جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دروس في الفكر والحركة
جمعية العلماء

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دروس في الفكر والحركة

بقلم: د. عمر النشيواتي-

أنشئت جمعية العلماء الجزائريين في ظروف استثنائية كانت تمر بها الجزائر، فواجه مؤسّسوها «رحمهم الله» تحديات كبيرة ومخاطر جمّة، لكنهم تغلبوا على كل تلك العقبات وأسّسوا صرحًا دعويًا تحرّريًا أضحى نموذجًا يحتذى لكل العاملين في الساحة الدعوية على اختلاف مشاربهم، مما يشوقنا إلى التعرف -في هذا المقال- على المحاور والأسس التي قام عليها المشروع، وتلمُّس الدروس المستفادة منه.

تُعدّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست على يد العالِمين الجليلين عبدالحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي عام 1349هـ – 1931 م، أنموذجًا رائدًا للعمل الإسلامي السُّني الذي بُني على أسس متينة وتدرُّج في الإصلاح والتغيير والنهضة، حتى انتهى بالأمة الجزائرية إلى الاستقلال من الاحتلال الفرنسي الذي جثم على صدر الأمة الجزائرية ما يزيد عن مائة وثلاثين عامًا (1246هـ – 1830م إلى 1380هـ – 1962م)، وفعل فيها ما لم يفعل مستعمر في أمّة مِن القتل والتَّشريد، والتدمير، والعمل على تغيير الهوية الإسلامية، ومنع استخدام اللغة العربية، ومصادرة الأوقاف، وتوطين الفرنسيين والأوروبيين في أملاك الجزائريين، واتباع سياسة التَّجهيل والإفقار.

وفي هذا المقالة وقفات مع الدروس الكبرى المستفادة من هذه التجربة الفريدة لتكون مُلهمة لمن يبحث عن طريق الإصلاح والتغيير والنهضة.

تعريف عام بالجمعية:

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، هي جمعية إسلامية جزائرية أسسها مجموعة من العلماء الجزائريين خلال النصف الأول من القرن العشرين في (1349هـ – 1931م). وقد اجتمع عند التأسيس أكثرُ من سبعين عالمًا، مِن مختلف جهات الجزائر، ومِن شتَّى الاتجاهات الدينية والمذهبية، وجاء في بيان التأسيس أنّ الجمعية دينيَّة تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها. وانتَخَبت الجمعيةُ الشيخَ ابنَ باديس رئيسًا لها، ولم يكن حاضرًا حينها، فانتُخِبَ غيابيًا.

وقد حددت الجمعية الأهدافَ التي ترمي إلى تحقيقها في منشور للجمعيّة نشره الشّيخُ ابنُ باديس في جريدة البصائر، وهي:

التّعليم والتربية.

تطهير الإسلام من البدع والخرافات.

إيقاد شعلة الحماسة في القلوب بعد أن بذل الاحتلال جهده في إطفائها حتى تنهار مقاومة الجزائريّين.

إحياء الثقافة العربية ونشرها بعد أن عمل المستعمر على وأدها.

المحافظة على الشخصية الجزائرية بمقوماتها الحضارية والدينية والتاريخية.

مقاومة سياسة الاحتلال الرامية إلى القضاء على الشخصية الجزائرية وهويتها.

وجعلت الجمعية شعارها «الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا».

وقد أسست الجمعية شُعبًا (فروعًا) لها في أرجاء الجزائر، بلغت قرابة الستين شعبة، وعملت الجمعية عبر تلك الشُّعَب على نشر اللغة العربية، وإحياء الثقافة العربية الإسلامية، وبعْث التاريخ العربي الإسلامي. كما اعتنت بالجالية الجزائرية في فرنسا وأنشأت لهم عشرات النوادي، وأرسلت المعلمين لتعليمهم الدين واللغة العربية.

وسَعت الجمعية لترسيخ غيرة وطنيّة لدى الجزائريين في وجه سياسة الاحتلال، واجتهدت في إعداد نخبة من الرجال والنساء ليكونوا عمدة نهضة الجزائر، وقامت في سبيل ذلك بإصلاح أساليب التعليم وطرق التدريس، وإصلاح الكتب المدرسية.

كما نظّمت الجمعية بعثات تعليمية لخريجي مدارس الجمعية ومعاهدها إلى المشرق العربي، وأولت اهتمامًا بالتعليم المسجدي، ووضعت برامج لنشر التعليم الديني والعربي للصغار المبتدئين، وتدارك النقائص التي عانى منها الملتحقون بالمدارس الفرنسية، كما اهتمّت الجمعية بالكبار وخصّصت لهم دروسًا في الوعظ والإرشاد ومحو الأمّية.

وخلال مسيرة الجمعية، أنشأت العديد من الجرائد، وكانت كلما أَغلق الاستعمار جريدة تأهبت لإصدار بديل عنها، ومن هذه الجرائد: جريدة السنة النبوية المحمّدية، وجريدة الشريعة النبوية المحمّدية، وجريدة الصّراط السويّ، وجريدة البصائر التي كانت معبّرة عن مبادئ الجمعية، وقائمة بدعوتها، ومبيّنة لتصوراتها ومدافعة عن مواقفها، وهي أطول جرائد الجمعية عمرًا.

ويُلخِّص البشير الإبراهيمي تعريف الجمعيةِ بأنها «جمعية دينية علمية، عملت للعروبة والإسلام ثلاثين سنة أعمالاً عظيمة جليلة، فأحيَت العربية في الجزائر على صورة قلّ أن يوجد لها نظير في الأقطار العربية، وأحيت الإسلام الصحيح بإحياء علومه، فأنقذت بذلك أمّة تُعدُّ أحد عشر مليونًا من الكفر والانعجام، بعدما عملت فرنسا مائة سنة كاملة لمحو العربية وطمس الإسلام»(1).

محاور عمل جمعية العلماء الجزائريين:

تتلخص استراتيجية الجمعية في الإصلاح في محورين رئيسين:

إعداد العدَّة الإيمانية وتصحيح الاعتقاد: بتنقية الإسلام مما علق به من الشوائب والبدع، فقد حاربت الجمعية العقائد المنحرفة التي تسربت في أوساط الجزائريين، وحاربت الطُّرق التي نشرت الشِّرك والبدع، كما حاربت عقيدة الإرجاء التي يقول أصحابها إن الإيمان في القلب، فضيَّعوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاربت العقيدة الجَبريَّة التي جعلت وجود فرنسا في الجزائر قدرًا محتومًا، وأحيت في قلوب العباد عقيدةَ الولاء والبراء، وقد نجحت الجمعية نجاحًا كبيرًا في هذا المضمار، «فصحَّت العقائد، وصحَّت لِصحَّتها الإرادات والعزائم»، كما قال الإبراهيمي.(2)

نشر العلم الشرعي خصوصًا وسائر العلوم عمومًا وعلى رأسها اللغة العربية، وإعادة بعثها في ضمير الأمة الجزائرية كمَعلم عربي وإسلامي يجمع الأمة الجزائرية ويبطل مظاهر الفَرْنَسة، وكانوا يتدرَّجون في ذلك، يقول البشير الإبراهيمي: «كانت الطَّريقة الـتي اتفقنا عليها… في تربية النشء هي: ألا نتوسَّع له في العلم؛ وإنما نربِّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل»(3)

وكان من أبرز المشاريع التي أنجزتها الجمعية لتحقيق ذلك ما يلي: (4)

مائة وخمسون مدرسة ابتدائية تضمّ خمسين ألفًا من بنين وبنات يُدَرَّسون مبادئ العربية وعلوم الدين وعلوم الحياة العامة على أحسن منهاج وأقوى نظام.

معهد ثانوي يضم ألفًا وثلاثمائة تلميذ يُدَرَّسون علوم اللغة والدين والتاريخ الإسلامي والرياضيات وعلوم الحياة على المناهج الثانوية الواسعة.

تعليم المرأة، وهي من أهم القضايا التي عالجتها الجمعية، ولتشجيع الأهالي على تعليم بناتهم جُعل التعليم في المدارس مجّانيًا للبنات، بينما كان تعليم الذكور بمقابل، وكان يدرس في مدارس الجمعية ما يقرب من 13 ألف بنتًا.

مشروع (محو الأمية) وقد أنقذ نحو سبعمائة وخمسين ألفًا من مصيبة الأمّيّة.

بعثات الجمعية إلى جامع الزيتونة في تونس، وقد بلغت في بعض السنين ألفًا وسبعمائة مبتعثًا، وأخرى إلى جامع القرويِّين بمدينة فاس من المغرب الأقصى، وإلى مصر والعراق وسوريا، ثم أنشأت الجمعية في القاهرة مكتبًا واسع الأعمال للإشراف على هذه البعثات، وليكون أداة اتصال بين المشرق العربي والمغرب العربي.

أنشأت الجمعية مكتبًا إسلاميًا في باريس وزوّدته بمعلّمين ليحفظوا على العمّال المسلمين الجزائريين دينهم (وكان عددهم في ذلك الحين أكثر من نصف مليون)، وليحفظوا على أبنائهم المولودين بفرنسا لغتهم وتربيتهم الإسلامية.

القيام بالوعظ والإرشاد على أكمل وجه ولها جند منظَّم يشتمل على نحو مائتي واعظ ديني.

أنشأت الجمعية في تاريخها نحو سبعين مسجدًا في المدن والقرى وعمرتها بالأئمة الصالحين والمدرّسين النافعين.

مشروع النوادي، فقد أنشأت جمعية العلماء في كثير من المدن والقرى نوادي للتهذيب والتربية الإسلامية بلغت في بعض الأحيان ثمانين ناديًا لتبلغ دعوتها بواسطة هذه النوادي إلى الشبّان فتنقذهم من المقاهي وتجرّهم إلى النوادي والمدارس والمساجد.

الدروس المستفادة من تجربة الجمعية في الدعوة والإصلاح:

من خلال النظر في المسيرة الإصلاحية لجمعية العلماء الجزائريين يمكن استخلاص الدروس التالية:

التخطيط المبكّر والدؤوب لتأسيس الجمعية، والإعداد لذلك إعدادًا محكمًا وإشراك النخب الفاعلة: فقد توَّلدت فكرة تأسيس الجمعية عند ابن باديس من سنة 1913 م أثناء إقامته بالمدينة المنورة في قصة متواترة شهيرة جمعته برفيق دربه البشير الإبراهيمي رحمهما الله، حيث كانا يقضيان الليل كله طيلة ثلاثة أشهر في دراسة ما يجب عليهما القيام به، والبحث عن البرامج والوسائل التي تنْهَضُ بها الجزائر. كان ابن باديس والإبراهيمي يناقشان هموم الأمة الجزائرية ويضعان الخطط وهما في الرابعة والعشرين من عمرهما، فلله دَرُّ الشباب حين يتوقّد إيمانًا ويحمل بين جنبيه رسالة.

ثم عاد ابن باديس إلى الجزائر وبقي الابراهيمي في المدينة، ولكن التواصل بينهما لم ينقطع، وبدءا التمهيد للمشروع، وكانت المحاولة الأولى عام 1924م لتأسيس جمعيّة «الإخاء العلمي»؛ للمّ شمل العلماء والطلبة وتوحيد جهودِهم، إلا أن الظروف التي كانت تمر بها البلاد، وعدم استعداد العلماء في ذلك الحين للتقارب والاجتماع أدى إلى تأجيل التأسيس.(5)

واستمر الشّيخ ابن باديس يدعو العلماء في جريدته «الشّهاب» إلى الاجتماع في جمعية، وتقديم اقتراحاتهم لذلك، حتى كان عام 1928م حيث دعا الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة، أثمرت برنامجًا يهدف إلى النهوض بالجمعيّة المزمع تأسيسها. وحين برز «نادي الترقّي» مركزًا ثقافيًا وملتقىً للنخبة المفكرة في الجزائر، طلب الشّيخ ابن باديس من مؤسسيه تكوين لجنة تأسيسية تتولى التحضير لتأسيس الجمعيّة. وهكذا تحققت الرؤية بعد ثلاثين عامًا من التخطيط والتحضير والحشد واستغلال الفرص، فوُلدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولادة قوية وكان لها مكانتها وثقلها، ثم تكاثر أنصارها ومؤيدوها.

تقديم مصلحة الأمة على المصالح الخاصة، فبالرغم من أن الشيخ ابن باديس كان العقلَ المدبّر، والمولِّد المحرِّك لتأسيس الجمعية، إلا أنه حرص ألّا يظهر وراء الدعوة إلى تأسيسها، فهو معروف بموقفه من الاستعمار الفرنسي، وبتوجهه العقدي والمنهجي الذي قد يخالفه العديد من علماء الجزائر في عصره، خاصّة الطّرُقيِّين الذين رضوا أو تعاونوا مع المستعمر، فلم يشأ أن يكون لهذه العوامل أثر في وأد مشروع الأمة في مهده؛ فتخلّى عن صدارة المشهد، وكانت الدعوة إلى الاجتماع التأسيسي من قِبَل هيئة مؤسِّسة مؤلفة من أشخاص حياديّين لا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكًا لدى الحكومة الفرنسية حينها، ولا عند الطّرُقيِّين. كما لم يحضر ابن باديس الاجتماع التأسيسي للجمعية في يومه الأول، وبالرغم من ذلك انتخب رئيسًا للجمعية لإقرار الجميع بمكانته وقدره بين العلماء، فحضر في اليوم الثاني مدعوًّا لا داعيًا، وبذلك جنّب الاجتماع ردود فعل السلطة الفرنسية، ومن يتوجَّسون من كل عمل يقوم به ابن باديس.

وضوح الثوابت التي قامت عليها الجمعية وسهولتها، مما أدى إلى قبولها من الجميع، وجمعت شمل العاملين والتفَّ حولها كل الجزائريين، مثقفين وعامة، كبارًا وصغارًا، رجالاً ونساء، عربًا وأمازيغ وغيرهم، حيث كانت الثوابت المعلنة في شعار الجمعية: الإسلام ديننا – والعربية لغتنا – والجزائر وطننا، وهي مسائل متَّفق عليها بين الجزائريين، وبهذا ربطت المتفرِّق من المجتمع برابط الإسلام والعروبة، وحدَّدت الأمةَ الجزائرية مجالاً مستهدَفًا للعمل والإصلاح، فقطعت الطريق دون كل مشغّب ومخرّب ومخذّل من داخل الجزائر وخارجها.

البدء بإصلاح المجتمع؛ إذ هو البنية الأولى في الإصلاح والتغيير والنهضة، وقد كان علماء الجمعية ينكرون بلهجة شديدة على من يريد أن يتخطى مرحلةً قبل أوانها، كما رد البشير الإبراهيمي رحمه الله على قادة حزب الشعب الذين يطالبون بالاستقلال دون أن يهيئوا له أسبابه، وكان يقول: (لا استقلال بدون علم).

الاهتمام بالإعلام والطباعة والنشر حيث أسست الجمعية «المطبعة الإسلامية الجزائرية» التي طبعت فيها جرائد الجمعيّة السابق ذكرها (السّنّة المحمّديّة، والشّريعة المطهّرة، والصّراط السّويّ، والبصائر)، وبهذا حافظت الجمعية على سمعتها ودفعت الشُّبهات عنها وحجّمت خصومها.

كما جعلت الصحافة من الجمعية رقمًا صعبًا يحسب له الاستعمار حسابًا، ومن ذلك أنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية اتصلت السلطات الفرنسية بالجمعية ورئيسها للحصول على تأييدهم في حربها ضد الألمان، وطمعًا أن توجه عبر صفحات جريدتها نداء إلى الشعب الجزائري للوقوف بجانب فرنسا، فما كان من الجمعية إلا أن أوقفت إصدار جريدتها (سُرَّ مَنْ رأى) بمحض إرادتها حتى لا تتعرَّض للرقابة، ولا تضطر إلى كتابة ما لا ترضاه. وهذا موقف عظيم يدل على حكمة ونظر ثاقب من القائمين على الجمعية، وعلى موازنات عميقة بين المصالح والمفاسد. وتتبين عظمة هذا الموقف حين مقارنته بما يحدث كثيرًا في زماننا من انقلاب منابر الإصلاح والهداية إلى أبواق للظلمة، تشوه الحقائق، وتشيطن الصالحين، ويزعم أصحابها أنهم مضطرون لذلك للحفاظ على وسيلتهم، وبقائهم على رأسها، وما قيمة بقائها إذا تمحَّضت وسيلة للظلم والكذب والتشويه؟

كانت جمعية العلماء الجزائريين واضحة في هويتها ومنهجها، لم تتنازعها توجهات أعضائها، إلا أن هذا الاجتماع على الأهداف المشتركة لم يمنع الجمعية من تصحيح عقائد الناس في البدع الكبيرة

التواصل مع كافة التيارات والتوجُّهات الجزائرية واستيعابها والعمل معها ضمن مشتركات كبرى، وتحييد تبايناتها وخلافاتها، فكانت الجمعية واضحة في هويتها ومنهجها، ولم تتنازعها توجهات أعضائها. ومن ذلك أنه حضر الاجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالمًا، من مختلف جهات الجزائر، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية: مالكيين وإباضيين مصلحين وطُرقِيِّين.

إلا أن هذا الاجتماع على الأهداف المشتركة لم يمنع الجمعية من تصحيح عقائد الناس في البدع الكبيرة، فقد ورد في البند الأول من برنامج الجمعية «تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضَّلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية». وكانت الجمعية تمارس ذلك بحكمة بالغة، فما ضعف حضوره في المجتمع من الضلالات والعقائد الفاسدة بمر الزمن وجهود الإصلاح كانت تُعرِض عنه، فمثلاً ينصح البشير الإبراهيمي وُعّاظ الجمعية وهم يستعدون لإلقاء الدروس في شهر رمضان الذي وافق 1951 م أي بعد قرابة 15 عامًا من عمل الجمعية: «وعليهم أن يجتنبوا الحديث في مثارات الفتن، وفي البدع التي فرغت جمعية العلماء منها، فقد ضعف شأنُها، وفي إعادة الحديث عنها تقوية لها وإحياء». وهي بهذا المنهج جمعت بين وحدة الصف وتبيين الحق.

الصَّرامة في مواجهة مشاريع الضِّرار التي كانت تكيد لمشروع الإصلاح والتحرير من داخل المجتمع الجزائري، بتشخيصها في بداياتها وتعريتها والكتابة في التحذير منها، ومن ذلك موقف البشير الإبراهيمي الصارم من جمعية علماء السنّة (وهي جمعية أسّسها الطُّرقيِّون ورجال الدين التابعون للمستعمر بإيعاز من السّلطات الفرنسية آنذاك مضاهاة لجمعية العلماء) حيث خصها بمناقشات نشرت في العدد التاسع من جريدة “السنّة النبويّة المحمّدية” تحت عنوان “تعالوا نُسائلكم” والتي تعكس وعيًا وقوة في الحجة وصدقًا في العبارة وصيانةً للجمعية من مشاريع الضّرار والإفساد، ولم يسلم ابن باديس من الأذيَّة من هؤلاء وأشباههم حيث تعرض قبل تأسيس الجمعية في عام 1927 م لمحاولة اغتيال على يد أحد مريدي الطريقة العليوية.

نصَّت الجمعية في مرحلة تأسيسها على عدم الدخول في السياسة، وكان هذا حينها عين السياسة! إذ حيَّدت المستعمر عن استهدافها في مرحلة النشأة، وعملت ضمن المتاح من الأنظمة والقوانين، بما يحافظ على وجودها ويسدُّ ذرائع محاربتها والتضييق عليها، ثم لما قوي عودها، وتغيَّرت ظروف المجتمع وأحواله تغيَّر خطابها بما يناسب المرحلة، وأدارت المعركة السياسية مع المستعمر بذكاء وحنكة، قال البشير الابراهيمي مخاطبًا الاحتلال الفرنسي:

«أما إذا أبت إلا أن تجعل ديننا جزءًا من سياستها، فسننتقل معها للميدان الذي أرادته واختارته لنفسها ولنا، وسنقود كتائب السياسة من أضيق موالجها جالبة علينا ما جلبت، وسوف تجدنا إن شاء الله عند سوء ظنها.

نحن سياسيون منذ خلقنا، لأننا مسلمون منذ نشأنا، وما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره، إلا السياسة في أشرف مظاهرها، وما المسلم الصحيح إلا المرشَّح الإلهي لتسيير دفَّتها، أو لترجيح كفَّتها فإذا نام النائمون منا حتى سلبت منهم القيادة، ثم نزعت منهم السيادة، فنحن إن شاء الله كفارة الذنب، وحبل الطنب، نحن سياسيون طبعًا وجِبِلَّةً، ونحن الذين أيقظنا الشعور بهذا الحق الإلهي المسلوب، فما سار سائر في السياسة إلا على هدانا، وما ارتفعت فيها صيحة إلا كانت صدىً مردِّدًا لصيحاتنا، ولكننا كنا لا نريد أن نخلط شيئًا كلُّ وسائله حقٌّ بشيء بعضُ وسائله باطل، وأن نميز بين ما لا جدال فيه، مما فيه جدال.

وكنا نريد أن نبدأ بأصل السياسات كلها وهو الدين لنبني عليه كل ما يأتي بعده، فنسالم ونحن مسلمون، ونخاصم ونحن مسلمون، ونصادق أو نعادي ونحن مسلمون، فيكون في إسلامنا ضمان للمعدلة حتى مع حقوقنا، نحن سياسيون

لأن ديننا يعد السياسة جزءًا من العقيدة، ولأن زماننا يعتبر السياسة هي الحياة، وأنها آية البطولة، ولأن وضعها يصيّر السياسة ألزم للحياة من الماء والهواء، ولأن السياسة نوع من الجهاد، ونحن مجاهدون بالطبيعة، فنحن سياسيون بالطبيعة، ولأن الاستعمار الفرنسي بظلمه وعسفه، لم يغرس في الجزائر إلا ثمرتين: بغض كل جزائري لفرنسا حتى الأطفال، وصيرورة كل جزائري إلى سياسي حتى الأئمة، ليت الاستعمار يأخذ من هذه الصراحة ما يغريه بزيادة التشدُّد، ظنًا منه أنه يشغلنا بجانب عن جانب، ويلهينا بديننا عن دنيانا، ليته يفعل ذلك حتى يعلم أننا أصبحنا والفضل له لا يلهينا شيء عن شي»(6)

لئن كان الخطاب السياسي للجمعية يتحدَّد قوة وخفوتًا بحسب الظرف المتاح، إلا أن الاستقلال من الاستعمار الفرنسي كان هدفًا واضحًا للجمعية من اليوم الأول. ولعل من الدلائل على ذلك أن الإعلان عن تأسيس الجمعية جاء بعد أشهر قليلة من احتفال أقامته فرنسا سنة 1930 م في الجزائر بمناسبة مرور قرن على الاحتلال، أرادت من خلاله أن تثبت للعالم أنها قضت على مقومات الشعب الجزائري المسلم، وحضر الحفل الكثيرُ من القادة الفرنسيين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي ورؤساء عدة دول والعديد من القساوسة من شتى البلاد الأوربية، وقد قال كبير القساوسة في الجزائر في خطاب ألقاه في المؤتمر: «إننا لا نحتفل اليوم بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر، وإنما نحتفل بدخول المسيحية من جديد إلى إفريقيا الشمالية».

لقد كان الجهاد لتحقيق الاستقلال مستحضرًا لدى علماء الجمعية منذ النشأة، فقد نقل تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس الجمعية أنه قيل له يومًا: يا شيخ، يلاحظ الناس بأنك لا تدعو إلى الاستقلال وتحرير الجزائر فقال: «نحن نبني الجدران والاستقلال هو سقف الجدران، وهل هناك من يبني سقفًا بدون جدران.» وقد قال ابن باديس في وقت مبكر من عمر الجمعية: «إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلَّت أممٌ كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة»(7). إلى غيرها من الكلمات الصريحة الواضحة في إعلان الجمعية وأعضائها الثورة على فرنسا.

ولما حان وقت الجهاد كان علماء الجمعية وطلابها طليعة المجاهدين، ووقود ثورة التحرير، فانتظموا أفواجًا في مواجهة المستعمر الفرنسي حتى دحروه. قال الدكتور أبو القاسم سعد الله: «وإنصافًا للتاريخ نقول: لولا أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم ووطنهم، وكوّنوا أنفسهم في الخفاء واجتمعوا وتجاوبوا وقرَّروا الثورة، لكانت الجزائر بدون جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كريشةٍ في مهب الريح سنة 1954 م، وهي الريح التي أخذت تهب أيضًا على جمعية العلماء، ويبقى أن نعرف مستقبلاً مَن الذين فجَّروا الثورة 1954 م، كانوا من خريجي خلايا حزب الشعب، وكم منهم كانوا من خريجي مدارس جمعية العلماء، وكم مِن هؤلاء وأولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه»(8)

فانظر كيف قادت الجمعية الجزائريين لهذا النصر، واستطاعت في ثلاثين عامًا أن تقتلع جور مستعمر جثم على صدورهم مائة وثلاثين عامًا، حتى ظن المستعمر أنها أرضه إلى الأبد، فدحرته وطردته وهي تعمل تحت عينه! وما أشبه ذلك بما حصل لموسى عليه السلام، يتربى في قصر فرعون ثم يزلزل ملكه!

تميزت الجمعية بالقوة والشجاعة والجرأة في الفتاوى والمواقف التي تقتضيها المرحلة، ومن ذلك:

فتوى تحريم التجنس بالجنسية الفرنسية، بل حكمت بكفر من يتجنس بها وذلك بالنظر إلى ما في التَّجنس –حينها- من العمالة والموالاة للمستعمر والوقوف في حزبه ضد حزب المؤمنين.

من مواقفها العجيبة والتي تدل على فقه عميق: مطالبتها بفصل الشؤون الدينية عن الدولة! وذلك للحد من تدخل الإدارة الفرنسية وعملائها في شؤون المجتمع، خاصة بعد إعلان فرنسا القانون المتعلق بذلك 1905 م وتطبيقه في الجزائر 1907 م، وكانت مطالب الفصل تشمل: التعليم، والمساجد، والقضاء، والأوقاف وشؤون الحج. فحين تكون الدولة كافرة وتعتدي على شعائر المسلمين يكون فصل إدارة الشؤون الدينية عن سلطة الدولة مطلبًا.

في الوقت الذي كانت تجرّم التجنس بالجنسية الفرنسية، وتربي الناس على بغض الفرنسيين، كانت تحث الجزائريين على تعلم اللغة الفرنسية لمعرفة العدو واستبانة طريقته.

التركيز على «إحياء تاريخ الجزائر» ليكون جامعًا للجزائريين بكل أطيافهم ضد الاستعمار، ولم يعدّ هذا منهم ارتباطًا بالأرض أو انتماءً للتراب.

وقد مر سابقًا أنه حين خشيت الجمعية أن تستغَلَّ صحيفتُها لصالح الفرنسيين في الحرب اتخذت قرارًا بإغلاقها.

هذه المواقف – وغيرها – تظهر أهمية أن يقودَ العملَ الإصلاحي علماء ربّانيُّون، عُرفوا بعِلمهم وجهادهم ونُصحهم للأمة، ينظرون في المقاصد الشرعية ويتَّخذون المواقفَ التي يرونها حقًا بكل قوة وشجاعة، فيثق الناس بهم ويقودون مجتمعاتهم في المدلهمات والنوازل إلى بر الأمان.


الهوامش:

1- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، القاهرة، سبتمبر 1953، تعريف بجمعية العلماء وُزِّع على وسائل الإعلام بالقاهرة.

2- نظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، أحمد طاهر الإبراهيمي، (1/283).

3- ينظر: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، مصطفى محمد حميداتو، كتاب الأمة، العدد 57، محرم 1418هـ، السنة السابعة عشرة، ص (137).

4- غالب ما ذكر هو ملخص من مقال بعنوان: تعريف بجمعية العلماء، وُزِّع على وسائل الإعلام بالقاهرة بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء الجزائريين، سبتمبر 1953م.

5- مقال: عبد الحميد ابن باديس ودوره السياسي والديني في الجزائر، غيلان سمير طه، مجلة سر من رأى، العدد 32، السنة التاسعة، كانون الثاني، 2013م، المجلد التاسع.

6- ينظر: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، أحمد طاهر الإبراهيمي، (4/260).

7- جريدة الشهاب ج 3 م12- سنة 1936م.

8- أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، لأبي القاسم سعد الله (4/ 147 – 148).

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.