كيف كانت جمعية العلماء الجزائريين تستقبل المولد النبوي؟

بقلم: أ.د. مولود عويمر-

يحتفل المسلمون في هذه الأيام في كل أنحاء العالم بالمولد النبوي الشريف. وجدير بنا في هذه الذكرى أن نحاول إلقاء الضوء على تاريخها، وأن نستوحي من دروس السيرة النبوية دليلا على العمل في واقعنا الراهن وفي المستقبل حتى نرتقي إلى مستواها قدر الإمكان، نجسد قيمها الإنسانية ونحقق أهدافها السامية. متى بدأ الاحتفال بالمولد في المغرب العربي؟ كيف احتفل الجزائريون به؟ كيف تعاملت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع هذه العادة الدينية والاجتماعية؟ هل كتب رجال الإصلاح عن السيرة النبوية؟

شيء من التاريخ القديم

ظهرت عادة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في نهاية القرن السابع بأربل شرقا. وانتقلت بعد ذلك إلى المغرب العربي عن طريق مدينة سبة في نهاية حكم الموحدين على يد الفقيه أبي العباس العزفي، ثم انتشرت في باقي العالم الإسلامي.

وفي سنة 691 هـ أصدر السلطان الناصر لدين الله أبو يعقوب المريني أوامر سلطانية جعل إثرها المولد النبوي الشريف عيدا رسميا كعيد الأضحى والفطر، ويعاقب كل من يمتنع عن ذلك. ومن سبة انتقلت الاحتفالية إلى كل المدن المغربية واستمرت إلى اليوم دون انقطاع رغم كل ما أصاب بلاد المغرب العربي من اضطرابات سياسية وصراعات وحروب انتهت باحتلال كل دوله واستعمارها من طرف فرنسا لفترة طويلة. والسبب في استمرارية هذه العادة هو حب المغاربة للنبي (ص) وتعظيمهم له.

وحرص الجزائريون كغيرهم من الشعوب الإسلامية على الاحتفال بذكرى النبي الأكرم على طريقتهم الخاصة، لخصها المؤرخ محمد بن عمار المتوفى سنة 1196 هـ حينما كتب في مؤلفه “نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب” ما يلي: ” وقد جرت عادة أهل بلادنا الجزائر …أنه إذا دخل شهر ربيع الأول انبرى من أدبائها وشعرائها من إليه الإشارة وعليه المعول، إلى نظم القصائد المديحيات والموشحات النبويات، ويلحنونها على طريق الموسيقى بالألحان المعجبة، ويقرؤونها بالأصوات المطربة، ويصدعون بها في المحافل العظيمة، والمجامع المحفوفة بالفضلاء والرؤساء والنظيمة، من المساجد والمكاتب والمزارات، وهم في أكمل زينة وأجمل زي وأحسن شارات، تعظيما لهذا الموسم الذي شرف به الإسلام، واحتفالا بمولده عليه الصلاة والسلام.”

الجمعية تحتفل بالمولد

وهكذا كان الحال في الإسراف في الحفل والأكل واللباس والعادات السيئة إلا أن جاءت الحركة الإصلاحية بزعامة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتعيد هذه المناسبة إلى أحضان السنة الحسنة. وقال في هذا السياق الشيخ مبارك الميلي: ” ومنذ ظهور الحركة الإصلاحية بوطننا أخذت الاحتفالات المولدية شكلا حسنا إذ ينتهز المصلحون فرصتها لبث المبادئ الإسلامية النقية والحث على مكارم الأخلاق وضرب الأمثال من سيرته عليه الصلاة والسلام، ثم الترغيب في العلم وتهذيب النشء وتقديم طائفة من صغار التلاميذ يقومون بأناشيد أو يخطبون في حياته (ص).”

وهنا تنبع ضرورة الالتزام بالواجبات والقواعد، فلا يكون الاحتفال مقبولا إلا إذا توفرت فيه عدة شروط، وتحققت من ورائه أهداف سامية وتطلعات راقية، وهي: ” أن يكون هذا الاحتفال أفضل الاحتفالات في مظهره وفي جوهره وفي ثمرته. فلا يظهر فيه إلا ما يؤيد ما جاء به هذا المولود الكريم من دين قويم. ولا يكون الداعي إليه إلا تعظيم هذا المولود العظيم وإظهار محبته. ولا تكون فائدته إلا تقوية الشعور بحسن طريقته واستقامة سنته واعتماد سلوك محجته.”

لهذا كله انتشر الاحتفال في مدارس جمعية العلماء ونواديها في كل أرجاء الجزائر شرقا وغربا وفي المهجر (فرنسا وتونس) لتشجيع التلاميذ على المشاركة فيها بأداء الأناشيد وإلقاء الخطب وتمثيل مسرحيات هادفة. وتحرص جريدة البصائر ومجلة الشهاب على نشر تقارير حول هذه التظاهرات.

وبكل تأكيد لا يمكننا أن نذكر هنا كل هذه النشاطات. وإنما نشير فقط إلى أنشط هذه المدارس الحرة التي لا تكتف بإقامة الحفلات النبوية وإنما تبدع في أعمالها، وتحرص على تعريف أشغالها عبر صحافة جمعية العلماء. ولا شك أن للمشرفين عليها من رجال التعليم والتربية دور بالغ في ذلك. وهذه المدارس والنوادي النموذجية هي: مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة (ابن باديس)، مدرسة الشبيبة الإسلامية بالجزائر العاصمة (الطيب العقبي ومحمد العيد)، مدرسة تهذيب البنين بالتبسة (العربي التبسي)، مدرسة التربية والتعليم بباتنة (محمد الحسن فضلاء)، مدرسة الإصلاح ببجاية (الهادي الزروقي)، مدرسة ابن خلدون بالأصنام (الجيلالي الفارسي)، مدرسة الشبيبة بتيزي وزو (حسن حموتن)، جمعية التربية والتعليم بتيارت (محمد الصالح بن عتيق)، معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة (أحمد رضا حوحو وعبد الرحمان شيبان) ونوادي التهذيب بفرنسا (الفضيل الورتلاني، سعيد البيباني…) كما تبيّن ذلك هذه الصورة.

وإن ما يلفت النظر في هذا الشأن، هو اختيار الشيخ عبد الحميد بن باديس مدينة بجاية للاحتفال بالمولد النبوي في عامين متتاليين، 1938 و1939 وذلك لأهميتها التاريخية ومساندة الحركة الإصلاحية فيها التي كانت تتعرض لمضايقات كثيرة ومنها اعتقال رجالها وعلى رأسهم الشيخ الهادي الزروقي.

وبداية من عام 1935، دعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أعضاءها وأنصارها إلى الاقتصاد وعدم الإسراف في الاحتفال لتوجه الأموال إلى تسديد نفقات المدارس والمعلمين، وتحويل الأموال نحو مشاريع تربوية واجتماعية مفيدة.

تراث في السيرة النبوية

وكانت تتهاطل المقالات الواصفة لذكرى المولد في كافة أنحاء الوطن على إدارة جريدة البصائر، غير أن هذه الأخيرة تعتذر مرارا عن عدم قدرتها على نشر كل المادة التي تصلها لأسباب عديدة، ولهذا تنشر بعضها، وتكتفي بالإشارة إلى البقية.

كما ظهرت في صحافة الجمعية مقالات عديدة في السيرة النبوية، وهي وقفات للتأمل واستلهام العبر، وإحياء السنة وتطهير رسالته الخالدة من البدع والضلالات، وتفعيل القيم السامية التي تتضمنها سيرة الرسول (ص) ليتمكن الإنسان المسلم من تجاوز حالة الضعف والوهن التي يعيش فيها. وكان من أبرز من كتب في هذا الموضوع: عبد الحميد بن باديس، مبارك الميلي، باعزيز بن عمر، فرحات الدراجي، محمد الغسيري، أحمد أبو زيد قصيبة، محمد الشبوكي…الخ

وعكف الشيخ عبد الوهاب بن منصور مدير مدرسة عبد المؤمن بن علي بندرومة على تأليف كتاب ” المولديات في الأدب المغربي” بين عامي 1948 و1950. ونشره في 6 حلقات في جريدة البصائر بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف لعام 1369 ه الموافق لـعام 1950 م. واستند في كتابته على مجموعة من المصادر الإسلامية منها تاريخ العبر لابن خلدون، “النفح الطيب…” للمقري، و”وفيات الأعيان” لأبن خلكان، و”المعيار…” للونشريسي، و”التنوير في مولد السراج المنير” لأبي الخطاب بن دحية، “الدر العقيان…” لأبي عبد الله التنسي…الخ.

وتتبع الشيخ ابن منصور من خلال دراسته النفيسة تاريخ عيد المولد، وبداياته في المشرق العربي، ثم بيّن كيف دخل إلى بلاد المغرب العربي. ووصف حفاوة أهله به. وتطرق أيضا للجدال الكبير الذي قام حول الحكم الشرعي في هذه الاحتفالية. ولخصه بن منصور في 3 آراء، وهي: المادح المؤيد، القادح المندد، والمعتدل غير المتشدد. وأشار إلى حجج كل من هؤلاء، وينظم هو في الأخير إلى الرأي المعتدل الذي يستحسن هذه العادة بشرط أن تبقى دائما في حدود المباح والحلال وبعيدة عن البدع والمحرمات.

كما نظم الشعراء المصلحون قصائد كثيرة في مدح النبي (ص) والدعوة إلى الاقتداء بسيرته العطرة. وكان من أبرزهم: محمد العيد، جلول بدوي، الربيع بوشامة، مبارك جلواح، عبد الكريم العقون، حسن حموتن، عبد القادر السائحي، وأحمد سحنون.

ولا بأس أن ننقل هنا للقارئ الأبيات الأخيرة من قصيدة هذا الأخير التي هي دعوة للاستفادة من سيرة المصطفى (ص)، وتفعيل همة المسلم لاستعادة دوره في الحياة، وهي قيم وتوجيهات نحن في أمس الحاجة إليها ونحن نستقبل هذا الأسبوع المولد النبوي الشريف:

يا قوم هبوا كفاكم طول نومكم            إلى العلا إنكم أتباع خير نبي

واسترجعوا مجد آباء لكم سلفوا           فالمجد لا يبتنى باللهو واللعب

والقول ليس بمجد قدر أنملة               فأيدوا قولكم بالجد والدأب

وفي مجال المسرح والقصة، ألف الأستاذ محمد الصالح رمضان رواية مسرحية قصيرة عنوانها ” مواقف الطفولة في الهجرة النبوية”. وهي في سبعة مشاهد، تناولت حوارا في بيت أبي بكر الصديق، شاركه فيه أبناؤه وخادمه عامر. وهي تنتهي بنشيد يتكوّن من16 بيتا. كما ألف الأستاذ رمضان قصة أخرى عنوانها “الوليد السعيد” تحدث فيها عن حياة الرسول (ص) في بيت مرضعته حليمة السعدية.

وفي مجال الأدب دائما نشير أيضا إلى قصة طريفة عنوانها “في ليلة الميلاد” لحسين قوايمية. وهي تمثل حوارا بين نجمة وملك وهما مسافران في رحلة فضائية عبر الزمن للاطلاع عن أحوال الناس قبل ميلاد النبي (ص) الذي أشرقت بنوره الشمس في الكون.

ولم تتوقف جريدة البصائر على نشر إنتاج المصلحين في حقل السيرة النبوية، بل نشرت فصلا من كتاب “الشاب الجزائري” للزعيم السياسي فرحات عباس بعد أن ترجمه إلى العربية الأستاذ المصلح الصديق السعدي. وتناولت هذه المقالات الثلاثة ردا سديدا على أحقاد المستشرقين الفرنسيين على النبي (ص).

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن جمعية العلماء استغلت كما يجب هذا الحدث لترويج أفكارها الإصلاحية، والدعوة إلى العودة إلى الدين الصحيح ليس بالقضاء على العادات والأعراف التي تمسك بها الناس، وإنما بتهذيبها وتقويمها والاستفادة منها في تعميق الإيمان وتفعيل العمل الصالح، خاصة وأن الإدارة الاستعمارية ضيقت كل مسالك الاتصال بين رجال الإصلاح والعامة بعد صدور قرار 8 مارس 1938، والذي بقي مطبقا في الجزائر خلال فترة الاحتلال. لذلك، منع عدد من المعلمين من تنظيم الاحتفال بالمولد في مدارسهم الحرة.

إن ما يجب ملاحظته في نهاية هذا المقال هو أن المولد النبوي الشريف لعام 1374 هـ / 1954 م تزامن مع الأسبوع الأول لانطلاق الثورة الجزائرية، لذلك لم تنظم جمعية العلماء احتفالات لتخليد ذكرى ميلاد الرسول (ص)، في تلك السنة، وفي السنوات اللاحقة.

ولاشك أن هذا الموقف يثبت انخراط معنوي مبكر لمعلمي مدارس جمعية العلماء وطلبتها في الثورة التحريرية التي لا يمكن لها أن تنتصر على الإمبراطورية الفرنسية ومن معها إلا بتضحية كل الجزائريين، وتبعه بعد ذلك انخراط شامل لرجال الجمعية في جيش التحرير والمؤسسات السياسية لثورة التحرير.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.