من تراثنا الثقافي كتاب إعراب الجمل للشيخ نور الدّين عبد القادر بن إبراهيم البسكري

بقلم: محمد بسكر-

الكتاب الذي سأتحدث عنه موضوعه ليس بالجديد، فعلماء اللغة تطرقوا لمسائله وأدرجوه ضمن الأبواب النحوية، وإنما الجديد فيه أنّ الأستاذ نور الدين عبد القادر البسكري أفرده لإعراب الجمل، وحشده بتمارين أنموذجية تسهل على الطالب استيعاب القواعد الواردة فيه. والمؤلفات النحوية التي خصّت لهذا الباب قليلة، وقد أشار الدكتور فخر الدّين قباوة في كتابه ( إعراب الجمل وأشباه الجمل، ص05) لندرتها، فقال:« ولم يخلص له واحدا منهم كتابا مفصلا، يشفي الغليل ويوضح السبيل».

ألفه الشيخ نور الدين سنة 1958م، وأشرفت على طبعه المطبعة الثعالبية بالجزائر، في مرحلة اشتدّت فيها وطأة الاستعمار الفرنسي على الجزائريين، وبدت ملامح التخلص من هيمنته تظهر للعيان بعد قرن ونيف من تدنيسه للوطن، وافتخاره بتمكنه من تغييب البُعد الديني واللّغوي والثقافي عن هوية هذه الأمّة.

وظهور هذا الكتاب المختصّ باللسان العربي وغيره من المؤلفات التي نُشرت في هذه الفترة، يدحض الفرية التي يحلو للبعض ترويجها في الوسط الثقافي من كون الجزائر مقطوعة الأوصال عن بعدها العربي، وأنّ العربية بمتعلقاتها طمست معالمها في هذا البلد، وأنّ الاستعمار الفرنسي - بجحافله من المستشرقين- نخر همّة رجالها في الذَّوْد عن لغتهم وتراثهم، واستطاع العبث بالحرف العربي المتجذر فيهم.

لم يغب عن أذهان علمائنا الاهتمام بالدّراسات اللّغوية والأدبية، نلمس ذلك كلما تصفحنا ترجمة أيِّ شخصية علمية قديمة أو حديثة، فكتب التراجم تنقل لنا أسماء لامعة برزت في مجال اللّغة والنحو والأدب، من أمثال عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي المسيلي (ت405هـ)، صاحب كتاب ( الممتع في علوم الشعر وعمله)، من أهم المجاميع الأدبية في تاريخ الأدب العربي، وأبي الحسين بن عبد المعطي الزواوي (628هـ)، صاحب كتاب ( الدرة الألفية في علم العربية) المعروفة أيضا بالأرجوزة الوجيزة المغربية الملقبة بالدرة الألفية، ومحمد بن الحسن بن علي التميمي القلعي (ت 673هـ) مؤلف ( الموضح في النحو)، وأحمد تقي الدّين بن محمد أبو العباس، المشهور بالشمني ( ت872هـ) مؤلف كتاب ( المنصف من الكلام على مغني ابن هشام )، ويحي بن محمد بن محمد الشاوي (ت1096هـ) صاحب كتاب أصول النحو... وغيرهم، أما العلماء المعاصرون للبسكري، فنذكر منهم: عبد القادر المجاوي، ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، والدكتور محمد بن أبي شنب، ومحمد البشير الإبراهيمي.. وغيرهم.

لمَلَم الدكتور أبو القاسم سعد الله دراسة وافية عن الأستاذ نور الدين عبد القادر البسكري في كتاب سماه "باحث مغمور، نور الدّين عبد القادر، أستاذا وكاتبا ومترجما" فهو أستاذ جمع بين الاطلاع على علوم اللّغة وآدابها، والبحث في التاريخ والتراث، إضافة إلى التحقيق والترجمة من الفرنسية إلى العربية. خريج القسم العالي من مدرسة الجزائر، توظف في القضاء، ثم عُيّن مدرسا في مدينة شرشال سنة 1916م خلفا للسيد حمود حمدان بن الطيب، ثم نُقل إلى المدرسة الثعالبية بالجزائر العاصمة.

يُعد من الأعضاء المشاركين في الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر وشمال إفريقيا، وله إسهامات في الكتابة والتأليف بلغت 23 عملا، نذكر منها : الرسالة الصرفية، والوسيلة لعلم العربية في الصرف والنحو، وأساس العربية لتعليم الحروف الهجائية، إضافة إلى بحوث ومقالات نشرها في مجلات وجرائد مختلفة، من بينها مجلة (هنا الجزائر)، التي تولى تحريرها خلفا للأستاذ البشوشي، وهي مجلة مزدوجة اللّغة تصدر عن محطة الإذاعة، تهتم بالفنّ والمسرح والأدب المشرقي، شاركت أقلام جزائرية كثيرة بالكتابة فيها، كالأستاذ مولود الطياب، وأحمد بن ذياب، وأحمد الأكحل، ومحمد الطاهر فضلاء.

أما كتابه "إعراب الجمل" محل حديثنا، فهو رسالة صغيرة الحجم، تناول فيها قواعد إعراب الجمل مع أمثلة تطبيقية مستقاة من شواهد شعرية، أوردها النحاة في كتبهم، وأضاف إليها أمثلة نثرية، إمعانا في ترسيخ القواعد في ذهنية القارئ.

ويرى الأستاذ نور الدين أنّ علماء النحو قديما لم يفردوا إعراب الجمل بتصانيف خاصّة، وإن كانوا أوردوا أمثلة عنه في كتبهم، كما فعل خالد الأزهري في الباب الأخير من كتابه الأزهرية، حيث جعله لذكر الجمل، ورأى أنّ بعض المؤلفات سميت بذلك، وهي ليست في إعراب الجمل، كجمل الزجاجي، والجمل في النحو للفراهيدي ـ وإنّما أرادوا بذلك « التراكيب التي لا يتوصل الطلبة إلى معرفتها والتعبير عنها إلاّ بتبصرهم لقواعد النحو». وأنّ القدامى من علماء النحو - في الغالب - كانوا يشرحون ويُعربون للطلبة الشواهد مشافهة تجنبا لإطالة المصنّفات، وإذا تعرض شُرّاح الشواهد لإعراب الجمل، فإنّ ذلك يقتصر على الإعراب النحوي لا الإعراب الجملي.

وكتابه يندرج ضمن الشروح التي خُصّصت للشواهد النحوية، مثل: شرح شواهد سيبويه للأعلم الشنتمري (ت476هـ)، وشرح أبيات سيبويه للنحاس (ت338هـ)، وابن القصار في شرح شواهد المقرّب، وأحمد التدميري (ت555هـ) في شرحه لأبيات الجمل للزجاجي، وشي الحلل في شرح شواهد الجمل للشيخ محمد بن يوسف اللبلي الفهري (ت691هـ)، وشرح شواهد المغني للسيوطي (ت911هـ)، وشرح شواهد المغني للدماميني (ت837هـ)، ومحمود بدر الدين العيني (ت855هـ) في شواهده الكبرى، التي سماها المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية، وشواهده الصغرى المسماة فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد...وغيرهم ممن اهتموا بهذا الفن.

لم ينتهج الأستاذ نور الدين طريقتهم في شرح شواهد مصنف بعينه، وإنّما ساق أمثلة شعرية من دواوين الشعر المعروفة، ومن كتب نحوية، كالكتاب لسيبويه، ومغني اللبيب لابن هشام، وخزانة الأدب للبغدادي، وشرح المفصل لابن يعيش، وشرح شافية ابن الحاجب لمحمد بن الطاهر الحسين رضي الدّين الأسترابادي، وشرح شواهد المغني للسيوطي، وموصل الطلاب للأزهري، وشرحه على قواعد الإعراب لابن هشام...وغير ذلك.

يأتي على البيت فينسبه لصاحبه، ويتعرض لتحليله لغويا مع الإشارة إلى معنى الشاهد، ثم يتطرق إلى الإعراب النحوي ويختمه بالإعراب الجملي الذي هو أساس وضعه هذا التأليف، ولا يخلو شرحه من الإشارة لبعض القواعد النحوية، ومحاولة شرحها وتبسيطها، ويستطرد أحيانًا لتوضيح المعاني النحوية، إضافة إلى تركيزه على استجلاء المعاني اللّغوية وتقريبها لذهنية الطلاب بأسلوب راعى فيه السهولة وتجنب الوعورة.

والكتاب بالرغم من ضآلةِ حجمه إلاّ أنّه مشحون بالأمثلة المعربة، والحكايات الطريفة، والومضات التاريخية المليحة، التي منحته نكهة يجد حلاوتها القارئ المتبصر.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.