذلك وقوع اختلاف حاد بين أعضاء الجمعية الدينية، بشأن دعوة رئيس دائرة بجاية الفرنسي لحضور حفل التدشين، فانقسم الأعضاءُ إلى مؤيد لفكرة الدعوة، اتقاءً لشر هذا المسؤول المحلي الاستعماري، ومُعارضٍ لها، اتباعًا لما تُمليه النزعةُ الوطنية. ولمَّا بلغ الخلاف أشدّه، وسُدَّتْ أَبوابَ الحل كلُّها، أوفد المصلح الكبير العربي التبسي إلى مدينة تازمالت علما من أعلام الجمعية، صاحبَ الحِنكَة المرحومَ الشيخ العباس بن الشيخ الحسين. ولكن الوضع المتأزم لم تُفَكَّ عُقدتُه، لإصرار كل فريق على رأيه.
وها هو الشيخ الجليل العربي التبسي يحث الـخُطَى بنفسه إلى مدينة تازمالت، عاقِدا العزم على تحقيق التسوية. وقد ألهمه الله تعالى كلماتٍ ألقاها على أعضاء الجمعية الدينية المشرفة على المسجد، فكانت برْدًا وسلاما، واستأصلت ما في الصدور من نزاع شديد.
لقد قال - عليه رحمة الله- لهؤلاء الأعضاء المتنازعين: أسائلكم فأقول:
لأجل ماذا تقيمون احتفالكم المنتظر؟!
فقالوا: لأجل افتتاح المسجد.
وقال: المسجد بيتُ من؟!
فقالوا: إنَّهُ بيتُ الله.
فقال: إذن، فالواجبُ أن ندعو إلى الاحتفال ببيت الله مَن دعاه الله!
وهكذا، أَذعَنَ الجميعُ لرأي الشيخ الإمام العربي، فتَخَلَّى، عن اقتناع، الفريقُ الداعي إلى دعوة رئيس الدائرة عن فكرته، فساد الجميعَ انسجامٌ واتفاق.
وبعد أيام قلائل من هذه التسوية، أقيم احتفالٌ عظيمٌ، تم فيه تدشينُ هذا المسجد الجامع، في جو من البهجة والود والإخاء.
وإنّي لا أزال أحتفظ في ذاكرتي بدرر من الخطاب البليغ الذي ألقاه سماحةُ الشيخ العربي التبسي؛ إِذْ بيَّنَ ما للمساجد الحرّة من فضل على الأمة، وَاعْتَبَرَ أن الشيء الذي يُوحِّدُ بيننا هو أمران: المساجدُ والمدارسُ.
ودعا السلطةَ الاستعمارية إِلَى أَنْ تَتَخَلَّى عنها، على غرارِ تعاملِها مع معابدِ النصارى واليهود.
وفي هذا الحفل الكبير، ألقى الشاعر المرحوم "أحمد سحنون" قصيدة بعنوان: "تعالوا إلى المسجد" هذه أبيات منها:
"تـعالواْ سِراعًا إلى المسجد
إِلى مُلتقَى الرّكع السجّدِ
إلى مُنتدَى النُّخبة الصالحينْ
إلى مُبتَغَى الـخُشَّع الزُّهدِ
إلى مَشرِقِ النور للتائهين
ببيداءَ في غَيْهَبٍ أَسْوَدِ
إلى عرَصَات الهُدَى والعَلاَ
إلى مُرتَقَى المجدِ والسُّؤْدَدِ"
وإنّ من دواعي الاعتزاز، أنّني كنتُ، والأخ الأستاذ محمد الميلي من أعضاء الوفد الذي رافق الشيخ العربي، في هذا الحفل التاريخي العظيم.
أما الشيخ العربي التبسي ثائرًا، فيَتجَلىَّ ذلك في مُباركته ومُسانَدتِه للثورة التحريرية المظفَّرة مُنذُ اندلاعِها، وموْقِفِه البطولي الحاسِم في الاجتماع العام الذي أشرف على تنظيمه بمركَز جمعية العلماء بالعاصمة، باتفاق مع قيادة الثورة، وذلك بتاريخ: 23 جمادى الأولى 1375هـ الموافق 7 جانفي 1956م، وتحَدّيهِ العنيد الصّارم للاستعماريين، وذلك بِجعْل معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، ومركز جمعية العلماء بالعاصمة قاعِدَتَي اتّصال لمختلف الولايات، وتجنيد للطاقات المغذية للثورة في الجبال والسهول، والقرى والمدن، بأفواج من الأئمة والمعلمين، والطالبات، وفي هذا الاجتماع التاريخي اتُّخذتْ قراراتٌ ثوريةٌ متحديةٌ حاسمة، منها:
القرار الأول:
"يقول الاجتماعُ العام كلمةً صريحةً علنيةً، يرجو أن يسمَعها المسؤولون في باريس، وأَن يَسمعها العالَمُ أجْمَعُ، وهي رفض أيِّ إصلاح يريد الاستعمار فرضَه، فلا يمكن حلُّ القضية الجزائرية بصفة سلمية وسريعة، إلاَّ بالاعتراف العلَني الصريح بكيان الأمة الجزائرية الحر، وجنسيتها الخاصة، وحكومتها القومية، ومجلسها التشريعي المطلَق التصرُّف، في دائرة احترام مصالح الجميع، والمحافظة على حقوق الجميع".
القرار الثاني:
لا مفاوض، باسم الجزائر، إلا قادة الثورة؛ فيقول القرار:"يُؤكِّدُ الاجتماعُ العام أنه لا يُمكن وَضْعُ حدٍّ لحالة الحرب الحاضرة، والإقدام على بناء النظام الحر الجديد، إلاَّ بواسطة التفاهم الصريح المخلص، مع سائر الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري، من رجال الحلِّ والعقد الذين أظهرهم الكفاح الجزائري".
ويختم الإمامُ الشهيدُ قراراتِ الاجتماع العام بهذه الوصية الصادقة المؤثرة:"يُوصي الاجتماعُ العام الأمةَ بالحق، ويوصيها بالصبر، ويستحثها على العمل الصالح، والثبات، وتوحيد الصفوف، ونسيان الخلافات القديمة، حتى تستطيع، متحدةً متظافرةً، أن تَصِلَ، قريبًا، إلى الدرجة الرفيعة التي أهلها لها جهادُها المستمرُّ منذ أحقاب، وكفاحُهَا الشريفُ الذي أصبَحَ في العالَم مضرب المثل؛ وتاريـخُها الحافلُ بجلائل الأعمال! "
[وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ].
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ].
أبَعْدَ كلِّ هذا، يقول البعض إن جمعية العلماء إنّما التحقتْ بالثورة سنة 1956م.
فإنَّ أوجز ما يـمكن أن نردِّده في هذا الشأن هو ما كتبناه في البصائر بتاريخ 21 أوت 2000م، عن رمزيّة سنة 1956 بالنسبة لـموقف جمعية العلماء مع الثورة الجزائرية.
فهذه السنة ليست بداية انضمامٍ لجمعية العلماء إلى الثورة، كما يردد ذلك أعداء الجزائر العربية الإسلامية من الخادعين والـمخدوعين، فبلاغ العلماء الذي صادق عليه الاجتماع العام للجمعية،- يعد سياسيا- «بيانا ثانيا»، لثورة نوفمبر أعدته جمعية العلماء - بمباركة جبهة التحرير الوطني، وأعلنه العلماء في اجتماعهم وفي صحيفتهم بإرادتهم وإيمانهم، لأنهم من الثورة وإليها، يؤدون، بعملهم هذا واجبًا مُقَدَّسًا - وطنيًّا وإسلاميًّا وإنسانيًّا - إنه بيانٌ صريحٌ واضحٌ، يُصْدِرُهُ حَشْدٌ واَفِدٌ من مُخْتَلَفِ أَصْقَاع الجزائر، يوزع على أوسع نطاق في داخل الجزائر وخارجها، يؤكد للقريب والبعيد، وللصِّديق والعَدوِّ بأن:
أ - الثورة الجزائرية ثورة شعب بأكمله يجاهد ليحطم أغلاله، وليسترجع سيادته واستقلاله لا ثورة "قطاع طرق" ولا "سراقين وذباحين"، ولا ثورة "شيوعيين" يأتمرون بأوامر من موسكو أو بيكين، ولا ثورة "قوميين ناصريين مصريين أو غير مصريين" كما تزعم أبواق الجلادين الاستعماريين.
ب - وأَنَّ الممثل الشرعي الوحيد الذي على فرنسا أَنْ تتفاوض معه لإيجاد حلٍّ للقضية الجزائرية، على أساس الحق في تقرير الـمصير والاستقلال الوطني؛ إنما هو جبهة التحرير الوطني وحدها، لأنها الـممثل الحقيقي لضمير الشعب الجزائري بأكمله، فكل تجاهل لهذه الحقيقة يعد عبثا واستمرارا للأزمة الدامية، وتحدّيًا لروح الحرية والرأي العام العالـمي، تتحمل فرنسا وحدها مسؤولية تَعامِيَها عن الحق، وما يجر ذلك من ويلات تدور دائرتها على الـمعتدين الآثمين طال زمان الحرب أو قصر.
جـ - القضاء على كل صوت ديني باهت مزعوم، يحاول التشكيك في شرعية الجهاد باسم الدين، بدعوى فقدان (الأمير الـمسلم) الذي يملك - وحده - حق إعلان الجهاد، فبلاغ هؤلاء العلماء الـمعروفين بكفاءتهم العلمية، وسمعتهم الدينية والخلقية والنضالية، منذ زمن طويل، فضح هذه الأصوات وجعلها مَحْضَ جهالة بالإسلام الصحيح، ومَحْضَ جمودٍ وغباوة، أو عمالة للعدو المحتل، وخيانة لله وللبلاد والعباد، لا أقل ولا أكثر.
ثُمَّ؟
ثُمَّ - قبل كل شيء ومع كل شيء وبعد كل شيء- لا يتصور عاقل أَنْ يُعْقَدَ أَيُّ اجتماع عَامّ، لأي هيئة وطنية في الجزائر- في تلك الحقبة الحاسمة - بدون إذن قيادة الثورة، والسير في منهاجها، حسب أهدافها المرسومة، وخطتها الاستراتيجية المسطرة؛ مما يدل على الالتحام التام بين قيادة الثورة وقيادة جمعية العلماء، منذ سطوع شمس الجهاد.
فَلْتُدركْ هذه الحقيقة التاريخية وسائل إعلامنا، حتى تضع سنة 1956 في إطارها التاريخي الحقيقي، وهي أنها ليست تاريخ انضمام الجمعية إلى الثورة، وإنما هي تعبير علني عام عن إرادة الثورة، قدْ أفصَح عنه البيان الخِتامي لاجتماعها العام الذي شاركت فيه وفودها من تلمسان إلى سوق أهراس، ومن جرجرة إلى تمنراست.
فهكذا تمثّلت لنا ملامحُ الشيخ العربي التبسي مُصلحًا وثائرًا، وقد أنعم الله على الجزائر بإنجاز ما جاهَدَ من أجله المجاهدون، جزاهم الله خيرا، واستشهد الشهداء، الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون.
هـذا؛ فالله تعالى نسأل أن يُنزِلَ إمامَنَا وشيخنا الشهيد العربي التبسي منزلةَ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يَتَغَمَّدَ برحمته الوافية كلَّ شهداءِ الجزائر، وشهداء الأمة العربية والإسلامية، وأن يُوفق الأحياءَ إلى الوفاء بالقيم التي استُشْهِدُوا من أجلها، والثبات عليها، ليكونَ لاستقلالِ الجزائر معناهُ الحيويُّ الكاملُ والدائم، في كَنَفِ الوحدة والحرية والعدل والرخاء والسلام.