أبو اليقظان.. من أعلام الفكر القومي المغمورين
بقلم: د. عمر بم قينة -
بين كوكبه من أعلام الفكر القومي (العربي - الإسلامي) يحتل المفكر الجزائري الشاعرالصحفي (أبو اليقظان) مكانة معتبرة، لنضاله بالكلمة الشجاعة على الجبهة الإعلامية،مقارعا قوى البغي الاستعماري الفرنسي، بمقالاته وبشعره، في صحفه العربية المتلاحقةفي صدورها وانتشارها، فلا تكاد تسقط واحدة شهيدة حتى تخلفها أخت لها حاملة الرايةنفسها، بالعزم والإصرار الذي لا يلين أمام قمع القوات الاحتلالية، وهي تصادر هذهالصحيفة، وتمنع ثانية، وتخنق ثالثة، وتلاحق ناشرها ذا الصوت القومي والقلم العربي،والموقف النضالي، الذي لا يساوم ولا يهادن، فيثبت في الخندق حتى آخر ما في (الجعبة)من طاقة، وإمكانيات.
ولد (إبراهيم أبو اليقظان بن الحاج عيسى) بمدينة (القرارة) في الجنوب الجزائري سنة(1888م) حيث تلقى مبادئه الأولى في التعليم، سافر بعدها إلى (تونس) حيث التحق بجامع(الزيتونة) سنة (1912م) فتولّى رئاسة البعثة الدراسية فيها حتى سنة (1925م) ممارساالكتابة والنشاط الطالبي، وبعد التاريخ المذكور منذ حين عاد إلى (الجزائر) لممارسةالعمل والنضال بقلمه ولسانه في الصحافة، فأصدر في هذا المضمار (ثماني جرائد) عربية،خلال ثلاث عشرة سنة (1926-1939م) أي منذ عودته حتى إعلان (الحرب العالمية الثانية)وتلك الجرائد هي: (وادي ميزاب)، (ميزاب)، (المغرب)، (النور)، (البستان)، (النبراس)،(الأمة)، (الفرقان) فكان كلما أوقف له الاستعمار واحدة أصدر هو أخرى، نضالاًوتحدياً، وقد توفّر على حسّ صحفي، ربّما بدأ يتكون لديه "منذ صباه، فقد آنس من نفسهميلالا يقاوم لقراءة الجرائد والمجلات العربية.. ويتابع بنهم.. أخبار الوطن العربي،والتطورات السريعة التي كان يمرّ بها العالم آنئذ" وقد ترك مؤلفات مختلفة، في الفقهوالتاريخ والأدب، من أهمها: ديوان شعري في جزأين اثنين.
وفيهذا الديوان نفسه تطل على القارئ هموم (الجزائر) والوطن العربي، والعالم الإسلاميعبر مختلف أقسام الديوان، هموم معاناة (الجزائر) الاحتلال أولاً، والمؤامراتثانياً: مثل هموم العالم الإسلامي، كما يطل نضال (الجزائر) وجهادها في ثورة نوفمبر(1954م) وانتصارها في (1962م) فرأى في ذلك نصرا عربياً عاماً، في (المغرب) مثلما هوانتصار لإرادة الانتماء لحضارة عنوانها (العربية) وروحها (الإسلام) حين كانت ممارسةالعقيدة تعاني العنف ويعاني تدريس العربية الملاحقة والتضييق من الاحتلال، كما عانتالقيود عليها، دورانا على الألسنة، ومقالات وقصائد في كتب ودوريات، فكانت (لغةالعرب) و(القرآن) أولى بتهنئة الشاعر (لأبي اليقظان) في اليوم الرابع من إعلان وقفالقتال بين المجاهدين الجزائريين (أي جيش التحرير الوطني) و(الجيش الفرنسي المحتل)حين قال في الثالث والعشرين من شهر (مارس 1962م).
بجهادنا، بقطوفها الأثمار
بشرىلمغربنا فقد دنت
منبعد هذا للقيود قرار
بشراكيا لغة العروبة لم يكن
لحقتكمنهم بيننا أضرار
فلأنتصاحبة البلاد وإن هم
فجرالسلامة، وانتهت أكدار
فلينطلق ذلك المقيّد إذا بدا
وبهذاالحسّ الوطني الثوري نفسه طعّم (أبو اليقظان) قصيدته الإخوانية إلى : أمير شعراءالمغرب العربي (محمد العيد آل خليفة) معلنا ارتباط الهمّ الوطني بالهمّ الشخصي لدىالأدباء الشرفاء الذين يعيشون أفراح أمتهم الكبرى والصغرى معاً وأتراحها، بوجدانهم،وبكل مشاعرهم، فأضاف في شهر (أفريل) من سنة (1962م) مخاطباً الشاعر (محمد العيد):
صوتالعروبة من ربى الصحراء
هيّابنا يا عندليب لنسمعن
ولواءها، ورسالة الشعراء
وتعالنرفع للجزائر ذكرها
سجّلالشاعر هذه الإرادة والأشواق بروح الفتوة والشباب وهو الذي بات في الرابعة والسبعينمن العمر، كله آمال لا تقف أمامها حدود في عزة (الجزائر) وتقدم الأمة العربيةوازدهارها.
غيرأن الواقع البشع في حياتنا يطحن الآمال، ويمزّق الأشواق ويدمي القلوب، فتسقط مهيضة،كسيرة نازفة.
هوالواقع الذي ما لبث أن لفّ الشاعر فيه صمت كئيب، وتجاهل مريب، وتعتيم حالك بغيض،فسقط مريضاً، مقعداً، حبيس بيته بمدينة (القرار) حيث لقي ربّه في (30 مارس 1973)بعد نضال فكري طويل، أسهم به في الحياة الأدبية، بنثره، وبشعره الذي لا يفارقه فيهوطنه، وقضايا مجتمعه، حتى وهو يتحدّث في أموره الشخصية، والإخوانية، فيذكر إبانالاحتلال معاناة وطنه، والآفات التي تفتك بمجتمعه: مادية ومعنوية، كما عكست ذلكمادة ديوانه، بموضوعاتها المختلفة.
لقدحمل ديوانه آماله، وهمومه الوطنية والقومية والشخصية، كما صور تجارية وعكس شخصيتهبكلّ أبعادها، خصوصاً منها الجانب الإنساني، مثلما عكست مقالاته الصحفية شخصيتهالإصلاحية، وجهوده المختلفة، في (الإعلام الوطني) الشعبي أثناء الاحتلال الفرنسي،كما عبّرت عن ميوله القومية والوطنية عناوين جرائده، ومن أهمّها دلالة على ذلك"النبراس" "الأمة" و"الفرقان".
فيقدرما هي صحف وطنية عروبية بلغتها وفكرها، واتجاهها هي إسلامية بقضاياها، وحتىبعناوينها نفسها ذات التعبير الدقيق عن الهوى الإسلامي كجوهر لهواه العروبي.
جهد(أبي اليقظان) و(جهاده) بالكلمة يجعله من (أعلام الفكر) القومي، غير أن التعتيم علىالرجل أبقاه (مغموراً) بعد (فجر الاستقلال) فلم أعلم أنه حظي بدراسة منصفة لفكرهوتراثه، ولا في رسالة (ماجستير) ولا في أطروحة (دكتوراه) كما حظي سواه، ممن قد لايستحقون ذلك.. فهل في مقدور هذه الكلمة المتواضعة أن تسهم بشيء يسير جداً، في إنصافالرجل الذي وهب في خدمة أمته العربية، شبابه، وجهده، بالرأي، والكلمة، وانتهى إلىصمت مطبق، كشأن معظم المجاهدين والشهداء الميامين، ويبقى الجزاء الأوفى عند ربّالعالمين، منصف كل العاملين المخلصين الجادين.