الشيخ ابن باديس في تصور مفدي زكريا

بقلم: أ.د. مولود عويمر-

«الشاب النابغ الأديب والشاعر العبقري المجيد السيد مفدي زكريا من شباب بني ميزاب المتنورين الشاعرين بآلام هذه الأمة الجزائرية منذ نعومة أظفارهم والمتطلبين لها العلاج السريع والدواء الناجع من يوم عرفوها بحالتها الراهنة وصفتها الحقيقية، وعرفوا أنهم جزء من هذه الأمة لا يسعد الواحد منهم إلا بسعادتها. » بهذه الكلمات القوية والمعبرة عرفت جريدة «البصائر » لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشاعر مفدي زكريا ( 1908 1977 ) في عام 1936 وهو مازال شابا يافعا لم يكشف بعد عن كل عبقريته الأدبية وكفاحه الوطني وحنكته السياسية وشجاعته النادرة.

 تربط مفدي زكريا المنخرط مبكرا في النضال الوطني في صفوف حزب الشعب الجزائري صلة قوية بالحركة الإصلاحية بشكل عام وجمعية العلماء الجزائريين بشكل خاص والتي كانت تمثل في نظره: «أعظم مؤسسة جزائرية بارزة تحمل المثل الأعلى للجهاد والتضحية في سبيل هذا الشعب المكتوف اليدين، المغلول الرجلين، المقيد اللسان، المغلوب على أمره، المحروم من كل شيء في هذا الوجود. »

وقد وضع مفدي زكريا مشروعا لتأسيس «جمعية التوحيد » لجمع شمل التيارات الفكرية والدينية الجزائرية واقترح الشيخ الطيب العقبي ممثل العلماء في الجزائر العاصمة رئيسا لها. وتراسل في هذا الشأن الرجلان. غير أن الشيخ العقبي اعتبر جمعية العلماء تستجيب لكل الأهداف والغايات التي تبنتها جمعية التوحيد فلهذا لا يرى أي مبرر لإنشاء جمعية لأخرى. فجمعية العلماء مفتوحة لكل مخلص للجزائر ولوحدة أبنائها.

ورغم فشل هذا المشروع، وعدم تجاوب العلماء معه، بقي مفدي زكريا وفيا لجمعيتهم ومروجا لرسالتها ومعرفا بأعمالها. وقد اغتنم فرصة الذكرى العشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، والتي تزامنت مع مرور ست سنوات على اندلاع الثورة الجزائرية، للكتابة عن رائد الإصلاح والنهضة في الجزائر والتنويه بجهوده الإصلاحية وكفاحه الوطني. وعلى غير عادته، نشر زكريا مقالا نثريا في هذا الشأن وليس قصيدة، كأنه يريد من ذلك أن يقول إن ما كتبه هو من صميم الواقع والتاريخ وليس فيه أي خيال أو عاطفة. فهو يؤرخ لمرحلة بموضوعية الباحث وصرامة المؤرخ.

وهذا النص الذي أضعه بين يدي القارئ قد نشره مفدي زكريا في العدد 8، الصادر في ماي 1960 من مجلة «الفكر» التونسية التي كان يشرف عليها الكاتب والسياسي محمد مزالي. «ها أنا أعاهدكم على أن أجعل حياتي وقفا مؤبدا على الإسلام عموما والأمة الجزائرية خصوصا ما بقيت الروح، ومن بدل أو خان فليطبق عليه: « إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب. أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون »ذلك هو القسم الذي أقسم به ابن باديس يوم أن رجع من تونس حاملا شهادة العالمية يقصد (شهادة التطويع) انتصب بقسنطينة عام 1912 يبني العقول وينشئ الأجيال وانه لقسم لو تعلمون عظيم !فهل وفى عبد الحميد بما عاهد الله والأمة عليه؟ لم يكن ابن باديس مصلحا دينيا فحسب، ولا وطنيا صادقا وصحافيا واعيا فقط كما يقولون. إن ابن باديس كان أمة. إن ابن باديس كان أبا لجيل. ذلك الجيل الصاعد الذي ابتدأ سنة 1925 بالثورة على الجهالة والضلال وانتهى1954 بالثورة على السلاسل والأغلال. انه يفتخر بهذه الأبوة انه يقول: «أنا لم أنجب أطفالا ولكني أب، لأن كل الجزائريين أبنائي »ولنترك التاريخ يتحدث.

ولد ابن باديس في قسنطينة عام 1889 في أحضان عائلة مترفة تتمتع بمركز اجتماعي ممتاز. وكان والده محمد مصطفى من أغنياء البلاد ووجهائها المحظوظين ولو شاء عبد الحميد لعاش مثل أبيه وأفراد عائلته في بحبوحة من العيش ووفرة من الثراء وجانب من تقدير السلطة الحاكمة. وأن يبقى مدللا كما كان صبيا. وأن لا يحرق مخه وينهك جسمه بالعمل الفكري الكادح، وكان في إمكانه أن يتمتع بحياة الزوجية الدافئة ككل أضرابه من أبناء الذوات المترفين، ولكنه استقبل الحياة يوم أن استقبلته الحياة وهو يصرخ في وجهها:خلقت للجزائر وسأعيش للجزائر. أدخله والده أحد الكتاتيب القرآنية وهو في الخامسة من عمره فحفظ القرآن على الشيخ محمد المداسي، ثم درس العلوم الدينية في قسنطينة على الشيخ حمدان الونيسي.

وقد كان يحذره من الالتحاق بأي وظيفة. وهي أغلى نصيحة سمعها في حياته. أرسله والده مصطفى إلى تونس ليأخذ نصيبه الأوفى من المعارف فعكف على التحصيل وأتم دراسته سنة 1908 حيث تحصل على الشهادة العليا- العالمية من جامع الزيتونة بعد شهادة التطويع ثم رجع إلى قسنطينة. وسافر إلى البقاع المقدسة سنة 1912لأداء فريضة الحج وطاف بالأقطار العربية سوريا ولبنان ومصر واتصل بعلماء هذه الأقطار. وأجازه المرحوم محمد بخيت في مصر إجازة العالمية. وفي رحلته هذه التقى في الحجاز بكل من الشيخين البشير الإبراهيمي والطيب العقبي)؟( حيث كان الأول مدرسا بسوريا والثاني بالمدينة، وهناك اتفق الثلاثة على القيام بحركة إصلاحية بالجزائر لإنقاذ الأمة من براثين مشائخ الطرق الصوفية الذين سخروا الجزائر لفائدة المستعمرين بنشر الضلالات والأوهام وتخدير العقول. وبمجرد رجوع ابن باديس إلى قسنطينة سنة 1913 انتصب بالجامع الأخضر للتدريس والدعوة للإصلاح. فكان يقوم بإلقاء ) 12 ( درسا يوميا. وقد ابتكر طريقة جديدة لتفسير القرآن كان ابتكر مثلها الشيخ رشيد رضا بمصر.

وإلى جانب اجتهاده في الحقل الإصلاحي فتح واجهة جديدة للكفاح القلمي فأنشأ بقسنطينة جريدة المنتقد سنة 1925قامت بحملات صادقة ضد سياسة فرنسا التعسفية بالجزائر وإذ لم يتسع لها الجو السياسي المتعفن لفظت أنفاسها على يد- ميرانط- مدير الشؤون الأهلية في العدد الثامن عشر منها.وخلفتها جريدة الشهاب يوم 12 نوفمبر سنة 1925 ثم تطورت إلى مجلة يوم 23 أوت سنة 1926كان من البديهي أن تتضايق الحكومة الاستعمارية في الجزائر من هذه الحركة وأن تعتبرها- كما هي في الواقع- حركة خطيرة ترمي إلى تحرير الأفكار والعقول من الاستعمار العقائدي المريع الذي ظل ردحا من الزمن يحجب العيون عن المعرفة والحقيقة والنور، ويصد النفوس التي تنهشها المخاوف بأنيابها عن الانطلاق وراء حياة سعيدة وعيش كريم. صمد ابن باديس الصنهاجي أمام كل معارضة. ووقف ساخرا من الأحداث في نخوة وكبرياء يردد ذلك الصوت الذي يجلجل في أعماقه. «تستطيع الظروف أن تكيفنا ولكنها لا تستطيع أبدا أن تتلفنا ...» فإذا عصرت قلبه الآلام - وداعبت روحه الآمال- الفساح- حدج الأقدار العاقة بعينين تبرقان كالقبس ونظر إلى الأفق اللازوردي في أحضان اللانهاية وقال: «إن جميع الأبواب يمكن أن تغلق أمامنا ولكن بابا واحدا لن يغلق أبدا هو باب السماء .»

وأخيرا انتصرت كلمة الإصلاح على ذبذبة العملاء المخاذيل، وظهر الحق على الظلم والطغيان - وسكنت تلك الأصوات النكراء المحمومة. وانطلقت الفكرة الإصلاحية الوطنية في لهفة وسعورة. وانبعثت كالقذيفة المجنونة تشق طريقها لتنفجر، فإذا بجمعية العلماء تبرز من ركام دخانها كالعملاق! -وهذه جريدة «السنة » تبرز باسم الجمعية يوم 12 نوفمبر 1933 لتحمل رسالتها إلى المجتمع الإسلامي العربي عامة وإلى الجزائر خاصة، وإذا بالحكومة تختصر أجلها بعد 12 عددا آخرها في ربيع تلك السنة. لم تقف الجمعية مكتوفة الأيدي إزاء هذا التعطيل الذي أصبح عادة رتيبة. فأصدرت جريدة «الشريعة » يوم 24 من نفس الشهر فكان لها نفس المصير حيث عطلتها الإدارة بعد ستة أعداد. وخلفتها جريدة الصراط يوم 11 سبتمبر 1933 .

فبعثت بها الحكومة إلى مرقدها الأخير بعد العدد السابع ثم امتنعت الإدارة عن الترخيص للسيد أحمد بوشمال بإصدار جريدة جديدة. وقد كان مديرا لجميع جرائد الجمعية. فكان الشيخ محمد خير الدين هذه المرة مديرا لجريدة «البصائر » وصدر عددها الأول بعاصمة الجزائر يوم 27 ديسمبر سنة 1935 ثم أسندت إدارتها إلى مؤرخ الجزائر المرحوم الشيخ مبارك الميلي ابتداء من عددها 48 .

كانت هذه الجرائد إلى جانب نادي الترقي بالجزائر. ميادين فسيحة استطاع أن يقدم فيها ابن باديس ومن ورائه جمعية العلماء- بخوض معركة الحياة الطاحنة وان يواكب الحركة الاستقلالية المتبلورة في «حزب نجم الشمال الإفريقي » ثم حزب الشعب من بعده وان تولد بعد كل ذلك من أعماق الغيب جزائر جديدة عرفت كيف تعرب للعالم عما يصرخ في عروقها ويصخب في كيانها: بلغة غير اللغة التي اعتاد الاستعمار تأويلها وتحريفها. لغة جديدة واضحة لا تقبل التأويل: لغة الحديد والنار! ما كان لعبد الحميد أن يغتر بمناورات سافرة دبرت حوله إبان الحرب العالمية الثانية- ليقول كلمة تأييد لفرنسا وحلفائها ضد الألمان، إنه لا يثق بالاستعمار ولا يطمئن لرجاله.

هو يرتاب حتى في كلمة الشهادة إذا طلب إليه المستعمرون أن يقولها: «أما والله لو قالوا لي قل:لا اله إلا الله لما قلتها. »

لقد كشف هذا النص المجهول لدى الباحثين في الحركة الإصلاحية وتاريخ الشاعر مفدي زكريا عن دور الشيخ عبد الحميد بن باديس في إحياء الدين وبعث اللغة العربية ونشر العلم ومحاربة الاستعباد وتعميق الوعي الوطني وتأسيس الفكر الثوري، بشهادة شاعر الثورة الجزائرية ونار معركة التحرير ما تزال مشتعلة.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.