الإمام الرئيس محمد البشير الإبراهيمي من خلال شعر محمد العيد آل خليفة – 2
بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
سبق القول أن لمحمد العيد شعرا وافرا في الإشادة بجهود الإمام الإبراهيمي ومواقفه في خدمة الوطن والأمة ، وقد تمتعنا في هذا المضمار برائعته في (دار الحديث) ، وله في هذه المدرسة قصيدة ثانية وهي بعنوان (دعاك الأمل) ديوانه ص 133. وقد نظمها في اليوم الثاني للاحتفال بتدشين هذه الدار (28 سبتمبر 1937)، ذلك اليوم التاريخي المشهود من يوميات التعليم العربي الحر في الجزائر .
وغني عن البيان أنه ليس من اليسير أن ينظم الشاعر قصيدتين اثنتين في يومين متتاليين، تخليدا لموضوع واحد، إلا إذا كان ذلك الموضوع متصلا بقلبه، نابعا من وجدانه ، وكذلك كان موضوع تلكما القصيدتين متصلا بقلب محمد العيد، نابعا من وجدانه ، وذلك لاتصال هاتين القصيدتين الاثنتين بدار الحديث، ومؤسس دار الحديث ..
وأما ثالث عمل لمحمد العيد في الإمام الإبراهيمي، فهو قصيدته ( بين أميرين ) ديوانه ص396، تلك التي نظمها في العام السابق نفسه 1937، يهنئ فيها الإمام بنجاته من حادثة سيارة وقعت له في تلمسان، وهو في خضم نشاطاته وفي أوجها، من أجل استكمال متطلبات وشروط سير العمل في ( دار الحديث ) على أحسن ما يرام . ومما ورد في هذه القصيدة قول الشاعر مخاطبا الإمام الإبراهيمي :
فر منك الموت يخزى بالملامه وتخطاك فأبشر بالسلامــة
واحمد الله على الجرح الذي عن قريب يسر الله التآمـه
وارض عن بعض رضوض بقيت فهي للأجر على الضر علامه
في تلمسان بك الزهر احتفى فاسقه وافتح على الخير كمامه
بلغت (دار الحديث ) المنتهى كبلوغ البدر في الأفق تمامـه
ودرى الناس جميعـا أنـم هـي فيها بمساعيك مقامـه
فاحي في الشعب عظيما نابها خالد الذكر إلى يوم القيامـه
وأما رابع أعماله الذي له صلة بالإمام الإبراهيمي فهو قصيدته (رعد الشاعر)(ديوانه ص 185).
وقد نظمها الشاعر أثناء رحلة قام بها الإمام الرئيس إلى مدينة باتنة سنة1947، بغرض اقترابه من الشعب، وتفقده نشاط الجمعية، وإشرافه على تدشين إحدى مدارس التعليم العربي الحر ، وكان الشاعر يومئذ بها، فكان من بين أعلام الجمعية الذين يتقدمون جموع المحتفين المرحبين بالإمام من أبناء الأمة، وكان الشعب يومئذ- وهو على عتبة الخمسينات- يوشك أن يستكمل أسباب العدة ليفجر بركان ثورته في المعتدين ، فاستهل الشاعر لذلك قصيدته هذه ببعض الإرهاصات بقرب انبلاج فجر هذه الثورة ، وكانت قصيدته هذه بذلك من بين روائعه التي ألمع فيها إلى هذه الثورة ، يقول الشاعر :
بباتنة رعـد البشـائر لعلعـا فأطرب ( أوراسا ) بها و(الشلعلعا )
وجادت غيوث البر كل رحابتها فجادت وعادت للمـبرات مرتعـا
وأخصبت الآمال فيها وأينعـت كما أخصب الروض الجديب وأينعا
وينتقل محمد العيد من هذا المطلع ليرسم بعض صور الحفاوة والترحاب بالإمام الرئيس :
فأهلا وسهلا بالبشير متوجـا بتاج تحلى بالنهى وترصعـا
إمارة عرفان يسوس أمورهـا أمير على دست البيان تربعـا
يواليه شعب للعروبة ينتمــي ويصبو كما والى اليمانون تبعا
يبايع قلـبي قبل كفـي عالمـا على الملك أربى قدره وترفعـا
تغذى من الفصحى بمحض لبانها وشب على آدابـها وترعرعـا
وأدرك من فقه الشريعة سؤلـه وأصـل في شتى العلـوم وفرعا
ويسترسل الشاعر في حديثه عن بعض هذه الجوانب من الشخصية العلمية للإمام الرئيس فيقف في هذا المضمار وقفة متأنية ، جعل الإمام فيها يجمع في وقت واحد ما بين اهتمامات أهل الفلسفة وأصحاب التصوف من المتقدمين ، وبين نبوغ قدامى، علماء العربية وأدبائها، فهو عنده كالأولين ، كما في قوله :
لقد عن لي من درسـه أن عقله بفـلسفـة ديـنيـة قـد تـشبعـا
أراه بهـا يرقـى المراقـي فكرة وينـزع فيهـا (للغـزالـي) منزعا
ويكـشف عن صوفيـة سلفيـة إلى وردها الصافي (القشيري) ألمــعا
وقـد عن لي من لطفـه أن قلبه كمسك تزكـى طيبـة وتضوعــا
أشـاهد منـه العطف مهما لقيته وألمس فيه الرفـق بي والرضـى معـا
وهو عنده من نحو آخر، كأصحاب الطائفة الثانية :
ويرجز (كالعجاج) لي أو كـ (رؤبه) أراجيز تسليني وإن كنت موجعـا
أرى لك طبعـا في القريض مطاوعـا وذاكرة في حفظ ما شئت أطوعـا
فـلو شئت شـأو (الشنفـرى) لبلغته ولم تـقتنع حتـى تبز (المقفعـا)
ولـو شئت إحصـاء لما قـد حفظته لفاخرت (حمادا) به و(ابن أصمعا)
رحلـت إلينـا فاحصـا متفقـدا ضنانـا وأحكمت الدواء لينجعـا
وأحسب أن حديث الشاعر عن الجانب الفلسفي الصوفي في شخصية الإبراهيمي إنما هو أثر من آثار ما كان يعيشه الشاعر نفسه في هذه الفترة التي نظم فيها هذه القصيدة (الأربعينات)، وقد مال في هذه الآونة إلى العزلة والسكوت، ولاشك أن يكون ذلك قد ساعده على تعميق مطالعاته في آثار الفلاسفة والمتصوفة المسلمين، مما يكون قد أيقظ في نفسه ذلك النزوع الصوفي الموروث الكامن في أعماقه، فألفى في هذا الحديث عن هذا الجانب مجالا من مجالات التنفيس عن مكوناته النفسية، ولونا من ألوان التعبير عن الحياة الشعورية التي كان يحياها يومئذ، وأسلوبا من الأساليب التي يلجأ إليها المرء أحيانا، لإسقاط ما يحس به في عالمه الداخلي علن ظهر غيره.