الشيخ العلامة “أبو بكر مصطفى بن رحمون” عالمٌ غيبته الذاكرة وغيّبه أهله

بقلم أ. الطيب سيدي عمران -

لقد أردت من خلال هذه الإطلالة تسليط الضوء على هذه الشخصية حيث أن صاحبها عانى الإهمال والتهميش في أخريات حياته، وكذلك بعد مماته ونتيجة للفترة التي قضيتها معه ببسكرة وعلى غرار ماقام به فضيلة الشيخ الدكتور”التواتي بن التواتي” حول  شخصية “الشيخ مبارك الميلي” أردت أن أذكر الناس بهذه الشخصية واعتمدت على ما عشته معه، ورسالة الأخ والأستاذ كمال عجالي (متحصل عل شهادة الماجستير من جامعة قسنطينة 1987م).

مولده ونشأته:

إنه العالم الفقيه والشاعر الملهم والفصيح بلا منازع والمدافع عن اللغة العربية وتعاليم الإسلام الشيخ العلامة “أبو بكر مصطفى بن رحمون” من قرية ليانة بلدية زريبة الوادي – دائرة سيدى عقبة ولاية بسكرة، ولد سنة 1921م في أسرة متواضعة تهتم بحفظ القرآن، فحفظ القرآن قبل البلوغ، تعلم على يد الشيخ “محمد الصغير مصمودي” مبادئ اللغة العربية، وحفظ متونها ومتون الفقه الإسلامي.

في سنة 1936م انتقل إلى مدينة قسنطينة ليكمل دراسته على يد الشيخ “عبد الحميد ابن باديس” وكان من الطلبة النجباء البارزين، كما حدثنا عنه بعض أصدقائه ومكث بقسنطينة أربع سنوات بمعهد المعرفة، ولما توفي الشيخ “عبد الحميد ابن باديس”في16 أفريل 1940م رجع إلى بسكرة، كما استدعاه “محمد السعيد الزاهري” إلى وهران لمساعدته في إخراج وإصدار “جريدة الوفاء”. وفي سنة 1941م عاد إلى بسكرة واشتغل بالتدريس لمدة ثلاث سنوات بالمدرسة الحرة بقرية “فلياش” ولاية بسكرة.

في سنة 1944م التحق بالعاصمة معلما بمدرسة “الشبيبة الإسلامية”، وأثناء وجوده بالعاصمة نشر قصائد مختلفة قي جريدة الإصلاح التي تولى الطيب العقبي إصدارها. وعاد إلى بسكرة سنة1956م وانتقل إلى قرية “عين زعطوط”كمعلم بالمدرسة الحرة، وفي سنة1959م تولى الخطابة بالمسجد الكبير في بسكرة، وإلقاء بعض الدروس بالمعهد الإسلامي وبعدها تم عزله من الإمامة والتدريس، )وقيل أن السبب كان الصداع الذي أصبح يعتريه من حين لآخر(.

شهادة من عاصروه:

يقول عنه أحد أصدقائه الأزهاري ثابت «كان الشيخ على درجة كبيرة من التقوى والأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة من تدين وإباءه وعزة و نفس وصدق وورع ووطنية صادقة ومتوهجة، كما هو واضح في شعره وسيرته الحسنة، وله سلوك ديني طيب وكنا نؤدي صلاة الفجر معا في الجامع الأخضر»، ويتحدث عنه أحد تلاميذ الشاعر عن ورعه وفضله أن الشيخ “أبو بكر جابر الجزائري” يقول «بعد معاشرته لـ”ابن رحمون” بالعاصمة سنوات الأربعينات “عرفته خلالها رجلا فاضلا تقيا ورعا يكثر القراءة والمطالعة، ويكنى بالجاحظ، ينظم الشعر جيدا وخاصة الأناشيد.»

ويقول عنه الشاعر الكبير “محمد العيد آل خليفة” في مدحه بعد اطلاعه على كتابه الأخلاقي المفقود، ممتدحا الشاعر وعمله ذلك المعنون: (الأشعة المنسية من ذكريات قسنطينة).

أشعة كشفت عن خير مكنون                     من منشآت أبي بكر بن رحمون

الشاعر الناثر السامي بهمتـــــه                      إلى معارج شوقي وابن زيــــدون

أبدى لنا قصصا في وصف مجتمع                    حمــيدها مرشد للخير مسنـــون

أدع اليراع أبا بكر يجبك لمــــــا                     ترجوه من أمل بالفوز مقـــرون

فشعبنا لك ممنون بتكـــــــــرمه                      مؤمل لك أجرا غير ممنــــــــون

وكانت أول مقطوعة شعرية له هي التي أنشد فيها ابن باديس أستاذه الذي طلب من طلابه لبس العمائم يقول فيها:

لقد فاح مسك في الجزائر طيبا           وقد شيد مجد عوض أن يتهدمـــــــــا

فعلمنا عبد الحميد مسائـــــــــلا           وتوجنا عبد الحميـــــد عمائمــــــــــــــــنا

فأحيا خصالا من ســـجايا محمد           صميما للــعروبة قد سمــــــــــــــــــــــــــا

عـمائمنا ردع وزجر على العدى          إذا مارآها الكفر ذل وأحجمــــــــــــــــــا

عمائمـنا سيف لقد سل من يدي        كمي أبى بالمنـــــــــــــــــاقب سمــــــــــا

*ملاحظاتي حول الشيخ أبو بكر:

الأولى: في الفترة التي كنت فيها ببسكرة، وفي أواخر السبعينات أن الشاعر الكبير “محمد العيد آل خليفة” اعتزل الناس وأصبح لا يسمح بالدخول عليه إلا الناس الخواص من الأقارب والأصدقاء وكان الشيخ “أبو بكر” من الخواص الذين يدخلون عليه.

الثانية: لما كان يدرس بالمعهد الإسلامي ببسكرة وبالعاصمة مع المصريين الأزهريين، كانوا يكنون له كل الاحترام والتقدير، وعندما يلتقون بالجزائريين خارج الوطن يسألون عنه.

نمادج من حياة “ابن رحمون”:

هناك بعض الأحداث التي حدثت له مع الناس، حضرتها معه وسمعتها منه.

لقد  كان حريصا على الكلام باللغة العربية الفصحى ويحارب المصطلحات الفرنسية المعربة والمنطوقة بالدارجة، كما كان يفرح كثيرا عندما يتحدث معه شخص ما باللغة العربية، فعندما صدر له ديوانه الشعري، واشتريته وجدته جالسا أمام باب مسجد الزاوية القادرية الأول الموجود في المبنى المقابل لمكتبة المعصومة في الواجهة الخلفية، فلما أخبرته وناولته الديوان قال لي هل أعجبك ديوان أخيك؟ فقلت له مازلت لم أقرأه بعد. وعندما فتحت له الباب ودخلنا المسجد، بدأ يقرأ لنا بعض القصائد ويشرح لنا بعض الأبيات.

أما بالنسبة لمحاربته للمصطلحات الدخيلة عن اللغة العربية، وخاصة  الفرنسية المنطوقة بالدارجة فلدينا أمثلة منها:

في أحد الأيام بينما كنا في مسجد الزاوية القادرية المذكور سابقا، حيث كان مركزا للنشا ط الإسلامي لمختلف الجماعات، حيث كنا نقيم حلقة للحديث بعد صلاة الظهر. وبعد صلاة العشاء -أثناء الحلقة- دخل الشيخ “أبو بكر” فقال له أحد الحضور ) تفضل يا شيخ ها هي هنا- بلاصه(! – فغضب الشيخ وقال له:«لا تقل بلاصه! بل قل مكان، لأن لله تعالى لما تكلم عن سيدنا إدريس قال:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم:56/57]،ولم يقل “بلاصه عالية”!

ب- عندما يقول له شخص ما في المسجد ناولني ذلك -الصباط- أو تلك الطرباقه- بالدارجة، فهو يغضب ويقول لصاحبه:«لا تقل هكذا! يجب عليك أن تقول حذاء أو نعل! لأن الله تعالى عندما خاطب سيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور قال له {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)} [طه:11/12]، ولم يقل له “واخلع صباطك”! أو”واخلع طرباقتك”!

ج- في أحد الأيام بينما كنا جالسين في المسجد المذكور كان الشيخ “أبو بكر” جالسا بجانب رجل أمي، فسأله الشيخ عن اسمه ولقبه، فأجابه الرجل عن اسمه. ثم قال له: أما النقمة فهي كذا! فغضب الشيخ “أبو بكر” لأنه كان يقصد بالنقمة (بكسر النون وفتحها) وهي الطرد من رحمة الله، وهي من الانتقام، فتدخلت لحل المشكلة بينهما.

د- وحكى لي الأخ “وحيد طهراوي” أنه لما توفي الشاعر الكبير “محمد العيد آل خليفة” وجاء وفد من العاصمة برئاسة الشيخ “أحمد حماني” والدكتور “أحمد طالب الإبراهيمي”، وأثناء إلقاء كلمات التأبين يقع البعض في زلات للسان النحوية فمثلا: عوض أن يرفع ينصب! وكان الشيخ متنحي جانبا يرد على الذي أخطأ بقوله: أرفع أرفع! وإذا جر عوض أن ينصب فيقول له أنصب أنصب! وإذا نصب عوض أن يجر فيرد عليه الشيخ: جر جر! وعندما يخطئ أحد في خطأ ما، وخاصة في القرآن يغضب لدرجة أنه يقطف زر قميصه العلوي!

موقفه من السياسة والأحزاب:

لما ازداد تصدع القوى السياسية في هذه الفترة )بين صوت حزب حركة الانتصار الديمقراطية( وتضاعف الغليان وسط الجماهير نتيجة الانقسام بين قادة الحزب أنفسهم حول الزعامة ونسيانهم للمصالح الوطنية، التي تبدد مثل هذه السلوكات. يقول “ابن رحمون”مصورا هذه الحالة:

هي الضغائن والأهواء ما نطقوا            وما تزينه الأحزاب والطرق

يدعون جهدهم يا قومنا اتحدوا             وما دعوهم لذا إلا ليفترقـــوا

هل من سبيل إلى إقناع طائفة            بغير مدحك لا ترضى ولا تثق

أو من سبيل إلى توحيد مجتمع             يسود هيآ ته العليق والعلق

أ/ نمادج من شعره: (أحول الأخلاق)

لا تسل الرفق ممن لا خلاق له            ولا المودة ممن ليس ذادين

ولا تلم واشيا عن سوء فعلته            تلك السجية في فعل الثعابين

بل أذرع بالتقى والصبر محتسبا           لله يحفظك من نكر الشياطين

ب/ حول الظلم:

شكونا الظلم بالأقلام دهرا            فلم نظفر من الشكوى يزداد

ولم نر للتظلم من جــــواب            سوى إغراقهم في الاضطـهاد

وإن حقا سألناهم أجابـــــوا             سجن المزمعين على التمـــــادي

ج/ حول الرزق:

لئن يكن رزقي تحت رجل مزوغ      فلا حبذا الدنيا ولا حبذ الوقر

وإن تك أعمالي لوجه منا فق          فيا حسرتا إن الحياة هي القبر

فلم أعتمد إلا على الله وحده           فمن بيده النصر المؤزر واليسر

*أواخر حياته:

لقد قال لنا أنه بعث عدة أعمال للنشر والطباعة ولكن لم تنشر منها إلا ديوانه الشعري تحت عنوان: (ديوان ابن رحمون).

لقد كان يحضر ملتقى “محمد العيد آل خليفة” الذي يقام ببسكرة كل سنة، ويلقي بعض من قصائده، وفي آخر حياته أصيب بمرض نقص الذاكرة. واشتدت عليه الإصابة بالصرع حتى أنهم يجدونه أحيانا مصروعا في ميضأة المسجد، وربما كان هو السبب الذي عزل من أجله عن نشاطه العلمي والدعوي. ولقد قال لي أحد الأصدقاء ببسكرة أنه دعوه لإلقاء كلمة في أحد الملتقيات، لكنه شرع يشرح لهم كيفية الوضوء! واهتم في آخر حياته بكتابة القصاصات والمأثورات وأدعية القنوت وصلاة الاستخارة وأدعية صلاة الجنازة على الرجل والطفل والمرأة، ويعلقها في المساجد وكان كل من يلتقي به إلا ويسأله عن الوضوء والصلاة ويريد أن يعلمه ذلك إلا أنه كان يبالغ في ذلك.

*وفاته:

لقد وافته المنية يوم03 جويلية 1984م بمستشفى لعزيلات ببسكرة، وذلك بعد عملية جراحية فاشلة أجريت له، وألقى الشيخ “امحمد أمغزي” إمام المسجد الكبير كلمة تأبينية وقال: إن الأخ “كمال عجالي” يحضر رسالة ماجستير حول حياة الشيخ “أبو بكر”، وكما يقول المثل العربي:(أنجز حر ما وعد).

ملاحظتي حول الكتاب )الرسالة(:

تعتبر هذه الرسالة كعربون وفاء وردا للاعتبار لهذا للشيخ “أبوبكر” كأحد أعلام جمعية علماء المسلمين الجزائريين، إلا أنه لا يوجد بها مقدمة لأحد أساتذة الجمعية.

أن هذه الرسالة لم تلقى رواجا من حيث النشر ليتمكن القراء من الاطلاع عليها، وخاصة الذين لا يعرفونه مثل ما فعل الأستاذ “فوزي المصمودي” مع العلامة الشيخ “زهير الزاهري اللياني”، كما لا يوجد أية صورة للشيخ أو غيره فهي حبيسة رفوف المركز الثقافي الإسلامي ببسكرة.


بقلم الأستاذ/ الطيب سيدي عمران - جامعة الوادي

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.