مالك بن نبي.. إعلاء ذكر في الحياة وبعد المماة

بقلم: مسعود هدنة

أستسمحكم لأبدأ هذه الشهادة بكلمات أزعم بأنها ضرورية..

إنه إن يُرد الله بك خيرا يُعلِ ذكرك في الأرض وفي السماء، حيّا وميّتا.. فيحبك الناس ولم يروك بعد.. يحبوك وقد سمعوا عنك أو قرأوا لك.. كذلك أحسبه فعل سبحانه مع الأستاذ مالك رحمه الله.. لقد أعلى ذكره في الأرض.. وقد شهدت ذلك بعيني وأذني.. في وسائل الإعلام.. في الملتقيات.. في أحاديث كبار الساسة والأكاديميين.. وبين بسطاء الناس..

مذ أخبرني الصديق محمد بوزانة عن هذا اللقاء - قبل أكثر من عشرة أيام - واللهفة تتخطّفني من كل جانب فتعجّلتُ حدوثه أيما تعجّل.. كيف لا والأمر يتعلّق بسيّد سادات الفكر في الأمة وواحد من أشدّ الغيورين عليها دينا ولغة وروحا وجسدا.. قضى نحبه يفكّر في نهضتها ويخطّط لإقلاعها في بحر هائج مائج مدجّج بالأعداء من بني الوطن والدين من المرتزقة الممسوخين.. فضلا عن أسيادهم وشياطينهم هناك من وراء البحار..

وصلنا وقت المغرب إلى المكان المسمى "مركز أحمد" وهو مسجد صغير يقع في مدينة الإسكندرية بولاية فرجينيا الأمريكية، كان البرنامج الذي ضبطه الإخوة من ابناء الجالية الجزائرية دقيقا جدا جدا.. احترموا فيه الأستاذ بن نبي، الذي كان حريصا على احترام الوقت والعمل.. فلهم كل التحية والتقدير..

اقتضى البرنامج أن نصلي المغرب ثم تبدأ المحاضرات ثم نصلي العشاء ثم نتناول وجبة العشاء سوية ثم نعود إلى الجو الفكري، وهو ما كان بالدقيقة والثانية.. وقد عددت الوقت فكان أربع ساعات كاملة مملوءة بالمنفعة والحنين والأسى والفخر والغضب.. كل ذلك وغيره أحسست به وأحس به الإخوة والأخوات معنا..

عندما دخلت ذلك المسجد اكتنفني كمّ غير معدود من الأسئلة اخترق عقلي وقلبي، أسرد هاهنا بعضها:
أي رجل كان بن نبي هذا حتى تقام له الملتقيات والندوات في شرق البطحاء وغربها؟ أي سحر فكر وبيان أوتيهما الرجل ليقدِر على إقناع شباب من شتى أراضي العالم الإسلامي فينتشروا في فجاج الأرض ويبلغ بعضهم ساميَ المراتب (مثل الدكتور الفنيش)؟

لماذا نحن متخاذلون في الدفاع عنه وتفعيل فكره.. رغم الإقرار والإكبار بمحاولات الرجال بعثه من جديد عبر لقاءات مثل هذا؟

لماذا لا ينبعث تلاميذه من "سباتهم" ومن تحت الرماد - رغم كبر سنهم - فيتكتّلوا ويعلنوا عن مبادرة - أكيد سيلتف حولها الكثيرون من عشاق الرجل - ولتكن المبادرة خطة مهندسة بدقة تماما مثلما هندس رحمه الله للحضارة بنظرية واضحة؟

هل هزم تلاميذ "العنكبوب" لويس ماسينيون وتلاميذ السيد "س" تلاميذ ابن نبي، بعدما عجزا معا عن هزيمة بن نبي، باعتراف بن نبي نفسه في شهاداته الكثيرة؟

ما أثقلها من أسئلة كادت تجعلني أنفجر باكيا أسِفا غضبانا.. ترى كيف كان ابن نبي يجابه تلكم الأمواج المسمومة وحده..!!!؟

بعد الصلاة بدأت المحاضرة، وكان الدكتور الفنيش المتحدث الرئيسي فيها بل نجمها، باعتبار علاقته الوطيدة بمالك.

والدكتور الفنيش، أيها الإخوة، مواطن ليبي يحمل الجنسية الأمريكية، يعمل حاليا مستشارا اقتصاديا في واشنطن، وهو خريج الاقتصاد من الولايات المتحدة اشتغل مستشارا خاصا في صندوق النقد الدولي في السبعينيات.

إلى هنا سأتوقف عن الحديث، وسأترك الكلمة للدكتور الفنيش ليحدثكم مباشرة.. لن أرتّب الأفكار بل سأسردها بلسانه مثلما سجلتها عنه في مسوّدتي، لكنني أعدكم بأن أعود إلى بيته ـ إن وافق ـ وأعود إليكم بتفاصيل التفاصيل عن حياة مفكرنا، والآن إلى المحاضرة.

قال الدكتور الفنيش:

تعود معرفتي بالأستاذ مالك رحمه الله إلى سنة 1956 في القاهرة عندما كنت طالبا هناك، ويمكن القول إنه جاءنا لاجئا.. كان يبحث عن سكن ليستقر فيه.

الحقيقة أنه كان يحب السكن حيث الطلبة والنخبة وفعلا أقام مع طلبة عرب من المشرق والمغرب.

بدأ بن نبي يفكر في ترجمة كتبه من الفرنسية إلى العربية وساعده على ذلك عمر كامل مسقاوي اللبناني وعبد الصبور شاهين المصري، وكان الأستاذ يقف على كل كلمة في الترجمة فيعرضا عليه ما ترجماه وهو يوافق أو يرفض ويطلب تغيير هذه الكلمة أو تلك، فلقد كان مستواهما في اللغة الفرنسية ضعيفا نسبيا..

لكن الترجمة باتت أمتن عندما التحق بنا الطيب الشريف وهو تونسي ويعرف الفرنسية، وكان الكتاب الذي ترجمه له هو "فكرة كومنولث إسلامي" وهو كتاب مهم جاء في فترة مهمة جدا..

بدأ صيت مالك يذيع مصر كثيرا وكان من بين أبرز زواره الأمير عبد الكريم الخطابي وأخوه محمد المغربيان، وكان يزورهما هو أيضا.. كما زار بن نبي دمشق وكنت معه في رحلته تلك سنة 1959 كما دعانا عمر كامل مسقاوي إلى طرابلس بلبنان وأقمنا هناك شهرا..

تردد مالك على ليبيا أيضا وهو الذي زوجني في بيتي بليبيا.. كانت لي علاقة عائلية به فلقد كان يعرف عائلتي وكنت أعرف عائلته أيضا، فمالك تزوج مرتين في حياته الأولى من سيدة فرنسية أسلمت ثم من سيدة من قسنطينة، وله ثلاث بنات توأم وواحدة كلهن تزوجن من سوريّين وهن اليوم جدّات..
زار مالك أمريكا سنة 1971 بدعوة من الطلبة المسلمين فيها وألقى محاضرات، وفي سنة 1972 جاءني إلى ليبيا مودّعا.. لقد كان مريضا وقد توفي بعدها بسنة في مستشفى بفرنسا.

قد تسألونني ما الذي يلفت النظر في مالك، فأجيب: إن كتبه هي الأكثر انتشارا في العالم العربي والإسلامي اليوم، ولقد تنبّأ هو بذلك يوما عندما قال لزوجته غاضبا "سأعود بعد ثلاثين سنة"..

لقد ظهر بن نبي في فترة كان الناس مشغولين فيها بعبادة البطل والزعيم والقومية العربية والحل السحري والاشتراكية.. لمالك أسلوب تحليلي علمي، تتجمع في مالك أشياء عديدة فهو مثلما وصفته: يجمع بين روحانية الصوفي وأصالة الداعية وعالم الاجتماع ودقة المهندس وتصميم المحارب..
انفجر الدكتور الفنيش باكيا هنا وقال بصوت غمّه الشهيق: لم تكن لمالك قضية خاصة.. كان قضيته الأمة ونهضتها فقط.. كلماته محدودة.. لا يحب الجدل والتقعر في الكلام.. إنه أشبه بالمعجزة.. عبقري..
مالك مدرسة خاصة.. فهو ليس إصلاحيا مثل محمد عبده ولا يرى مشكلة الأمة سياسية فقط مثل جمال الدين الأفغاني ولا يؤمن باستيراد الحضارة من الغرب أو غيره.. لقد فكّر هذا الرجل كيف تبني الأمة حضارتها.. كيف نحرك الإنسان بفكرة.. تأثر بن نبي بابن خلدون..

كان يرى بأن هذه الأمة التي قوامها أكثر من مليار والغنية بالموارد لن تتحرك إلا إذا تحرك الإنسان فيها.. وكان يرى بأن الدين هو المركّب والمحرك وفكّر مالك كيف يقوم الدين بهذا الدور؟

كان معجبا بابن باديس لكنه ابتعد عن جمعية العلماء المسلمين بعدما ذهب شيوخها إلى فرنسا لملاقاة الرسميين الفرنسيين.. كان يرى بأن الجمعية انحرفت..

كان مالك يعتقد بأن الآية القائلة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" تمثل قانونا تاريخيا وكان يؤمن بأن عملا اجتماعيا وحده كفيل بتغيير المجتمع والأمة.. نظريته في الحضارة كلها قائمة على المركب الديني المستندة إلى تغيير المجتمع والتي تبدأ بتغيير الإنسان..

إلى هنا انتهى كلام الدكتور الفنيش، وقمنا إلى صلاة العشاء..

في الحلقة الثانية والأخيرة سيحدثنا الدكتور عن رسائل بن نبي له، إحداها مهمة جدا ومبكية، وعن المشاكل التي عانى منها بسبب أفكاره وعن موقف حزين جدا حدث له في مؤتمر الشعوب الإفريقية الأسيوية ومواجهاته في جامعة الجزائر وعن ماسينيون ولغز السيد "س".

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.