مؤلفون وكُتاب قرأت لهم واستفدت منهم: الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (1889-1965)
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي-
إمام البلاغة العربية ورائد المقالة الفكرية والأدبية في الجزائر والعالم العربي في العصر الحديث، العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، رفيق درب الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله وقرينه في بناء النهضة الإصلاحية الجزائرية الحديثة وخليفته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
قرأت كل مقالاته وخطبه المجموعة في آثاره، كما قرأت الكثير مما كتب عنه من مؤلفات ورسائل جامعية وبحوث أكاديمية ومقالات في المجلات والجرائد، وكتبتُ عنه عدة بحوث ومقالات.
أول ما التقيت به قارئا لتراثه الفكري، كان مع كتابه "عيون البصائر"، الذي قرأته وأنا تلميذ في المرحلة المتوسطة، لم أفهم منه إلا القليل حينئذ، لكني انبهرت بأسلوب كاتبه ولغته العالية وتفننه في استعمال الألفاظ في التعبير عن المعاني. وهو ما جعلني أهتم بمعرفة سيرة الرجل وأطوار حياته وأعماله، فكان أن وقفت بعد ذلك على مقال نشر في عدد شوال 1404هـ من مجلة "الأمة" القطرية لكاتب مغربي غير معروف اسمه "ابن الريف [البخلاخي امحند]"، بعنوان "العلامة المجاهد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي"، عرف فيه بالشيخ وجهاده العلمي والإصلاحي وتراثه الفكري من شعر ونثر وذكر عددا من مؤلفاته.
اطلعت بعد ذلك على العدد 87 من مجلة "الثقافة" الجزائرية، الصادر في شعبان - رمضان 1405هـ/ مايو - يونيو 1985م، والذي خصص كله للإمام الإبراهيمي، حيث قرأت فيه مقالات لأعلام الفكر والثقافة في الجزائر والعالم العربي، من أمثال محمد حافظ الجمالي، إبراهيم السامرائي، جميل صليبا، محمد الغزالي، عبد الرحمن الجيلالي، عبد المجيد مزيان، عبد الرحمن شيبان، وغيرهم، والذين كتب كل منهم مقالا تحدث فيه عما عرفه عن الإمام وعن نبوغه العلمي والأدبي وتأثيره العميق فيمن عرفوه واتصلوا به وعن جهاد العلمي والعملي.
ومن بين مقالات هذا العدد ذلك المقال المطول الذي سبق للشيخ أن كتبه بقلمه وقدمه لمجمع اللغة العربية بالقاهرة عند انتخابه عضوا فيه سنة 1961م، وأعادت مجلة الثقافة نشره في هذا العدد، وكان بعنوان "خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعملية"، في هذا المقال عرف الشيخ بنفسه تعريفا ضافيا وتحدث عن نشأته وتكوينه وأثر عمه احميدة الإبراهيمي في نبوغه، والكتب التي قرأها وحفظها، وكذا ما مر به من أطوار في حياته وعن أعماله في خدمة الثقافة الجزائرية وفي إعداد الجيل الذي يُرجى منه أن يحرر البلاد وينفع العباد. وتحدث في هذا المقال عن أربعة عشر كتابا أنجزها كاملة لكن زبانية الاستدمار سطوا عليها عندما فتشوا بيته، لما كان خارج الوطن، وذهبوا بها إلى غير رجعة قبل أن يتمكن من تقديمها للطباعة.
لم يبق من تراث الرجل سوى مقالاته التي كان ينشرها في بعض الجرائد الجزائرية أو التي نشرها في بعض المجلات العربية بعد خروجه من الجزائر، وهذه المقالات جمع هو بنفسه جزءا منها ونشره في القاهرة بعنوان "عيون البصائر"، ثم أعيد نشره في المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر، كما نشرت المؤسسة جزءا آخر من مقالاته. وكانت تلك الآثار القليلة نواة البحوث والدراسات التي كتبت عن الرجل خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.
لكن العمل الأكبر الذي خُدمت به آثار الشيخ رحمه الله هو ذلك الذي قام به نجله الوزير الأسبق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بمساعدة الأستاذ محمد الهادي الحسني في جمع ونشر الآثار كاملة في خمسة أجزاء صدرت في طبعتها الأولى سنة 1997 عن دار الغرب الإسلامي في بيروت في حلة قشيبة بعنوان "آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي". وبذلك توفرت الآثار كاملة في عمل واحد، وانتشرت في المعارض والمكتبات وصار بإمكان من شاء أن يحصل عليها.
اشتريت هذه الآثار الكاملة فور صدورها سنة 1997، وانكببت عليها قراءة وتفهما وتعلما، واستطعت من خلال ذلك أن أكون نظرة شاملة على اهتمامات الإمام الإبراهيمي وطريقته في معالجة القضايا وأسلوبه في تحليلها. وهو ما مكنني من كتابة عدة بحوث ومقالات عنه في مناسبات مختلفة.
وقد وجدت فيها التنوع والثراء الذي يمتع العقل ويشبع الوجدان ويثري المعرفة، فهي مزيج عجيب من اللغة، والتاريخ، والحكمة، والرأي، والتوجيه، والنقد، والتقييم.
إن آثار الإمام الإبراهيمي رحمه الله تمثل بحد ذاتها مدرسة رائدة في اللغة والأدب والفكر والثقافة يندر أن تجود الأيام بمثلها، وإذا كان لي أن أصف معالم هذه المدرسة، فلن أجد أفضل من وصف أستاذنا الدكتور عبد الرزاق قسوم في تقديمه للجزء الثالث من الآثار "عيون البصائر" [ص: 5]، حيث قال في وصف هذه المدرسة: "إنها مدرسة، ذات (أسلوبية) قلَّ مثيلها في منهجية خطابنا العربي المرسل؛ فهي تضرب بجذورها في أعماق التراث العربي القديم، في الوقت الذي تبسط فيه أغصانها المتعددة على فروع المعرفة الحديثة. وهي نسج فريد من الأدب يجمع بين حكمة قُسِّ ابْنِ سَاعِدَةَ الأيَادي، وفصاحة سَحْبَانَ، وَعَقْلانيَّة أبي عُثمان الجاحظ، وإشارات أبي حَيَّان التوحيدي، إلى جانب رشاقة أسلوب عبد الحميد الكاتب، وأناقة عبارة أحمد حَسَن الزيات، ورمزية مصطفى صادق الرَّافعي. غير أنها تزيد على ذلك كله، بخصوصيات أخرى هي أنها جزائرية العزيمة في التصدي للاستعمار، ومغاربية الالتزام في الدفاع عن الحرية، وعروبية الانتماء في التأصيل الحضاري، وإسلامية المنهج في علم التصحيح العقدي".
لم أتوقف ولن أتوقف - إن شاء الله - عن قراءة آثار الإمام الإبراهيمي، لأنني أجد نفسي أستفيد منها الجديد في كل مرة، فهي معين لا ينضب من اللغة والأدب والفكر والحكمة الراقية، وإنه لجدير بشبابنا أن يقبلوا عليها قراءة وتفهما وحفظا لنصوص منها، فهي جديرة أن تقويهم من ضعف وتبث في عقولهم الوعي وفي نفوسهم الهمة والعزيمة التي يحتاجونها للنجاح في هذه الحياة.