
الشيخ المجاهد محمد الصالح الصدّيق: عُيِّنت مسؤولا يوم انطلاق الثورة وعشت قصة غريبة مع الرقم 19
حاوره: رشيد كعبوب-
يُعدّ الشيخ الجليل والمجاهد محمد الصالح الصديق علَما وقلما وقامة وطنية مشهود له بالعلم والورع والجهاد المستميت. تعلّم في جامع الزيتونة، وعاد إلى بلدته يدرّس ويزرع الوعي الوطني. زارته «المساء» بمنزله في العاصمة، ليحدثنا عن مسيرته الحافلة بالبطولات والمغامرات خلال الثورة التحريرية ورحلات طلب العلم، وكان قدره أن يتم تعيينه يوم أول نوفمبر 1954 مسوؤلا عن المالية والسلاح، متوسمين فيه العلم والقوة والأمانة.
قبل أن تندلع الثورة، أين كان الشيخ محمد الصالح الصديق؟ وماذا كان يعمل؟
عندما أنهيت دراستي في جامع الزيتونة بتونس عام 1951 عدت إلى بلدتي بمنطقة أعزازقة بولاية تيزي وزو، ولما سمع الطلبة الذين درسوا معي في زاوية اليلولي بعودتي وحصولي على شهادة عالية، واقترحوا عليّ أن أكون أستاذا بالزاوية التي كانت تسمى «معهد اليلولي»، وهو ما حصل فعلا، حيث درّستُ حتى بداية الثورة، فكنت أدرس مختلف المواد الشرعية والعلوم الأخرى، وأنشّط محاضرة كل خميس بين صلاتي المغرب والعشاء حول الأخلاق والآداب والعلوم والأمور الاجتماعية، ولكني كنت أركز على الجانب السياسي والاستعمار الفرنسي، وكيف سلب الأرض وفسخ العقول ولعب بالدين، وكنت أذكّر الطلبة بجرائم الاستعمار وأزرع في نفوسهم الروح الوطنية.
وكيف انضممت للثورة؟
كان الطلبة الذي يدرسون عندي بالمعهد يسردون لآبائهم وذويهم ما كانوا يسمعونه ويتلقونه خلال المحاضرات الأسبوعية، ويقولون لهم إنّ الشيخ الذي يدرّسهم سياسي وطنيّ، مما جعل الخبر يصل إلى ثلاثة رجال من المنطقة محكوم عليهم بالإعدام التحقوا بالجبل، وهم كريم بلقاسم، الشريف ذبيح والعقيد أوعمران. وعندما اندلعت الثورة يوم الإثنين أول نوفمبر 1954 على الساعة صفر تم تعييني في نفس اليوم عند العاشرة صباحا، مسؤولا عن المالية والأسلحة. ونصحني كريم بلقاسم يوم تعينني على رأس هذه المهمة الصعبة، بأن أبقى أمارس التعليم في زاوية أو معهد اليلولي، كغطاء كي لا تعرف سلطات الاستعمار أنني من أفراد الثورة.
كيف كنت تجمع المال والسلاح وأنت مدرّس بزاوية اليلولي؟
كنت أستهدف خاصة مواطني القرى الذين يملكون أسلحة أو أموالا، وكنت أدعوهم إلى الزاوية، وعندما يأتيني أحدهم أجلس وأمامي المصحف الشريف، وأسأله هل أنت جزائري، مسلم وطني؟ ثم أطلب منه أن يضع يده على المصحف ويقسم بالله بأن يبقى الكلام الدائر بيننا سرا لا يعلمه إلا الله، فكان بعضهم يرتجف وهو يقسم واضعا يده على المصحف، وكنت أطلب من صاحب السلاح أن يختار بين بيع سلاحه أو منحه للمجاهدين، فكانوا يتبرعون بها للثورة بدون مقابل. أما أصحاب المال فكانوا يدعمون الثورة بالمال وغيره، وواصلت هذا النشاط إلى أن كشفت فرنسا أمري.
كيف سمعت فرنسا بانضمامك للثورة؟
بعد ثمانية أشهر من انطلاق الثورة المظفرة وقعت وشاية ضدي، وأبلغوا المستعمر بأنني منخرط في الثورة، فترصد تحركاتي وتنقلي بين الزاوية والمنزل، حيث تم إيقافي ثلاث مرات؛ مرة بمدينة فريحة ومرتين في منطقة أغريب، فتم تفتيشي ومساءلتي من طرف العسكر في المرة الأولى بطريقة عادية، أما في المرتين الثانية والثالثة فـ «عصروني» بشكل كبير. كنت لا أتقن الفرنسية، وكان هناك مترجم يعمل لصالح فرنسا، يقوم بترجمة كل ما أجيب عليه. كان يحترمني، وكان العقيد يستدرجني ويواجهني بأخبار عني كلها صحيحة، ولكني كنت أنكر كل شيء في الأخير، مما جعل الضابط الفرنسي في المرة الثالثة، ينزل من المركبة العسكرية بحاجز أمني أوقفت به، وحينها قال لي المترجم العميل: «هيَّ شهّد؛ لأنك ستُقتل؛ فالعقيد سيحضر مسدسا». مشى العقيد قليلا، وعندما رجع إليّ جاء بكتاب «مقاصد القرآن» وهو من تأليفي، وواجهني بالقول: «من يكتب كتابا مثل هذا لا يمكن أن يكون خارج الثورة..»، ثم أطلق سراحي.
وماذا فعلت بعدها؟
اتصلت بكريم بلقاسم وقلت له سوف يقتلونني أو يضعونني في السجن، حينها نصحني بأن ألزم الدار ولا أخرج. مكثت مدة 19 يوما. وجاء بعدها أمر بأن أسافر إلى مصر عن طريق فرنسا. وفي تلك الظروف كان قتل المجاهدون شابا من اعزازقة كان ضد الثورة ويعمل مع فرنسا يشبهني تماما، لكن الفرق بيني وبينه أنه يطلق اللحية وأنا أحلقها. أمروني بأن أطلق اللحية وأصبحت أشبه الشاب المقتول تماما، وأعطتني الجبهة بطاقة هويته، وعيّنوا لي شخصا يجيد اللغة الفرنسية كي يكون مرافقي في فرنسا يدعى «سعيد تليوة»... توكلنا على الله وسافرنا إلى فرنسا، وما حيّرني في هذه المهمة هو الذكاء الخارق الذي كان يتمتع به قادة الثورة من خلال الخطة المحكمة التي اعتمدوها لتمكيني من عبور فرنسا نحو مصر في أريحية وأمن. وكان هناك شخص في فرنسا يسمى «علي البسكري» من القرية، تزوج بفرنسية منذ 30 سنة وليس له أولاد، وكانت زوجته تكره الجزائريين كثيرا، أما زوجها فكان وطنيا حقا.
ولماذا بعثوا بك إلى هذه العائلة التي تجمع بين المتناقضين؟
تلك هي حكمة جبهة التحرير الوطني، حيث أرسلت إلى تلك المرأة وهي تعمل في بنك، وقالوا لها إن هناك شابا خدم فرنسا خدمة جليلة نأتي به إليك كي تخبئيه وهو أنا، وذهبوا إلى زوجها الجزائري وأخبروه بأن هناك شابا مسؤولا في الثورة سوف يُقتل، سنأتي به إليك كي تخبئه. ذهبت مع السيد تليوة إلى فرنسا وفي بيته مكثنا 19 يوما، أمور غريبة جدا حدثت لي يا أخي! نزلنا في أكبر فندق وهو سترانديد بشارع «شونزيليزي» لا يؤمه إلا الفرنسيون. قضينا ثلاثة أيام، كان المبيت في هذا الفندق بـ 120 دينارا لليلة الواحدة، وكانت جبهة التحرير هي التي تدفع الثمن من أجلي. كانت المرأة كلما عادت من عملها تأتيني بكيس من مختلف الحلويات وهي فرحة، تقول لي: «خذ هذه الحلويات؛ لأنك ابن فرنسا..». ولا أنسى عندما جاءت يوم الأحد الذي لا تعمل فيه وكانت تتحدث مع زوجها، وكنت أنا أقضم أظافري وأفكر في مصيري، لأني لا أدري كيف سيكون، وراحت تنظر إليّ وتقول لي: «لا تخف، لا توجد هنا جبهة التحرير.. هنا فقط فرنسا» بينما في الحقيقة أنا كنت خائفا من الفرنسيين.
وكيف التقيت بالنقيض الآخر.. علي البسكري؟
في اليوم الرابع أخذوني عند هذا الرجل، قضينا عنده أيضا 19 يوما؛ تلاحظ إذاً تكرار الرقم 19، كنت كلما أتذكر ذلك أضحك مع نفسي، ثم جاء أحد من الجبهة وأخبرني بأنه في الغد على الساعة الفلانية يجب أن أكون في المطار، من ثم توجهت إلى مصر، ومنها إلى تونس حيث التقيت المجاهد المرحوم أحمد محساس الذي عينني محررا بجريدة «المقاومة»، وهي اللسان الرسمي لثورة التحرير، فكنت أعمل مع لمين بشيشي، عبد الرحمان شيبان، الدكتور عبد الله شريط، ومحمد الميلي وآخرين. وبعد عامين من العمل، عُيِّنت مرشدا سياسيا مع المجاهدين على الحدود الليبية الجزائرية في مكان يقال له «الغاط» بالقرب من جانت، التي كان المجاهدون يرابطون بها لمدة 5 أشهر، وكنت أنا مرشدا سياسيا ألقي يوميا محاضرة بين المغرب والعشاء، وكان من بين المرابطين طلبة كانوا يدرسون في القاهرة وأطباء، ومن الطلبة أذكر محيي الدين عميمور.
بعد انتهاء الأشهر الخمسة كيف استمرت المسيرة؟
تمّ توزيعنا بين تونس والجزائر، أما أنا فقد عُينت مسؤولا عن الإعلام في الثورة التحريرية في ليبيا، وكان عملي يقوم على ثلاثة أمور؛ تقديم أخبار «صوت الجزائر»عبر الإذاعة ثلاثة مرات في الأسبوع، فيه الأنباء الحربية والتعليق السياسي. الأنباء الحربية نعطيها لبعض المثقفين، منهم عبد الحفيظ أمقران. وكنت أكلف المجاهد محمد عباس بتقديم الأخبار. كما كنت أشتغل بالكتابة في الصحافة المكتوبة، إذ كنت أكتب تقريبا كل يوم مقالا في الصحافة منها جريدة «طرابلس الغرب»،«الطليعة» و«البرلمان»، وثالثا كنت ألقي محاضرات في المركز الثقافي المصري بطرابلس إلى غاية 19 مارس 1962 تاريخ وقف إطلاق النار.
ما الكلمة التي تقولها لشباب اليوم؟
أخي العزيز.. مهما خدمت أنا الثورة لكن الذين ضحوا بأنفسهم من الشهداء الذين تركوا أزواجهم وأولادهم من أجلي ومن أجلك، هم الأكثر تضحية، فبفضلهم نحن أحياء اليوم.. عار علينا أن نضيّع الحرية أو نلطّخها.. فعوض أن يحمل كل شاب بين جنبيه الوطنية الصادقة التي تدفعه لأن يحافظ ويكون وفيا لهؤلاء الشهداء.. نجده، مع الأسف، «ضياعا في ضياع»! وعلى الشاب الجزائري أن يعرف تاريخ بلاده ومن ضحى من أجلها، يجب أن يكون في المستوى، وأن يحافظ، وأن يكون بانيا لا هادما وأن يكون مزيّنا لا مقبّحا... وإنني أستغرب من هؤلاء الناس الذين يذهبون إلى بلدان أخرى علّهم يجدون هناك حياة هنيئة ويتركون بلدهم!.. أنا أقول للشباب: كان عليَّ أن أصلي يوميا ركعتين لا لشيء سوى لأنني جزائري. نحن لا نعرف قيمة بلادنا! قد يقول قائلون: «هل هناك من يكره نفسه؟»، نعم الإنسان الذي يكره وطنه لا يحب نفسه، والإنسان الذي يسرق لا يحب نفسه؛ لأنه يدخل السجن؛ على الشاب الجزائري أن يكون عنصرا حيا في المجتمع، مصباحا مضيئا.
- عن جريدة المساء