ابن باديس.. رائد النهضة الجزائرية شوكة في حلق الاستعمار
بقلم: رفيدة الصفتي -
"ما دام الصهيونيون يقبضون على ناصية القوة والمال، والمسلمون يقبضون على ناصية الاحتجاج والأقوال، فيا ويل فلسطين من الذين يتكلمون ولا يعملون"؛ كلمات قالها العالم الجزائري عبد الحميد ابن باديس في الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل إعلان دولة الاحتلال بنحو 18 عاما.. توفي ابن باديس قبل أن يرى قيام تلك الدولة بثمانية أعوام؛ غير أن كلماته جاءت كفلق الصبح، لم يتخلف عنها حرفٌ واحد.
عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الإصلاحية والعلمية في الجزائر، ومسمار العروبة الصامد أمام تيارات التغريب والفرنسة، مؤسس جمعية العلماء المسلمين التي ظلت شوكة في حلق الاحتلال الفرنسي للجزائر، التي سرعان ما انتشرت فصائل الإصلاح من مدارسها ونبتت في كل المدن والقرى الجزائرية، إلى أن رحل في مثل هذا اليوم 16 أبريل 1940، عن عمر ناهز 51 عاما، قبل أن يرى وطنه يتحرر، لكنه ترك وراءه رجالا رباهم في المساجد والمدارس يواجهون الاستعمار، وهم الذين يقول عنهم:
"إن أبناءنا هم رجال المستقبل وإهمالهم قضاء على الأمة إذ يسوسها أمثالهم ويحكم في مصائرها أشباههم، ونحن ينبغي منا أن نربي أبناءنا كما علمنا الإسلام، فإن قصرنا فلا نلومن إلا أنفسنا ولنكن واثقين أننا نبني على الماء ما لم نعد الأبناء بعدة الخلق الفاضل والأدب الديني الصحيح"..
ولم يدخر ابن باديس وسعا في مقاومة الاحتلال الفرنسي لبلاده والتنفير منه، والوقوف في وجه تيارات التغريب والفرنسة المفتونة بفرنسا باعتبارها المثل الذي يجب أن يحتذى به: "إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت؛ بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها، وفي أخلاقها، وفي دينها..".
في 05 مايو 1931م أسس ابن باديس ورفاقه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي سرعان ما انتشرت فصائل الإصلاح من مدارسها لتنبت في كل المدن والقرى الجزائرية، وانتخب الشيخ عبد الحميد بن باديس غيابيا رئيسا للجمعية والشيخ البشير الإبراهيمي نائبا له ليدخل مرحلة نوعية أخرى من العمل الإصلاحي، وبدأ النضال من أجل استرجاع الشخصية الجزائرية بكل أبعادها ومقوماتها.
حملت الجمعية منذ نشأتها على عاتقها إصلاح المجتمع الجزائري، مبنيا على الآية الكريمة (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ )؛ ولذلك اعتبرت الحركة الإصلاحية التي قادتها جمعية العلماء الباعث الحقيقي والعامل الرئيسي للنهضة الجزائرية لأنها جاءت بإصلاح شؤون الفرد في المعتقد والسلوك من جهة وإصلاح الأسرة والمجتمع من جهة أخرى.
وقد قال الشيخ عبد الحميد بن باديس في أهداف تأسيس جمعية العلماء: إن الغرض من تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو محاربة الخرافات والشعوذة التي عمت البلاد، كما لخصت جريدة "لسان العرب" أهداف الجمعية في غرضين اثنين؛ هما: إحياء ما اندثر من معالم الإسلام وإحياء ما مات من مظاهر اللغة العربية، وقد أشار الشيخ محمد خير الدين أحد أعضاء الجمعية لأهداف الجمعية بقوله: "كانت أهداف جمعية العلماء تتمثل في إحياء الإسلام بإحياء الكتاب والسنة وإحياء اللغة العربية وآدابها وإحياء التاريخ الإسلامي وآثار رجاله المخلصين".
وإذا كان الهدف المرحلي الأول من تأسيس الجمعية هو تصفية وتنقية الإسلام مما علق به من الشوائب فإن الهدف الثاني استرجاع حرية الجزائر واستقلالها حيث وجدنا الإمام ابن باديس يخاطب الشعب سنة 1936 ويقول "أيها الشعب إنك بعملك العظيم الشريف برهنت أنك شعب متعشق للحرية هائم بها، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ كنا الحاملين للوائها وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها وكيف نحيا لأجلها".
وقد حدد الإمام ابن باديس العناصر المكونة للشخصية الوطنية؛ وعرفها بأنها تتمثل في "الإسلام" العقد الاجتماعي العام الذي يحتاج الإنسان إليه في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه، وأنه "لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام"، والعنصر الثاني "اللغة العربية"، فلا رباط يربط ماضينا بحاضرنا الأغر ومستقبلنا السعيد إلا هذا الحبل المتين، اللغة، لغة الدين، ولغة الجنس، ولغة القومية لغة الوطنية المحروسة.
أما العنصر الثالث: "الجزائر" وطننا يعتبر أن الوطن ليس إقليما جغرافيا فحسب لكنه كيان حي من البشر الذين يعيشون فيه وتؤلف بينهم روابط الدين واللغة والتاريخ؛ حيث يقول لمن أعيش؟ "أعيش للإسلام والجزائر".
ويمكن القول إنه لا يمكن الحديث عن الحركة الإصلاحية في الجزائر إلا بالوقوف على حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس رمزا شامخا في هذا المضمار، وبالرغم من أن حياته لم تكن بالطويلة في عمرها الزمني على غرار الكثير من العلماء والمصلحين في تاريخ الأمة، فإن حياته جاءت زاخرة بالمحطات والرحلات التي سافرها لإعادة ربط الجزائر بالإسلام والعروبة، لا أوروبا وفرنسا، وكانت هذه المحطات بمثابة المعالم في حياته وفي مساره الإصلاحي والدور الذي قام به في هذا الشأن.
توفّي الشّيخ ابن باديس مساء يوم الثلاثاء 9 ربيع الأول سنة 1359 ﻫ الموافق 16 أبريل 1940 م، بمسقط رأسه مدينة "قسنطينة" متأثرًا بمرضه، وقد شيّعت جنازته عصر اليوم التالي لوفاته، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة الجامع الأخضر دون غيرهم وسط جموع غفيرة زادة عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة أنحاء القطر الجزائري.
تأثر لوفاته جميع أفراد الشعب الجزائري، وقال الشّيخ العربي التبسي في تأبينه : "لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو الجزائر كلها فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس"، ولا يزال الجزائريون يحتفلون في ذكراه بعيد العلم تخليدا لذكرى دوره التنويري.