ذكريات وشهادات محمد حمودة بن ساعي: الشيخ عبد الحميد بن باديس

بقلم: محمد حمودة بن ساعي-

كتب الكثير عن الشيخ عبد الحميد بن باديس، حول شخصه وعلمه ونشاطه، باللغة العربية والفرنسية. ولا ادعي مطلقا أني سأجدد في الموضوع الذي كان محل العديد من الدراسات، والذي كرس له وبشكل خاص البروفيسور عمار طالبي كتابا مميزا في أربعة أجزاء. غير أني أريد ببساطة أن أقدم شهادة خاصة، وأنا استذكر التقدير الذي كان الشيخ يكنه لي. وهي شهادة محملة بالإعجاب والاحترام والوفاء للمثل المقدسة التي خدمناها سويا. 

أثناء بدايات شبابي، وخلال دراستي في المدرسة (التي التحقت بها بعد نجاحي في مسايقة الولوج)، كنت أرافق أحيانا شقيق جدي الذي كلفه والدي برعايتي إلى مسجد سيدي لخظركنا نحضر بعد صلاة العشاء، درس التربية الإسلامية الذي كان الشيخ بن باديس يلقيه أمام العامة من الناس. كنا نستمع باهتمام وفي سكون وخشوع. هكذا بدأت أعرف الشيخ بن باديس الذي كان شقيق جدي يحدثني عنه بخير وثناء. كان رجلا ذا قامة صغيرة وبنية هزيلة ولكن بوجه يشع إيمانا وحزما.

من دروس الشيخ، حفظت في ذاكرتي تعليقا على الأربعين النووية من أحاديث سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وكانت عبارة عن أحكام وقواعد سلوك من حكمة سامية، يسهل حفظها والتي يتعين على المؤمنين الصادقين أن يتأملوها بتمعن. حفظت بعضا منها عن ظهر قلب من مجموعة الإمام النووي المشهور. لقد أحب إلي الإمام بن باديس هذه الأحاديث.

في إحدى الأمسيات، وبقرب ساحة لاغاليت، التقيت بشيخي الموقر ابن العابد وهو في طريقه إلى الزاوية “السنوسية” لسيدي فتح الله، فلامني عن غيابي عن دروسه، بعد أن أصبحت مواظبا لدراسة التوحيد (من رسالة التوحيد الإسلامي). غير أني كنت كثيرا معجبا بدروس الشيخ بن باديس، فأجبته  أني أفضل حضور الدرس الجديد بالنسبة لي، فالأحاديث الأربعين كانت تؤثر في بصورة خاصة لأنها كانت تخاطب إحساسي وكانت تلخص لي في إيجازها ووضوحها الأخلاق الإسلامية. كان الشيخ ابن العابد متفهما ومتسامحا، فابتسم لي وقال : بما أنك تفضل الحديث، فلك ذلك.

بعدها بفترة، في عام 1925، أراد الشيخ بن باديس توسيع نشاطه لتنوير الجماهير الشعبية الغارقة في الجهل والظلام، فأنشأ جريدة “المنتقد”، ثم استتبعها بجريدة “الشهاب”. كنت متعطشا للمعرفة ومنجذبا لكل جديد فكنت أطالعهما بشغف. كان والدي يمنحني المال، فأذهب أحيانا إلى قسنطينة لرؤية الشيخ بمكتبه في شارع أليكسيس لامبير لأطرح عليه أسئلة كانت تراودني. كان يجيبني بلطفه المعهود، ويعطيني شروحات ضافية. بالنسبة لي كانت دروسا حقيقية وكنت استحسن يسرها ودقتها ووضوحها. ويحصل أحيانا أن يقول لي الشيخ وقد كان شديد التدقيق : “ارجع غدا حتى أراجع كتبي”.

في أحد الأيام حررت ردا طويلا على مقال كتبه محمد زركين، وكان طبيب أسنان ومستشارا بلديا بقسنطينة، حيث انتقدت بشدة “سياسة المشاركة” و”سياسة الاندماج” (وهي السياسة التي ستسمح بعلاج مشاكلنا وأمراضنا بحسب العديد من مثقفينا). قدمتها للشيخ بن باديس الذي اطلع عليها بتمعن ثم قال لكاتبه المرحوم أحمد بوشمال وهو يثني علي : “لم أكن أدري أن ضمن شبابنا عقولا قادرة على التفكير  بمثل ما يفكر فيه هذا الشاب”.

غير أن الشيخ، وهو رجل حذرا ويمعن النظر والتدقيق في الأمور قبل اتخاذ قرار بشأنها، قدر أن الوقت لم يكن مناسبا لنشر مثل هذه الدراسة. ثناؤه علي – وقد كانت الدراسة أول كتاباتي باللغة العربية – أثرت في بعمق. ولم أنساه أبدا.

وبعدها أيضا، في أفريل 1929، دعيت للعمل كمحرر ومترجم في جريدة “النجاح” الصادرة باللغة العربية بقسنطينة والتي كان يدريها رجلا متميزا هو الشيح عبد الحفيظ الهاشمي وقد كان الشيخ ابن العابد يكتب فيها. حررت بها تقريرا مطولا لمحاضرة ألقاها الكاتب بيير باراف Pierre Paraf  حول “اليهودية في الأدب الفرنسي”. بقاعة الكازينو وأمام جمهور من رجال متألقين ونساء أنيقات، ألقى بيير باراف، وهو يهودي فرنسي يتحدث بطلاقة، محاضرة جيدة. استمعت له وأنصت، وقدمت خلاصة أمينة ثم قمت، وهذا أمر غير منتظر في صحافة اللغة العربية وقتها، بتقديم العديد من الملاحظات التي أبانت عن تبحر أكيد وعن إدراك أدبي محكم. بالنسبة لقراء النجاح، عد الأمر إبداعا.

المدير سي عبد الحفيظ كان مغتبطا جدا. الناس هنأتني لأسلوبي، فكنت أقول لهم : “هنؤوا أستاذي الشيخ بن العابد، الحاضر هنا. فهو الذي علمني” . تأثر الشيخ الموقر. من جهته، الشيخ بن باديس، الذي كان يسكن بالجوار، إلتقاني شخصيا وهنأني بحرارة. كان محبا للثقافة. بعدها بوقت، نددت السياسة الانتخابية المبنية على الكذب والسمسرة والتدليس، وحررت مقالا مطولا بعنوان مثير : “سراب السياسة والدعوة إلى هداية القرآن”.

كان للمقال أثر وصدى. فتلقيت التهاني من منطقة وهران. بمدينة باتنة، اطلع عليه قاضي المحكمة الشيخ كاتب فأثنى علي. أستاذي ابن العابد كان فخورا بي. الشيخ بن باديس جاء للقائي بالمناسبة. كان وجهه يشع ضياء. لقد ترجمت وبصورة أخاذة أفكاره العميقة حول الموضوع. لم أنس أبدا ازدهاء الشيخ المشع وافتخاره الجلي.

كان يحب القرآن الكريم الذي فسره خلال ربع قرن بطريقة فذة. كان الشيخ يتبع فيه أستاذه الشيخ رشيد رضا الذي تتلمذ بدوره على يد الشيخ محمد عبدو.

في أحد الأيام، جاءني الشيخ بـ”القرآن المفسر” لمحمد فريد وجدي، والظاهر أنه أراد أن يشجعني، فأعارنيه. احتفظت به حوالي ثلاثة أشهر ودونت العديد من الملاحظات والمعلومات. وفي يوم آخر، وبينما كنت أتحدث مع الشيخ بمكتبه (لأني كنت غالبا ما أزوره)، حدثته عن بيتهوفن، الملحن الموسيقي العبقري الألماني، فقل لي بأنه يعرفه. فحدثته كذلك عن سقراط. فقل لي إنه “أستاذ الحكماء”. لا يمكن أن نسدي تحية أفضل لأستاذ أرسطو وأفلاطون. كانت للشيخ، وهو البادي بمظهر المنشغل بالدراسات الدينية، نظرات واسعة وجامعة. كان من طينة كبار الإنسانيين الغربيين، الذين كانوا يترفعون عن أنواع العصبيات، ويسعون إلى خير الإنسانية برمتها.

استدعاني والدي إلى مدينة باتنة، وتقرر ذهابي إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك. وإني لأذكر دوما النصيحة الحكيمة للشيخ للطلبة الشباب : “ابذلوا الجهود لجمع العلوم والمعارف، ولا تهتموا كثيرا بالدبلومات والايجازات فهي لا تعدو أن تكون مجرد “شهادات” (témoignages) يمكن أن تحرموا منها”.

بباريس، دأب الشيخ، وعلى مدار سنتين، على موافاتي بانتظام مجلة “الشهاب” إضافة إلى المطبوعات الدورية التي تصدرها جمعية العلماء. بعد فترة من خضوعي لعملية جراحية بمستشفى لاشاريتي في ماي 1937، أرسل لي الشيخ بن باديس رسالة بخط يده،  دعاني فيها للانضمام إلى جمعية العلماء، فأجبته أني لا استطيع أن أنخرط فيها، غير أني أبقى وفيا بكل قوة للمثل التي من أجلها أنشئت. وكانت لي أسباب في موقفي هذا. درس والدي، خلال فترة شبابه، باللغة العربية بمساعدة الزوايا في منطقة الأوراس (حيث كان الناس يتعلمون القرآن الكريم) وقسنطينة  وتبسة، وهي الزوايا التي احتفظ لها بالعرفان والجميل. يجب أن أراعي مشاعر والدي من هذه الناحية. جمعية العلماء المسلمين التي قبلت في بداياتها ودون تحفظ أعضاء من الزوايا، غيرت فيما بعد من موقفها هذا تجاههم. ومن هنا، حدث شرخ كبير وحصلت انقسامات بين المؤمنين الذين من المفروض أن يتحدوا أخويا. لقد نسينا للأسف النصيحة البالغة للشيح محمد رضا : “فلنتحد فيما نتفق فيه وليعذر بعضنا بعضا فيما نختلف فيه”.

في عام 1936، وبعد فوز الجبهة الشعبية في الانتخابات بفرنسا – وهي الجبهة التي ستخيب بمرارة آمال المسلمين الجزائريين – قدم وفد من المنتخبين الممثلين لـ”المؤتمر الإسلامي الجزائري” وبمشاركة العلماء، وقدم جملة من المطالب التي تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار. في النزل الكبير (Grand Hôtel) ، قرب ساحة الأوبيرا، رأيت الشيخ بن باديس برفقة الشيخ العقبي والشيخ الإبراهيمي. التقيته مرة أخرى بمقهى “الهقار”، وهو مقهى بطراز شرقي كان الطلبة الشباب يرتادونه لوجوده في قلب الحي اللاتيني. بالمقهى قدمت له زملاء من مصر كانوا يحضرون لأطروحات الدكتوراه في القانون. فرح بلقاء مثقفين شباب عرب (وكان من بينهم مصطفى كمال، الذي سيصبح فيما بعد سفيرا للجمهورية العربة المتحدة بواشنطون) وقد حبسنا لمدة ساعة تقريبا بسحر بيانه، فرحت بسماعه وكان زملائي المصريين يستمعون بخشوع، ولم يكونوا ينتظرون أن يلتقوا شيخا من هذا الطراز.

لم أنس كذلك أن الشيخ بن باديس قد انتهى إلى علمه أني اشتغلت عاملا بسيطا بمصنع هيسبانو-سويزا، في صيف 1935، فدمعت عيناه. وقال للطالب الذي حدثه عني : لماذا لم يكاتبني، فلدينا صندوقا لمساعدة الطلبة الفقراء”.

لم ينل الوفد الجزائري شيئا من حكومة الجبهة الشعبية التي كان يقودها ليون بلوم، فعادت بخفي حنين إلى الجزائر. فهم الشيخ وهو مغتاظ أن اشتراكية الجبهة الشعبية لم تكن إلا سرابا خادعا وأن الاستعمار الفرنسي أصبح شرسا أكثر من أي وقت مضى، وأصبح أصما لنداءات الانسانية والعقل، فكتب مقالا رائعا بعنوان مثير : “فلنتكل على الله ولنعول على أنفسنا”.

لم أره حيا بعدها أبدا. خمسة عشر يوما قبل وفاته، ذكرني بهذه العبارات (التي رواها لي مساعده الوفي الشيخ عبد الحفيظ الجنان) : “إنه أفضل شباننا الذين درسوا في فرنسا”. بعد وفاته، يوم 16 افريل 1940، ذهبت لقسنطينة لحضور جنازته. وقفت بخشوع أمام جثمانه ونظرت مطولا إلى وجهه لقراءة آخر أفكاره وتأملاته. وجه هزيلا، بحاجبين مستقيمين، لمحت تقاسيم  عزم يتحدى المحن. كان آخر درس تلقيناه منه : “كافحوا دوما واثبتوا ولا تستسلموا أمام قوى الشر والكذب”.

 

* باتنة يوم 20 أوت 1984 الموافق لــ 23 ذو القعدة 1404.

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.