جوانب الإصلاح في دعوة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

بقلم: محمد الوزاني -

هذه نبذةٌ مختصرةٌ وكلمةٌ موجزةٌ عن المكانةِ العلميَّة التي تَبَوَّأَهَا العلاَّمةُ الشَّيْخُ محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ مع بيان بعضِ آثاره وأعماله الإصلاحيَّة التي خلَّفها بعده. فهو ـ رحمه الله تعالى ـ علاَّمةُ المغرب العَرَبِيِّ بحقٍّ، وأحدُ أئمَّة النَّهضةِ العلميَّة في العالم الإسلاميِّ، ورائدٌ من روَّاد الإصلاح في القُطْرِ الجزائريِّ، وهو من الأفْذَاذِ المعْدُودِينَ يَعِزُّ أن يُوجد له نَظِيرٌ في العِلم والعَمل، ولا يكاد يكون في كلِّ زَمانٍ مثلُه إلاَّ في فترات من الدَّهر ليكون جَذْوَةً وسِرَاجًا منيرًا يَهْتَدِي به المصلحون، وشِهابًا ثاقبًا على الباطل وأهلِه، يفضح مكرَهم وتلبيسَهم، ويكشف شُبُهَاتِهم، فَيَذَرُهَا عاريةً باديةً للعَيَانِ، لا يُوَارِي زَيْفَهَا ولا يستُرُ زُخرفَها حجابٌ، ليَحْيَى من حَيَّ عن بَيِّنَة ويَهْلِكَ من هَلَكَ عن بَيِّنَة.

* الظُّروف التي ظهرت فيها دعوة الشَّيخ البشير الإصلاحية:

لقد ظهر صَوْتُ هذا العالم الكبيرِ والدَّاعية المصْلِحِ الحكيم في مرحلةٍ تاريخيَّة حاسمةٍ، قد أخنى فيها الاستعمار الفرنسيُّ على الجزائر وتمكَّن منها، وأفرغ فيها جميعَ شرورِه، وسَدَّ في وجهها جميعَ أبواب التَّطوُّر والرُّقِيِّ، فأضعف الدِّين في النُّفوس ونشرَ الفسادَ في المجتمع، وعَمَد إلى تجهيل النَّاس وخَنْقِ الأنْفَاسَ، وقَطْعِ الصِّلاتِ بين الجزائر وجيرانِها، ولا توجد كلمةٌ أصدق في التَّعبير عن حقيقته، وكشف أهدافه وغاياته من كلمة البشير نفسِه حيث يقولُ: «جاء الاستعمار الفرنسيُّ إلى هذا الوطن كما تجيء الأمراضُ الوافدةُ، تحمل الموتَ وأسبابَ الموت»(1)

ويقول في موضع آخر في بيان حقيقة الاستعمار وأعماله في الجزائر: «والاستعمار سُلٌّ يحاربُ أسبابَ المنَاعَةِ في الجسم الصَّحيحِ، وهو في هذا الوَطَنِ قد أدَارَ قَوانينَه على نَسْخِ الأحكامِ الإسلاميَّة، وعَبَثَ بحُرْمَةِ المعابِدِ، وحارب الإيمانَ بالإلحاد، والتَّعليم بإفْشَاءِ الأميَّة، والبيانَ العربيَّ بهذه البَلْبَلَةِ الَّتي لا يستقيم معها تعبيرٌ ولا تفكيرٌ»(2)

لقد عمل المستعمرُ جادًّا على تحقيق تلك الأهداف الخبيثة والغايات الدَّنيئة، وسَخَّر في سبيل ذلك كلَّ ما تحت يده من إمكاناتٍ ووسائلَ حتَّى ظَنَّ أنَّ شُعْلَةَ الإسلام قد انْطَفَأَتْ في هذا الوطن، وأنَّ لغةَ القرآن الكريم قد اخْتَفَتْ من الوجود وإلى الأبد، ولكن هَيْهَاتَ فأنَّى لمخلوق ضعيفٍ أن يُطْفِئَ نورَ اللهِ بِفَمِهِ أو مَكْرِهِ، وقد أبَى الله إلاَّ أنْ يُتِمَّهُ ولو كَرِه الكافرون.

فكان من البَدَهي في ذلك الظَّرفِ العصيب الاهتمامُ بالجانب الإصلاحيِّ للنَّهضة بالأمَّة، والعملُ على إصلاح ما أفسده الاستعمارُ لأنَّه لا يمكن التخلُّص من المستعمر مع بقاء أسباب وجوده وقوَّته في الأمَّة.

لذلك نَجِدُ الشَّيخَ ـ رحمه الله تعالى ـ اعتنى عنايةً عظيمةً بإصلاح ما أفسده الاستعمارُ واهتمَّ بذلك اهتمامًا كبيرًا، بل كان هو الهدفَ الرَّئيسيَّ الَّذي أُسِّسَتْ لأجله «جمعيةُ العلماء المسلمين» الّتي هو أحد أعضائها ونائبُ رئيسها، وفي ذلك يقول ـ رحمه الله ـ: «لَبِثَتْ عواملُ الاستعمار تَهدم من هيكلَ الإسلام ولا تَبْنِي، وترمي المقوِّماتِ الإسلاميَّةَ والخصائصَ العربيَّةَ في كلِّ يوم بفَاقِرَةٍ من المسْخِ، إلى أن تَكَوَّنَتْ جمعيةُ العلماء المسلمين الجزائريين منذ خمسةَ عشرَ عامًا، تَكَوُّنًا طبيعيًّا كأنَّه نتيجةٌ لازمةٌ لتلك الحالة، وقامت تعمل لإصلاح الإسلام بين المسلمين، وللمطالبةِ بحقوقه المغْصُوبة، وبحريَّةِ لغتِه المسْلُوبَة، وسمِع الاستعمارُ لأوَّل مرَّةٍ في حياته بهذه الدِّيار نَغْمَةً جديدةً لم تَأْلَفْهَا أُذُنَاه، تدعو إلى الحقِّ في قوَّة، وتُطالب بالإنصاف في مَنْطِقٍ، وأحَسَّ دَبِيبَ الحياةِ والشُّعور الإسلاميّ، فلم ينظر إلى ذلك كلِّه على أنَّه حقٌّ طبيعيٌّ معقول»(3)

* جوانب الإصلاح في دعوة الشَّيخ البشير الإبراهيميِّ:

يمكن تصنيف أعمال الشَّيخ الإبراهيميِّ الإصلاحيَّة تحت محورين كبيرين؛ محور الإصلاح الدَّينيِّ، ومحور الإصلاح الاجتماعيِّ، وهناك تَلازمٌ ضروريٌّ بين المحورين في نَظَرِهِ لتحقيق النُّهوض بالبلاد ثقافيًّا واجتماعيًّا فيقول ـ رحمه الله ـ: «والحقيقةُ أنَّ هذه الجمعيَّة تعمل من أوَّلِ يومِ تكوينها للإصلاح الدِّينيّ والإصلاح الاجتماعيِّ، وكلُّ ذلك يَسَعُ الإسلامَ، وكلُّ ذلك يَسَعُهُ مدلولُها ومضمونُها وقانونُها، فالإسلامُ دينُ اجتماعٍ؛ وإذا كانت دائرةُ الأوَّل محدودةً فإنَّ دائرةَ الثَّاني واسعةُ الأطراف، وإنَّ الإصلاح الدِّينيَّ لا يتمُّ إلاَّ بالإصلاح الاجتماعيِّ، ولهذا الارتباط بين القسمين، فإنَّ جمعيَّةَ العلماء عملت منذُ تكوينِها في الإصلاحَيْن المتلازمَيْن، وهي تعلم أنَّ المسلمَ لا يكون مسلمًا حقيقيًّا مستقيمًا في دينه على الطَّريقة حتى تستقيمَ اجتماعيَّتُه فيحسُنُ إدراكُه للأشياء، وفهمُه لمعنى الحياة، وتقديرُه لوظيفته فيها، وعلمُه بحظِّه منها، وينضُجُ عقلُه وتفكيرُه، ويُلِمُّ بزمانه وأهلِ زمانه، ويتقاضى من أفراد المجموعة البشريَّة ما يتقاضَوْنَه منهُ من حقوقٍ وواجباتٍ، ويرى لنفسه من العِزَّةِ والقوَّة ما يرونه لأنفسِهم، وتربط بينه وبينهم رابطةُ الأخوَّة والمساواة والمصلحة، لا رابطةَ السِّيادةِ عليه والاستئثارِ دونه»(4).

المحور الأول ـ الإصلاح الدِّينيُّ:

إنَّ الغاية العظمى والهدفَ الأسمى من هذا الإصلاح هو إرجاعُ المسلمين إلى كتاب ربِّهم وسنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وربطِهم بسَلَفِهِم الصَّالحِ وماضِيهم المشْرِقِ؛ لأنَّ حاضرَ الأمَّةِ ومستقبلَها إذا لم يُبْنَ على جذورٍ مَتِينَةٍ من الماضي لن يُثْمِرَ، فهو كشجرة هَشَّةٍ اجْتُثّتْ من فوق الأرض ما لها من قَرَارٍ، أو كبنيانٍ أُسِّسَ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَيوشِكُ أن يَنْهَارَ.

فقد عمل الشَّيخ ـ رحمه الله ـ في هذا المجال على تحقيقِ ما يلي:

- تحرير العقول من الضَّلالات والأوهامِ في الدِّين والدُّنيا، وتحريرُ النُّفوس من تأليه الأهواء والرِّجال وفي ذلك يقول ـ رحمه الله ـ: «إنَّ تحريرَ العقول لأساسٌ لتحريرِ الأبدانِ وأصلٌ له، ومحالٌ أن يتحرَّرَ بَدَنٌ يحمل عقلاً عبدًا؛ إنَّ هذا النَّوعَ من التَّحرير لا يقوم به، ولا يقوَى عليه إلاَّ العلماءُ الرَّبَّانيُّونَ المصلحُون، فهو أثرٌ طبيعيٌّ للإصلاح الدِّينيِّ الَّذي اضْطَلَعَتْ بحمله جمعيةُ العلماء، عرَف ذلك من عرَفَه لها إنصافًا، وأنكرَه من أنكرَه عنادًا وحسدًا»(5).

- إصلاحُ عقائدِ المسلمين وإراداتِهم لتصحَّ عباداتُهم وأعمالهم؛ لأنَّ العباداتِ هي أثرُ العقائدِ كما أنَّ الأعمالَ هي أثرُ الإرادات، فما انْبَنَى منها على الصَّحيح فهو صحيحٌ، وما انْبَنَى على الفاسدِ فهو فاسدٌ.

ويشرحُ الشَّيخُ ـ رحمه الله ـ الطّريقةَ الَّتِي يتمُّ بها ذلك فيقول: «إنَّ في الفقه فِقْهًا لا تصل إليه المداركُ القاصرةُ، وهو لُبَابُ الدِّين وروحُ القرآن، وعُصَارةُ سنَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهو تفسيرُ أعماله وأقوالِه وأحوالِه ومآخذِه ومَتَارِكِه، وهو الَّذي وَرِثَهُ عنه أصحابُه وأتباعُهم إلى يوم الدِّين، وهو الَّذي يَسْعَدُ المسلمون بفهمِه وتطبيقِه والعملِ به، وهو الَّذي يجلب لهم عِزَّ الدُّنيا والآخرة، وهو الَّذي نريد أن نُحْييه في هذه الأمَّة فتحيَا به ونُصحِّح به عقائدَها، ونقوِّم به فهومَها فتصِحُّ به عباداتُها وأعمالُها»(6).

- إصلاحُ ما أفسده التَّعصُّبُ المذهبيُّ، والجمودُ الفقهيُّ، والاقتناعُ والرِّضَا بالتَّقليد، وهو ما أبعد المسلمين عن الدِّين الحقِّ، ورمى بهم إلى مؤخِّرة الرَّكبِ بين الأُمم، وذلك بالرُّجوع بهم إلى الموْرِدِ الصَّافي النَّقيِّ والمنْهَلِ العَذْبِ الزُّلالِ المتمثِّل في كتاب الله تعالى وسنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وَفْقَ الطَّريقةِ الَّتي سار عليها سلفُنا الصَّالحُ رضي الله عنهم من إيراد الدَّليل والتَّعليل في الفقهِ والفَتْوَى والتَّعليمِ.

يقول ـ رحمه الله ـ: «ولو أنَّ فقهاءَنا أخذوا الفقهِ من القرآنِ، ومن السُّنَّةِ القوليَّةِ والفعليَّةِ، ومن عملِ السَّلَفِ، أو من كتبِ العلماءِ المستقلِّين المستدلِّين الَّتي تَقْرِنُ المسائلَ بأدلَّتها، وتبيِّنُ حكمةَ الشَّارعِ منها، لكان فِقْهُهُم أكملَ، وآثارُه الحسنةِ في نفوسِهم أظهرَ، ولكانت سلطتُهم على المستَفْتِين من العامَّة أَمْتَنَ وأَنْفَذَ، ويَدُهم في تربيتِهم وتَرْوِيضِهِمْ على الاستقامةِ في الدِّينِ أعْلَى»(7)

المحور الثَّاني ـ الإصلاح الاجتماعيُّ:

من القضايا الاجتماعيّة الَّتي تَنَاوَلَها قلمُ الشَّيخ البشيرِ الإبراهيميِّ بالتَّمحيص والعلاج:

- قضيَّة الزَّواج والمغالاة في المهور، حيث صار أكثرُ الشَّباب يُعرضون عنه إلى سنٍّ متأخِّرٍ من العمر فيحدُث بسبب ذلك فسادٌ في الأخلاق والأعراض والأموال، وإذا ازدادت هذه الظَّاهرةُ انتشارًا وفُشُوًّا واستَحكَمت، فإنَّ الأمَّة تتلاشى وتندثر، فقال مبيِّنًا خطورةَ هذا الأمرِ وأهميَّةَ الإصلاح فيه:

«تُعاني الأمَّةُ الجزائريَّةُ وجاراتُها المتَّحدةُ معها في الدِّين والجنس،...عدَّةَ مشاكلَ اجتماعيَّةٍ، لا يسَع المصلِحين إغفالُها، ولا السُّكوتُ عليها بعد ظهور آثارِها وتحقُّقِ أضرارِها، وسَتُعَالِجُ «البصائر» طائفةً من أُمَّهاتِها، ببيان نتائجِها وبيانِ وجهِ الرَّأي في علاجِها... فإنَّ من بعضِ هذه المشاكلِ ما لو تمادى وامتدَّ لأتَى بنيانَ الأمَّةِ منَ القواعدِ، وقضى عليها بالمسْخِ أوَّلاً، والتَّلاشي أخيرًا.

أعْضَلُ هذه المشاكلِ، وأعمقُها أثرًا في حياة الأمَّة، وأبعدُها تأثيرًا في تكوينها، مشكلةُ الزَّواج بالنِّسبة إلى الشبَّان»(8).

فعمل على إزالة الأسباب الَّتي أدَّت إلى هذه الظَّاهرة، وهي في الغالب تعود إلى العوائدِ والتَّقاليدِ الفاسدة الَّتي بدَّلت حكمَ الله تعالى ونَسختْ سنَّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم.

ومن تلك العوائدِ السَّيِّئَةِ المغالاةُ في المهور، يقول ـ رحمه الله ـ: «من أمراضِنا الاجتماعيَّة التي تنشرُ في أوساطنا الفسادَ والفتنَةَ، وتُعَجِّلُ بها إلى الدَّمار والفَنَاءِ ـ عَادَةً ـ المغالاةُ في المهُورِ... وقد كانت هذه القضيَّةُ ـ وما زالت ـ أهمَّ ما تَضَمَّنَهُ منهاجُنا في الإصلاح الاجتماعيِّ، فعالجناها بالتَّرغيب والتَّرهيب، وبيانِ ما تقتضيه الحكمةُ الشَّرعيَّة، وما يقتضيه الحكمُ الشَّرعيُّ، تناولناها في الخُطَبِ الجُمعيّة، وفي الدُّروس وفي المحاضرات العامَّة، وفي المقالات المكتوبة، وحملنا الحملاتِ الصَّادقة على العوائدِ التي لابَسَتْهَا، فأفسدَتْها حتَّى صيَّرت الزَّواج الَّذي هو ركنُ الحياة أعسرَ شيءٍ في الحياة»(9).

- ومن القضايا الاجتماعيَّة التي عالجها كذلك: قضيَّة التَّعليم؛ لأنَّه هو مادَّةُ الإصلاح وأصلُه، فاهتَمَّ بإصلاح التَّعليم في داخل الوطن وخارجِه، فكان من أعماله السَّعيُ لإنشاء المدارس الحرَّةِ والمعاهدِ، وإرسالِ بعثاتٍ من الطَّلبة المتخرِّجين منها إلى المشرق لإكمال تحصيلهم العلميِّ ليتولَّوا بعد ذلك مهمَّةَ التَّعليم في بلدهم.

ولشِدَّةِ حرصه ـ رحمه الله ـ على نجاح هذه المهمَّة كان لا يغفلُ عن مراقبة الطَّلبة في مراحل تعليمهم في الخارج، مستعينًا بجمعيَّة المعلِّمين الَّتي أنشأتْها جمعيَّةُ العلماء المسلمين، وفي ذلك يقول ـ رحمه الله تعالى ـ: «وجمعيَّة العلماء تعتقد أنَّه لا يتمُّ إصلاحُ التَّعليم في الدَّاخل إلاَّ إذا تَمَّ إصلاحُه في الخارج، لشدَّةِ الاتِّصال بينهما، ولأنَّ التَّعليم في الخارج هو الَّذي يغذِّي التَّعليمَ الدَّاخليَّ بالمعلِّمين، ومحالٌ أن يَنَالَ التَّعليمُ الدَّاخليُّ خيرًا من معلِّمين يتخرَّجون من المقاهي، ويحصِّلون معلوماتهم من الجرائدِ الحزبيَّة، ويتدرَّبون في ميادين الحزبيَّة على السِّباب، وتنقُّص التَّعليمِ، والتَّنكُّر للعلمِ...

إنَّ جمعيةَ المعلِّمينَ مصَمِّمَةٌ على أن تحوطَ التَّعليمَ في الخارج برَقابة تمدُّها على التَّلامذةِ، ونصائحَ تشتدُّ فيها، لِيَحْذَرُوا أولئك اللُّصوص، ولينقطِعُوا إلى العلم، وليضعُوا بين أعينهم الواجب الَّذي ينتظرُهم في وطنهم، وهو التَّعليم»(10).

- من الجوانب الإصلاحيَّة التي نالت اهتماماتِ الشَّيخ البشير الإبراهيميِّ ـ رحمه الله ـ، الإصلاحُ في باب السِّياسة، وهي جزءٌ من الإصلاح الاجتماعيِّ، فعمل على تصحيح مفهوم السِّياسة ببيانِ ما يدخل تحتَها من المعاني الصَّحيحة المقبولة والمعاني الفاسدة المرفوضة وذلك عند الحكَّام والمحكومين، وإرشاد الطَّائفتين للَّتي هي أقوم من معانيها.

أما معناها عند الحاكمين فيقول فيه: «إنَّ أعلى معاني السِّياسة عند الحاكمين هو تدبير الممالك بالقانون والنِّظام، وحياطة الشُّعوب بالإنصاف والإحسان، فإذا نَزَلُوا بها صارت بمعنى التَّحيُّل على الضَّعيف لِيُؤْكَلَ، وقَتْلِ مُقَوِّمَاتِهِ ليُهْضَمَ، والكيدِ للمستيقظِ حتَّى يَنام، والهَدْهَدَةِ للنَّائم حتَّى لا يستيقظ.

وهذا المعنى الأخير هو الذي جرى عليه الاستعمارُ، ووضعه في قوامِيسه وأقرَّه في موضعه من نفوسِ رجاله ودعاتِه بحيث إذا أطلق بينهم لفظُ السِّياسة لا يفهمون منه إلاَّ هذا... هذا معنى السِّياسة عند الحاكمين عاليًا ونازلاً»(11).

وأمَّا معناها عند المحكومين فيقول فيه: «فأعلى معانيها إحياءُ المقوِّماتِ الَّتي ماتت أو ضَعُفَتْ أو تَرَاخَتْ، من دين ولغة وجنس وأخلاق وتاريخٍ وتقاليدَ، وتصحيحُ قواعدِها في النُّفوس ثمّ المطالبة بالحقوق الضَّائعة في منطقٍ وإيمانٍ... مع اختيار الفُرَصِ الملائمة لكلِّ حالة، درجاتٌ بعضُها فوق بعض، فإذا نَزَلُوا بها صارت إلى هذا التَّحاسدِ على الرِّياسة وهذا التَّهافتِ على كراسِي النِّيابة، وهذه المناقشاتِ الفارغةِ في القُشُورِ، وهذا الجَدَلِ الشَّاتِمِ السَّبَّابِ، وهذا الافْتِتَانِ المُزْرِي بالأشخاص، وكلُّ ذلك نراه على أقبح صُوَرِهِ في المجتمعِ الجزائريِّ...»(12).

وخِتَامًا؛ أقول: إنَّ أعمالَ الشَّيخِ الإصلاحيَّةَ في هذه المجالات ذاتُ أَفْنَانٍ، لها فروعٌ وتفاصيلُ لا يمكن استقصاؤُها في هذه العُجالة، لذا اقتصرْتُ على ذكر أهمِّها وما يكونُ دليلاً على ما لم يُذكر منها فإنَّ: «ضَوْءَ البَرْقِ المُنِيرِ يُنْبِئُ عَمَّا وَرَاءَه مِنَ المَطَرِ الغَزِيرِ».

وسبحانك اللّهمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاَّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.

 

(1) «عيون البصائر»: (ص21).

(2) المرجع السابق: (ص22).

(3) «عيون البصائر»: (ص22).

(4) «آثار البشير»: (1 /283).

(5) «عيون البصائر»: (ص34).

(6) المرجع السابق: (ص203).

(7) «عيون البصائر»: (ص229).

(8) المرجع السابق: (ص325).

(9) «عيون البصائر»: (ص359).

(10) المرجع السابق: (ص353).

(11) «عيون البصائر»: (ص39).

(12) المرجع السابق: (ص40).

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.