الأمير عبد القادر القائد الرائد: المزاوجة ما بين مستلزمات السيف ومتطلبات القلم(3)
بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
لقد كادت المهام الاجتماعية والمسؤوليات العسكرية والسياسية التي اضطلع بها الأمير طوال المرحلة الثانية من حياته، بصفته : قائد مقاومة، وزعيم أمة، ومؤسس دولة، أن تشغله عن العناية اللازمة بما تقتضيه عملية الطلب والتحصيل العلمي من استعداد وتفرغ وتأمل واستمرارية، بيد أنه استطاع بعلو همته وقوة شخصيته أن يتغلب على هذه العوائق و الانشغالات، وينجح في أن يجمع في وقت واحد ما بين مستلزمات السيف من (حكمة وشجاعة وإقدام وفروسية )، وبين متطلبات القلم من(ذكاء واجتهاد وحرص وقراءة).
استمرارية التحصيل العلمي : استطاع الأمير- وهو في شيخوخته- في هذه المرحلة الثالثة من حياته أن يواصل ما بدأ به نشاطه في صباه في المرحلة الأولى من طلب العلم والمعرفة، فامتدت بذلك عملية تحصيله العلمي خلال مراحل حياته الثلاث، من طفولته إلى وفاته. وقد استمر الأمير في هذه العملية التكوينية : دارسا ومدرسا ومصنفا، خلال رحلاته وأسفاره في مختلف البلاد التي ارتحل إليها، سواء تلك التي مكث فيها بعض الوقت (الحجاز، العراق، فرنسا، تركيا)، أو تلك التي أقام بها زمنا طويلا (سورية).
لقد عكف الأمير على الدراسة والتأليف، وعلى التدريس لخاصته في فرنسا أثناء سجنه فيها. كما كان له شيء من ذلك أثناء إقامته في جزيرة (بروسة) بتركيا. ثم تفرغ تفرغا يكاد يكون كليا للعكوف على هذه العملية التكوينية السلوكية( دراسة وتدريسا، قراءة وتأليفا، عبادة وتصوفا) طوال إقامته بالشام(1855-1883م). فقد أخذ العلم بسورية عن بعض علمائها، وكان له مع بعضهم الآخر لقاءات وبعض التأثير والتأثر . وقد قام في الوقت ذاته بإعطاء بعض الدروس في بعض العلوم الدينية بالجامع الأموي بدمشق ، وألف في هذه الفترة كتابه (المواقف) في التصوف.
وقد قرأ الأمير خلال مراحل حياته عمن سبق ذكرهم من الشيوخ هذه العلوم الدينية والدنيوية : (التفسير، الحديث، الفقه، التوحيد، التصوف، المنطق، الفلسفة الإسلامية، الفلسفة اليونانية ، الطب، النحو ، الأدب،التاريخ، الجغرافيا، الفلك، الحساب، وغيرها.)
يصور الأمير بعض هذه المعالم من شخصيته العلمية ، فيقول:
فإن شئت علما تلقني خير عالم وفي الروع أخباري غدت توهن القوى
لنا سفن بحر الحديث بها جرى وخاضت فطاب الورد ممن بها ارتـوى
وإن رمت فقه الأصبحي فعج على مجالسنا تـشهد لواء العــنا دوا
وإن شئت نحوا فانحنا تلق ما لـه يذعن البصري زهدا بما روى (ديوانه31)
وقد كان لهذه القراءات الكثيرة والمراجعات المتعددة والكتب المتنوعة والاتصالات العديدة، وما تخلل ذلك من وجوه الاحتكاك والحوار، وتبادل الآراء، الفاعلية الفاعلة على الجانب العلمي في شخصية الأمير، عن طريق توسيع أفق ثقافته، وتعميق دائرة مداركه، وتنويع مجالات معارفه، وتطوير خبراته وتجاربه .
التفرغ للعبادة والتصوف : لقد خلص الأمير في أواخر حياته إلى التفرغ للعبادة والذكر، والتصوف. ويحسن التذكير في هذا المضمار أن جذور الميول الصوفية عند الأمير تعود إلى وقت مبكر من حياته، وتبدأ من أيام طفولته وشبابه ونشأته وتربيته على يدي والده العالم الصوفي، وإلى عهد تلمذته على أيدي بعض الشيوخ من المتصوفة، وإلى لقاءاته وحواراته مع بعض هؤلاء أثناء رحلاته في بعض البلدان التي حل بها، وإلى خلوته في الحجاز، وأثناء سجنه بفرنسا. غير أن هذه النزعة الصوفية عند الأمير قد ازدادت عمقا في وجدانه وازدادت رسوخا في سلوكه أيام إقامته الطويلة بدمشق، واحتكاكه فيها بالمتصوفة من أتباع الشيخ محي الدين بن عربي وأتباع غيره من المتصوفة والمريدين، وبعض شيوخ الطرق في كثير من بيئاتهم، وكان الأمير في هذه الفترة (1862م) قد ارتحل إلى الحجاز فمكث به نحو سنة ونصف السنة، فحج واعتمر للمرة الثالثة، وأخذ العلم وبعض الأوراد وألوان من الذكر وشيء من التصوف عن شيخه العالم الصوفي محمد الفاسي مقدم الطريقة الشاذلية . وقد صور الأمير في قصيدته ( أستاذي الصوفي)-(ديوانه ص 135)- بعض ما يكنه من عواطف ومشاعر نحو شيخه السابق الذكر، وبعض ما غمر صدره مما أخذ عنه من ألوان الوجد والفيوضات وأنواع الذكر والتصوف ، يقول الأمير في هذا المعنى من قصيدته السابقة ، هذه الأبيات :
أمسعود جاء السعد والخير واليسر وولت جيوش النحس ليس لها ذكر
ليالي صدود وانقطـاع وجفـوة وهجران سادات .. فلا ذكر الهجر
أمولاي طال الهجر وانقطع الصبر أمولاي هذا الليل هل بعده فـجر ؟
غياثي من أيدي العداة ومنقـذي منيري مجيري عندما غمني الغمـر
محمد الفاسـي له من محـمـد صـفي الإله الحال والشيم الغـر
ويمكن القول أن هذه الميول الصوفية في حياة الأمير تتوزع على ثلاث مراحل :
1- تغطي المرحلة الأولى المساحة الزمنية لشبابه وكهولته ومدة قيادته للمقاومة الوطنية ( 1820-1847م)، فتشمل بذلك أيام تربيته ونشأته على يد والده ودراسته على يدي طائفة من شيوخه المتصوفة ولقاءاته مع بعض هؤلاء أثناء رحلاته في كثير من البلاد .
2- تستغرق في المرحلة الثانية الميول الصوفية وجدان الأمير وسلوكه طوال السنين الخمسة من أسره بفرنسا ( 1848-1852م).
3- تؤرخ المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته لعكوفه على العبادة والذكر، وتفرغه للزهد والتصوف، من بداية إقامته بدمشق (1855) إلى وفاته بها -رحمه الله - (1883م).
ويمكن أن يلمس المتلقي بكل وضوح هذا التوجه الصوفي في شخصية الأمير من خلال جملة من آثاره، يأتي في مقدمتها اثنان : ديوانه، وكتابه ( المواقف).
وفاتـه : توفي الأمير إلى رحمة الله على الساعة السابعة من مساء يوم الجمعة، ( التاسع عشر من رجب 1300هـ / 24 ماي 1883م).
ومما يحسن التذكير به في هذا الصدد أنه ولد في رجب، وبويع في رجب، وتوفي- رحمه الله - في رجب، عن عمر يناهز 76 سنة، بمسكنه في ضاحية ( دمر) إحدى مصائف مدينة دمشق . وقد صلي عليه في الجامع الأموي، ودفن بجوار ضريح الشيخ محي الدين بن عربي بأعالي شارع الصالحية- حي المهاجرين- على سفح جبل قاسيون.
وقد نقل جثمانه الطاهر من دمشق في غضون شهر( جولييت 1966) إلى أرض وطنه الجزائر، بعد تحريره وتطهيره في (05جولييت 1962) ، فأخذ الأمير مكانه في مقبرة (العالية) بالجزائر العاصمة إلى جانب الذين سقطوا في ساحة الشرف والفداء من شهداء الجزائر المجاهدة عليهم رحمة الله أجمعين ، على امتداد كفاحها في العصر الحديث ، من الثورة الأولى ضد المعتدين الفرنسيين بقيادة المجاهد الأمير، إلى ثورة نوفمبر المظفرة، ثورة النصر والتحرير ...