البشير الإبراهيمي يدعو إلى تقدم المرأة حتى لا يتأخر الرجل!
بقلم: أ. علي محمد الغريب
إصلاح العقيدة هو أساس كلّ إصلاح، فقد قال الإمام مـالك ـ رضي الله عنه ـ : "لايصلح أمر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أوَّلها". وهو الشعار الذي رفعه المصلحون فيالجزائر،وجسَّدوه في أقوالهم وأفعالهم، وكتاباتهم، فها هو الشيخ مبارك الميلي ـمؤرِّخ الجزائر وأحد علمائها ـ يكتب في العشرينيات من القرن الماضي في أحد أعدادجريدة )المنتقد) :"من حاول إصلاح أمَّة إسلامية بغير دينها، فقد عرَّض وحدتها للانحلال وجسمها للتلاشي، وصار هادماً لعرشها بنيَّة تشييده".
إصلاح كان هذا هو منهج الإمام البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ الذي التزمه طيلة حياته المحتشدة بالأحداث الجسام، والتحوُّلات العظيمة، والجهاد لعودة المجتمع الجزائري إلى ينابيعه الأصيلة، واضطلاع المرأة الجزائرية بدورها في نهضة المجتمع المسلم.
وُلد الإمام محمد البشير طالب الإبراهيمي بقرية "رأس الوادي" التابعة لمدينة"سطيف" بالشرق الجزائري في 14 يونيو عام 1889م في بيت علم ودين، وقد أتمَّ حفظ القرآن الكريم على يد عمّه الشيخ المكي الإبراهيمي الذي اكتشف مواهبه المتعددة في وقتمبكر،وكان له فضل تربيته وتكوينه حتى جعل منه ساعده الأيمن في تعليم الطلبة.
فيعام 1911م لحق الإبراهيمي بوالده الشيخ السعدي الإبراهيمي الذي هاجر إلىالمدينة المنوَّرة عام 1908م هرباً من ويلات الاحتلال الفرنسي، وقد مرَّ في طريقه إلى المدينة بمصر وأقام فيها ثلاثة أشهر، التقى خلالها عدداً من علمائها، وأدبائها، وحضر بعض دروس العلم في الأزهر الشريف.
وعندمااستقر في المدينة المنوَّرة، درس على كبار علمائها علوم التفسير،والحديث،والفقه، والتراجم، وأنساب العرب، وأمهات كتب اللغة والأدب، وبعد فترة منالدرس والتحصيل أصبح يلقي دروساً على طلبة العلم في الحرم النبوي الشريف، ويقضي أوقات فراغه في المكتبات العامة والخاصة بحثاً عن المخطوطات.
عاد الإبراهيمي إلى الجزائر مرَّة أخرى عام 1920م بعد سفره إلى دمشق والمكوث بهاثلاثسنوات لتدريس الآداب العربية في المدرسة السلطانية (مكتب عنير). وعند عودته إلىالجزائر كان مشغولاً بفكرة وجود حركة تحيي الإسلام في وطنه، وتنشر العلم، وتبعثشبابوفتيات الأمَّة. أُعجب بعد وصوله بالنتائج المثمرة التي حققها الإمام عبد الحميدبن باديس رحمه الله، الذي سبق أن التقاه بالمدينة المنوَّرة في موسم الحج عام 1913م. فكان هذا اللقاء مقدِّمة اللقاء الأخير الذي رأى ثماره بين الجزائريين، فأسَّس والشيخ ابن باديس جمعية "العلماء المسلمين الجزائريين" في 1931 م، كردّ فعلإيجابيعلى احتفال فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر، وقد أيقنت فرنسا أنَّالجزائرأصبحت قطعة منها إلى الأبد، نصرانية الدين، فرنسية اللسان. وجاء شعارالجمعيةصارخاً مدوِّياً في وجه فرنسا، راسماً طريق الخلاص منها. كانت عباراتالشعارتقول :"الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا".
وضع الإبراهيمي دستور الجمعية، وقانونها الأساسي، وأصبح نائباً لرئيسها الإمام ابن باديس، ثمَّ تكفَّل بالمقاطعة مع الغرب عام 1933م واختار مدينة تلمسان مركزاً لنشاطه المكثَّف، وأسس فيها مدرسة "دار الحديث" سنة 1937م وبناها على نسق هندسي أندلسي أصيل، فكانت مركز إشعاع ديني وعلمي وثقافي.
لميكن الفرنسيون ليغضوا الطرف عن هذا الطوفان الثائر، الذي حرَّك الناس واجتذبهم إليه، فحاولوا إغراءه واحتواءه وترويضه، فلم يجدوا له سبيلاً، فأعادوا الكرَّةبتثبيطه وعرقلة مسيرته، فلم يُفلحوا ! وبعد عدَّة محاولات قررت سلطات الاحتلال نفيه إلى قرية آفلو في الجنوب الغربي من الجزائر في مطلع الحرب العالميةالثانية.
بعدأسبوع من نفيه تلقَّى خبر وفاة رفيقه الإمام عبدالحميد بن باديس ـ رحمه اللهـ وخبر اجتماع أعضاء الجمعية، وانتخابهم إياه رئيساً للجمعية برغم الضغوط الفرنسيةالراميةإلي انتخاب غيره، فتحمَّل مسؤولية قيادة الجمعية غيابياً، وتولَّى إدارتها بالمراسلة طوال الأعوام الثلاثة التي قضاها في منفاه.
وبعد إطلاق سراحه عام 1943م أصبح قائداً للحركة الدينية والعلمية والثقافية فيالجزائر، يجوب ربوعها معلِّماً وموجِّهاً ومرشداً، يوحِّد الصفوف ويؤسِّس المدارس والمساجد والنوادي، ويهيئ العقول لساعة الصفر التي كانت تخطط لها نخبة من الحركةالسياسية.
وفيأثناء إعداده للشباب والرجال، لم ينس الإبراهيمي الفتيات والنساء، فكانيقول:"المرأة المسلمة موضوع ذو شعب: جهلها، تربيتها، تعليمها، حجابها، وظيفتها فيالبيت. والرجل المسلم موضوع أكثر تشعُّباً، والشاب المسلم موضوع، والطفل كذلك. كانت المرأة المسلمة في الجزائر ـ إلى عهد قريب لا يتجاوز أربعين سنة ـ من محاضرة ألقاهاعنالمرأة عام 1953م ـ محرومة من كلّ ما يسمَّى تعليماً، إلا شيئاً من القرآن يؤدِّي إلى معرفة القراءة والكتابة البسيطة، وهذا النوع على سذاجته خاص ببعض بيوت العلم، ولا يجاوزون بالبنت فيه الثانية عشرة من عمرها، والسبب في هذه الحالة نزعة قديمة خاطئة راجت بين المسلمين، وهي أنَّ تعليم البنت مفسدة لها، ويلوك أصحاب هذه النزعة آثاراً مقطوعة الأسانيد، مخالفة لمقاصد الشريعة العامة.
هذههي علَّة العلل في الحالة التي أفضت بالمرأة المسلمة إلى هذه الدرجة، التيمازالت عقابيلها سارية في المجتمع الإسلامي، وما زالت لطخة عار فيه، وإنَّ المرأة إذا تعطَّلت عطَّلت الرجل، وإذا تأخَّرت أخَّرته، ولا سبب لانحطاط المرأة عندنا إلاهذاالضلال الذي شوَّه الدين وقضى على المرأة بالخمول، فقضت على الرجل بالفشل،وكانتنكبة على المسلمين".
وكان يدعو الآباء والشباب إلى الزواج للحفاظ على تماسك المجتمع الجزائري وعفّته، وتكثير سواد المسلمين في مواجهة الطغيان الصليبي الذي اجتاح الديار، فكان ينادي في الآباء قائلاً: "يا أيُّها الآباء.. يسِّروا ولا تعسِّروا، وقدِّروا لهذه الحالة عواقبها وارجعوا إلى سماحة الدين ويسره وإلى بساطة الفطرة ولينها. إنَّ لبناتكممزاحماتفي السوق على أبنائكم ـ يقصد بنات المحفل ـ وإنَّ معهن من الإغراء والفنون ما يضمن لهن الغلبة في الميدان، فحذار أن يغلب ضعفهن قوتكم". ثمَّ يوجِّه خطابه للشباب يحضُّهم على الزواج والحرص عليه، فيقول :"أيُّها الشبان إنَّكم لا تخدمون وطنكم وأمَّتكم بأشرف من أن تتزوَّجوا، فيصبح لكم عرض تدافعون عنه، وزوجات تحامونعنها، وأولاد يوسعون الآمال، هنالك تتدرَّبون على المسؤوليات، وتشعرون بها، وتعظم الحياة في أعينكم، إنَّ الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه وتزيد في إيمانه، وإنَّ الإعراض عن الزواج فرار من أعظم مسؤولية، قد كان أجدادكم العرب يضعون نساءهم وذراريهمخلف ظهورهم في ساعة اللقاء لئلا يفرُّوا.. وهذا هو الحفاظ".
وكانت القضايا الاجتماعية وقضايا المرأة على وجه الخصوص من أوَّل القضايا التياسترعتانتباهه، ذلك أنَّ المرأة هي عمق أيّ مجتمع وهي حاضنته، منها الانطلاقة وإليها الأوبة، فكان يركِّز عليها ويفعِّل دورها ويجعلها محوراً مهماً في مقاومةالمحتل.
سافر الإبراهيمي إلى المشرق العربي عام 1952م ممثلاً لجمعية العلماء، ليسعي لدىالحكوماتالعربية لقبول بعثات طلابية جزائرية في معاهدها وجامعاتها، وطلب الإعانةالماديةوالمعنوية للجمعية، حتى تستطيع مواصلة أعمالها وجهادها، وقد اتخذ من مصر منطلقاً لنشاطه، ورعى فيها أوَّل البعثات الطلابية، وكان سفيراً للجزائر وصوتها المدوِّي، يلقي المحاضرات والدروس في المراكز الإسلامية، والأحاديث الإذاعية في الإذاعة، قبل الثورة وفي أثنائها، يدعو الشعب إلى الالتفاف حول الثورة المسلحة، وخوض غمار الجهاد المقدَّس ضد الاحتلال، والتضحية بالنفس والنفيس، فكان هذا النداء إسكاتاً لكلّ من يريد التشكيك في شرعية الجهاد باسم الإسلام، ودفعاًَ قوياً للثورة الوليدة.
عاد الإبراهيمي إلى وطنه بعد استعادته، واستقلاله، وقد اضطرته الأوضاع إلى التقليلمن نشاطاته بسبب تدهور صحته من جهة، وبسبب سياسة الدولة التي شعر أنَّهاحادتعن الاتجاه الإسلامي من جهة أخرى، فانحصر نشاطه في أمرين:
الأوَّل: إلقاء أوَّل خطبة جمعة بعد الاستقلال، افتتح بها مسجد "كتشاوة" الذي عادكما كان مسجداً بعد أن حوَّله الاحتلال الفرنسي إلى كاتدرائية، طوال قرن وثلثقرن.
الأمر الثاني: إصداره بياناً في 16 أبريل 1964م دعا فيه السلطة آنذاك إلى العودة إلى الحكمة والصواب، وإلى جادَّة الإسلام، بعد أن رأى البلاد تنحدر نحو الحربالأهلية،وتنتهج نهجاً ينبع من مذاهب دخيلة مضادة لعقيدة الشعب الجزائري وجذوره.
وفي يوم 20مايو 1964م توفى الإمام المجاهد محمَّد البشير عن ست وسبعين سنة قضاها فيالعلم والجهاد، ودعوة العباد للعودة إلى خالقهم، فاللهمّ ارحم عبدك البشير رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى.