رؤية ابن باديس للمنهج التربوي
بقلم: كمال بن عطاء الله -
في ظل الجدل المحتدم القائم حول إصلاح المنظومة التربوية عندنا، والذي أراده البعض النافذ تغييرا جذريا مُكَشِّطًا للجذور قالعا لها ماسِحا كل ما هو أصيل ومجمع عليه، وفي هذا الوقت بات من الضروري على كل مستطيع غيور أن يثبت أن الأمة الجزائرية في حاجة للإصلاح الدائم ولكن على أسس ثابتة، ولا يكفي الاعتراض واتباع الآمال بالتخوين والقذف دون التدليل على البديل وبيان واقعيته وصلاحيته من تراثنا القريب والبعيد، ومن خلال اطلاعي المتواضع على فكر ابن باديس التربوي المطبق في مدارس الجمعية منذ تأسيسها في[5ماي1931م] والثمار اليانعة التي لا يشكك فيها إلا المستلبين حضاريا ومدعي الحداثة الظلامية تحت مسميات إستحمارية مثل العولمة والتنوير وما هم كذلك ولمحاججة هذا الفكر علينا ببيان الاقتراحات العملية.
صلاح التعليم أساس الإصلاح
قال العلامة الفهامة باني نهضة الجزائر العلامة عبد الحميد ابن باديس الصنهاجي القسنطيني-رحمه الله -: “العلم قبل العمل ومن دخل العمل بغير علم، لا يأمن على نفسه من الضلال”[الآثار ص104].
وقال أيضا: “لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم، لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم”[تفسير سورة الإسراء آية 84 -85].
ما سر نجاح حياة وسعادة الفرد أو الأسرة أو المجتمع بل الأمم على مر الأزمان؟، إن أول ما يجب على المرء تحليله ومناقشته، ما المنهج التربوي المتبع؟.
ولكي نعين بعضنا على هذا التحليل دعنا نتفق على ما يلي:
1- أي تربية؟ لأي مجتمع؟ نقصد لكل مجتمع فلسفته ومنه تشتق.
2- نبحث عن تكوين فرد صالح لصالح أمة لينهض بها ويعلو بها شأنه.
3- من هم المقصودون بالتربية؟ كل أطياف وأفراد المجتمع من الجنين في بطن أمه إلى الشيخ القاعد، ذكرا وأنثى.
4- للتربية وسائل وغايات، والنقاش ينصب حول ما يناسب مجتمع دون غيره وفق هذين المؤشرين.
5- بحثنا عن المقررات المناسبة للمتربي، قد يأخذ الجهد الأكبر وقد يكون عليه الاختلاف.
أولا: أهداف التربية عند الشيخ ابن باديس- رحمه الله-.
إن الباحث الجاد والمتأمل في المنهج العملي الذي طبقه الشيخ -رحمه الله – ميدانيا وهو يسعى لتربية جيل بل أجيالا جزائرية متشبعة بقيم أمتهم، ليقف على عبقرية وحيدة في التاريخ قَلَّ نظيرها، فهو العالم النِحْرير الذي ينطلق من واقع ملموس مدروس ليضع عليه لمسات متخصص محققا ما كان يتصوره بكل دقة وحماسة وتضحية متفان دون كلل مستمدا تلك الروح والصدق من إخلاصه في الله ووضوح الغاية متبعا سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون أن يغض الطرف عن متطلبات العصر ومستلزماته، فهو يقول: [الشهاب ج7 م15 ص 344 رجب 1354ه – أوت 1939م] : “إن كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علما وعملا فإننا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، والمثال الكامل لذلك كله هو حياة محمد -صلى الله عليه وسلم – في سيرته الطيبة”.
إن الشيخ يرى أن من أهداف التربية كمال الحياة الفردية والاجتماعية وبالتالي بناء الشخصية المتكاملة، التي تُنبني على الجوانب الأخلاقية والعقلية والعملية والعضوية، وهذا ما أنتجته النظريات التربوية الحديثة بعد تعب وجهد ومخابر تُصرف عليها الأموال الطائلة، ويوضح الشيخ في موضع آخر ما المقصود بالكمال الإنساني؟، “إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، وقوة الإرادة، وقوة العمل، فهي أسس الخُلق الكريم والسلوك الحميد”[الشهاب ج 6م 22 ص 346]، إنّ حياة الأفراد والأمم الناجحة مبنية ومتوقفة على الإرادة والفكر والعمل، ولا شك أن مسلوبي الإرادة غير مكلفين شرعا ورفعت عنهم الأقلام، فهم عالة على غيرهم ولا يُرتجى منهم أي أمر، أما المُقلِّدون والمُعطِّلون لقدراتهم العقلية تحت أي داع سواء ديني كالتسليم لأهل الفتيا المزيفين !! أو الماديين الذين ينساقون وراء نزوات الربح والشهوات، أما الذين لا همَّة لهم في تحقيق أحلامهم بالعمل الصالح فلا مكان لهم في المجتمع الفَعَّال الصالح، فهنا وضع الشيخ الحبيب -رحمه الله- الأصبع على الجرح وأراد أن يوجه أفراد أمته إلى بدايات طريق التحرر الفردي والمجتمعي وهي صالحة للمجتمع الجزائري في ثلاثينيات القرن الماضي والآن أيضا؟ بل لا أخال أن كل الأمم التي أخذت بهذه الأسباب إلا وعلا شأنها وتغير حالها… ويضيف قائلا: “وحياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: الإرادة، والفكر، والعمل…وهي متوقفة بدورها على ثلاثة أخرى لابد للإنسان منها البدن والعقل والخلق”[تفسير آية62 من سورة الفرقان] ويكمل الشرح لهذه الأصول التربوية في إسهاب ودقة نظر المنظر المربي مرتقيا بالمتربي المخاطب سواء كان سامعا أو قارئا إلى مراتب التطبيق في يسر وسهولة العبارة قائلا: “…فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم… فلهذا كان الإنسان مأمورا بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقله وخلقه ودينه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء، وتَوَقي الأذى، والتَرَيِّض على العمل “فهنا الربط بين العناصر الثلاث ربط عضوي ليس بالنظري بل لا يمكن الفصل بينهم، فإنه من المعلوم لكل إنسان مهما كانت بيئته أو زمانه أو المصر الذي يعيش فيه، إن المعتل أو المعاق عضويا لا يمكن أن ينتظر منه ما لا يطيق وكل مكلف حسب طاقته قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[286 سورة البقرة ]، أي أن الحق -تبارك وتعالى- لا يكلف النفس إلا بتكليف تكون فيه طاقتها أوسع من التكليف، ولذلك الاهتمام بالطعام والشراب والرياضة البدنية والراحة النفسية من القواعد الأصيلة التي لابد من توفيرها للفرد ليكون بدنه مستعدا للقيام بالمهام الموكلة إليه والنّاس في تفاوت كل خُلِق لما هو مُيَسَّرٌ له، أما حماية وترويض فكره لن يكون إلا بحماية عقله ولا يتأتى إلا بالعلم الصحيح الذي يعود على الفرد والأمة بالصلاح والفلاح والتمكين وأي علم متين صحيح لا يَنبني على الوحيين فلا أمل في بركته ولا يرتجى منه فائدة، وقد يقول قائل هذا في العلوم الاجتماعية والإنسانية وما دخل العلوم الكونية كالفيزياء والرياضيات وغيرها؟؟؟ نقول وما أضرت هذه العلوم رغم ما فيها من خير كثير إلا لاحتكارها من طرف أصحاب النيات والمقاصد الخبيثة المدمرة سواء من خلال جشع الأفراد أو طغيان الدول والحكومات، فالمناهج التعليمية تُبنى على أهداف وغايات فإن على هدى من الكتاب والسنة لخدمة الفرد الذي أراده الله معمرا لا مدمرا وبانيا لا مستغلا قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[56 سورة الذاريات] بل جعله الله خليفة على هذه الأرض ليحقق العبودية (بمعناها الشامل) له من خلال تحقيق العدل وتكافؤ الفرص والتنافس المحمود في تكامل ليأخذ كل حقه حسب جهده دون نسيان الضعيف ولا معاقبة له ولا حسب اللون؟ أو معايير دونية؟، ولن يتحقق كل ذلك إلا إذا تَعلَّمْنا وعَلَّمْنا بل تَرَبَّيْنا ورَبَّيْنا أنفسنا والناس على خُلق الرسول- صلى الله عليه وسلم- واقتدينا بسلوكه الذي يَصلح لكل البشر إلى يوم القيامة، اعلم– فضلا- أخي القارئ الكريم أن – شيخنا – لا يقصد العلم النظري الذي تعلقت به النفوس من خلال الشهادات والألقاب العلمية المُفَّخَمَة والمناصب والكراسي الوفيرة بل يقصد العلم التطبيقي (العملي) والتي نراها من خلال حياته فهو المضحي والساهر والجاد المجتهد المجاهد من خلال دعوته الإصلاحية من أجل إحياء أمة وتحريرها من قيود المستدمر فهو رحمة الله عليه تلميذ مجتهد جاد وكأنه خريج مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم- التي أخرجت الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعا .
إن الكلام عن الأخلاق هو من الأسس التربوية التي تحدد بها المنطلقات الفكرية للمربي أو المصلح وهي التي تحدد ملامح الشخصية لبناء الفرد المسلم وبالتالي المجتمع المسلم ولا يمكن توطيد وتمكين مميزات الشخصية الإسلامية إلا ببناء معارف كافية وشاملة ترمي في كلياتها وجزئياتها المترابطة من حيث طرق الفكر والشعور والعمل لبناء الشخصية البشرية السليمة الفعالة، ويجدر هنا أن ننبه أن قصدنا بالأخلاق ليس الحياء والحشمة…وفقط والابتعاد عن الرذيلة والانغماس في الشهوات بل القصد أعم وأشمل ففي السياسة أخلاق وللاقتصاد أخلاقيات وغيرها من تدابير الحياة وجوانبها المختلفة وللحروب أخلاق لا يجهلها أو يتجاهلها إلا الدمويين عديمو الديانة؟ وهنا قول الشيخ عليه شآبيب الرحمة والمغفرة من العلي القدير: “على المربين لأبنائنا وبناتنا، أن يعلموهم ويعلمونهن هذه الحقائق الشرعية ليتزودوا وليتزودن بها، وبما يطبعونهم ويطبعونهن عليه من التربية الإسلامية العالية لميادين الحياة”[الشهاب ج 1م13 ص 5-8-1352ه-1937م] .
فانظر تفضلا هدانا الله وإياك إلى وصية الشيخ لكل مهموم بتربية أبناء الأمة أن يعلموا الأبناء ذكرانا وإناثا الحقائق والمعارف وفق المبادئ الإسلامية والتي تعمل على تَزَوُّد الفرد للحياة وتنُمي مختلف جوانبها بل “يطبعون ” وهو من مادة الطبع وهي زيادة تأكيد على الترسيخ والمتابعة والحرص ليتشبع المتربى على ما رُبِّيَ عليه ولا يكون هذا إلا بالمعاهدة والتقويم والتشجيع وإنشاء فضاءات تستوعب المقصود من التعليم والتربية كإنشاء النوادي الثقافية المكملة للمدارس وإيجاد نشاطات مسجدية إضافية والترفيه كالمخيمات ومساعدة الأفراد حسب قدراتهم للانخراط في أشغال حِرَفِيَة (اطلع تفضلا على تقارير الجمعية سنة 1935م)…لأن من غايات التربية الإسلامية العالية (السليمة) أن تنشئ مواطنا صالحا – فردا محبا لوطنه مطبقا لدينه – محبا للخير لنفسه وللإنسانية جمعاء وهذا ما يصرح به بوضوح فيقول “إن خدمة الإنسانية في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه حق– الإنسانية – “والإنسانية وممارسة فعل المواطنة التي تهدف إليها التربية الإسلامية ليست شعارا يرفع في مناسبات معينة لتحقيق مآرب أو لتجميد واقع كما يفعله بعض المتعالين، بل هي فعل نابع من عقيدة وإيمان وتربية متأصلة واضحة المعالم وواقعية في وسائلها ونظمها فهو يحدد بأن خدمة الإنسانية جمعاء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لن يكون حقيقة إلا بخدمة الوطن الأم – الجزائر- بالإسلام لا غير!!، ثم ينتقل بالتدريج إلى إخوانه في المغرب العربي (المحيط الأقرب) ثم الوطن العربي الإسلامي ومنه يسهل خدمة الإنسانية جمعاء، فكيف بالذي يهمل نفسه وعياله ليهتم بغيره من البيوتات المجاورة ثم إلى الأحياء والقرى البعيدة وهو لنفسه أهمل ؟؟؟، فاستمع جزاك الله لمفهوم الوطنية الحقة المعجونة بالصدق والواقعية من كلام الأستاذ – رحمه الله – ” وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه (الوطن) مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء به مباشرة لأنني كلما أردت عملا وجدتني في حاجة إليه وإلى رجاله وماله وحاله، وآماله، وآلامه “[الشهاب ج 10 م 12 ص 424 – 428 شوال 1355هـ جانفي 1937 م ]، فهكذا كن أيها المربي فإن ساحة التربية هي لأبناء وطنك وبني قومك من أهل دينك فأنت في حاجتهم لتفي باحتياجاتهم من مال ولتكون عندهم ومعهم في الأفراح والأتراح .
والذي يجب أن يُعلم بالضرورة أن الأهداف الكبرى (الغايات) المسطرة قد تكون ثابتة بعد حصرها وتحديدها بدقة ثم تتنوع الأهداف الجزئية الأخرى حسب الفئة المستهدفة والمرحلة والواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وابن باديس – رحمه الله – كان واضح الغاية وهي نهضة الأمة التي تؤدي إلى الحضارة وأول لبنة هي تكوين الإنسان وجعل أفراد المجتمع الواحد في تناغم وتوافق ووحدة من خلال شبكة علاقات اجتماعية تجعلهم على وعي لتحقيق الهدف المشترك، واستيضاحا لما قلناه يشير رائد النهضة بشكل واضح وجلي فيقول: ” إنما ينهض بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر”[تفسير62-63 سورة النور] وهنا قد يغادر تفكير البعض ضيقي الأفق بـ [الجماعة المنظمة] إلى الحزبية والفئوية الضيقة، إن فكر ابن باديس أوسع وأرقى وأبعد وأنضج من هذا فهو يدعو الحاكم والمحكوم والخبير والمهتم وأصحاب العزائم المحبين لدينهم ووطنهم ليُكَوِّنُوا ذلك.
فرحمه الله بعد تفكير مرير ومعاناة من خلال دراسة علمية زاوج فيها بين السنن الكونية والشرعية والتجارب الإنسانية المختلفة ومع تكييف لها لتناسب الواقع الاجتماعي المزري الذي كان يرزح تحته بني قومه، وهو يُصَرِّح بأن النهوض بالأمة لن يكون إلا بالإيمان بالله ورسوله ومقتضيات ذلك من أحكام شرعية يتصف بها المربي أولا وبصفاء وعلم وعن صدق في تبليغ الرسالة التي إن كانت كذلك تصل للمتلقي (المتربي ) وتستقر عنده ويتشبع بها وبهذا الجلاء يتجمع أفراد [الجماعة المنظمة] التي تمتلك القوة الفكرية وتحسن التدبير والتخطيط وتسعى لجمع الكلمة بالتشاور والتوافق، إذن كل هذا الجهد والاجتهاد من طرف الشيخ لينبهنا بأن شرط الانتصار والنهوض وتحقيق مشروع بدايات طريق – النهوض الحضاري- إنما هو بإيجاد هذه الجماعة القائدة المفكرة (العلماء، الدعاة، المفكرين، أصحاب المسؤوليات من الحكام، المثقفين، طلبة العلم، ذوي الفطر السليمة…) والعمل التربوي هدفه هو تهيئة وإيجاد ومتابعة هذه الطبقة القائدة وذلك بإعداد هؤلاء الرجال وانظر حفظك الله ما يقوله الشيخ: “فإننا نُربي – والحمد لله – تلامذتنا على القرآن، ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق، أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها” [الشهاب ج 4 م 10 ص 352 ربيع الأول 1353هـ جويلية 1934م ].
فالشيخ واضح في تعبيره وكلامه فهو يريد مجتمعا مُنَشَّأً على القرآن كتاب الله المعجز الخالد الذي نقرأه ويحتوي على (114 سورة من الفاتحة إلى سورة الناس) الذي أجمع المسلمون على تواتره وهو الذي نزل به الروح الأمين على خاتم الأنبياء محمد – صلى الله عليه وسلم- وحفظه الصحابة– رضي الله عنهم – وجمعوه ونشروه وقامت به الشرائع والفتوحات وتقبلته الشعوب في معظمها بالقبول والرضى من إندونيسيا إلى مغرب الشعوب، لهذه الفضائل والحقائق التي كونت سلف الأمة يشير الشيخ ابن باديس– رحمه الله – ويربي ويحث وأخذ على عاتقه ذلك الجهد المضني من التدريس والمتابعة من خلال تدريس الفِتيان والفَتيات والنساء والرجال والشباب والشيوخ ويخطب في قسنطينة والعاصمة وباقي تراب الوطن العزيز دون كَلَل ولا ملل ليلا ونهارا في السفر والحضر وفي كل مناسبة ومن خلال الصحافة والكتابة وجعل القرآن سهلا ميسورا مناسبا لأفهام الناس من خلال دروس التفسير لمدة خمسة وعشرين سنة، وبهؤلاء التلاميذ الذين صدقت فيهم الجهود وتُعلَّق عليهم الآمال وتُعقد وتتحقق الجماعة وتصدق النبوءة، وكان ذلك الأمر متحققا في الثُلَّة التي نهضت وتنادت لتحرير البلاد والعباد من ربقة المستدمر الغاشم الخبيث، ولمواصلة السير على خطى العلماء الآباء وتحقيق ما كانوا يحلمون به ويتوعدون به يجب الاتفاق والرجوع إلى ما نهلوا منه وصيانة أمانة الإصلاح لنخرج من غفوتنا ونتذكر عزتنا ولن يكون إلا بالرجوع للقرآن وتربية أفراد المجتمع عليه وإلا سيدكنا الله من تحت أرجلنا ومن فوقنا والعياذ بالله…وها هي وصيته لبعض الطلبة الجزائريين المسلمين الذين تعلموا في المدارس الفرنسية، ما بعدها تعليق: ” عليكم أن تلتفتوا إلى أمتكم فتنتشلوها مما هي فيه، بما عندكم من علم، وبما اكتسبتم من خبرة، محافظين لها على مقوماتها سائرين بها في موكب المدنية” لكم أيها العلماء المربون والدعاة الوعاظ والمهندسين والشباب الطالب للعلم والمرأة والشيخ المجرب والمثقف الواعي والحاكم المحب لأمته و…وو، بما عندكم من خبرة وعلم ومال وتجربة وجهد وعزيمة أن تجتمعوا وتتناصحوا لإخراج الأمة من التخلف والفساد والتأخر في كل الميادين الحياتية والبعد عن عفونة الحزبية الضيقة والمصالح الشخصية القاتلة، عليكم بالاجتماع على كلمة سواء لتحافظوا على مقومات الأمة من دين صحيح ولغة عربية جامعة ووحدة الوطن المفدى في سير حثيث آخذين بأسباب المدنية الحديثة مما أنتجته البشرية من تقنية متطورة تسهل سبل العيش وتذللــه وهذا رَدٌ على مدعي التنوير والحداثة الجوفاء، الذين يتهمون مدرسة الشيخ بالرجعية والظلامية فنقول لهم بيننا وبينكم الوَلَاء فأنتم وَالَيْتُم الاستدمار القديم الحديث والنزوات واتخذتم طريق التشكيك والتحريف والتظليل والفهوم العَليلة للنصوص وابتعدتم عن السبيل الهادي في الفهم والاستنباط وأخذتكم زخارف الحياة وملذاتها وأخذتم تدافعون على أراء مادية بعيدة عن الربانية فلربكم ولأمتكم ووطنكم عودوا فعقلاء أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى فضلا عن الأدنى أقروا بخطأ بني قومهم وفيهم من عاد سالما لدين البشرية مبشرا وداعيا.
ثانيا: الوسائل التربوية
انطلق الشيخ ابن باديس في بحثه عن الوسائل المناسبة لتأدية الأمانة التربوية والوصول للأهداف والغايات المسطرة إلى ما عانى منه وهو تلميذ في الكتاتيب ثم وهو طالب في الزيتونة بل الذي دفعه دفعا هو ما يعانيه مجتمعه من تأخر وقهقرية وما عاشه ويعايشه الأستاذ الرحيم بأمته ما يفعله الجهل المرسَّخ من طرف المستدمر الخبيث ومن فقر فكري ومادي قضى على الأخضر واليابس، فبدأ المعلم الملهم يشخص كالطبيب ويصف الدواء في تفان باحثا عن سعادة فرد لتسعد الأمة، وكان منهجيا إلى حد بعيد.
§ نقده للمناهج في عهده، كان يعتقد أن طرق التدريس غارقة في نقل المتون وشرحها على الحواشي وحفظ لها دون فهم أو استيعاب وتؤدي إلى تكوين ثقافة لفظية وتساعد على المناقشات العقيمة؟، وكان الطالب يُفني حياته الدراسية في علوم الآلة (القواعد النحوية والصرفية – أصول الفقه ….) دون أن تساعده على استخدامها في استنباط الأحكام الشرعية والفوائد العملية المرجوة من العملية التربوية التعليمية وبالتالي كرست الجمود وقتلت الإبداع، وهذا يعتبره الشيخ نوعا من هجر للقرآن الكريم [تفسير الآية 30 من سورة الفرقان] الذي أدى إلى انحراف المجتمع ووقوعه فيما فيه من التردي والهوان، هذا فيما يخص الدراسات الشرعية والاجتماعية والأدبية أما العلوم بأنواعها التقنية فهي لا خَبَر لها لسببين:
– الأول لأن المجتمع وخاصته يرون فكريا أولوية الأولويات تصحيح الفكرة والقصد.
– الثاني وهو أن المستدمر بآلاته المخدرة التي كانت تريد من الفرد التفكير في ما بين شدقيه وفخذيه وفقط؟؟ فكان المجتمع برمته تحت المراقبة الصارمة، يُمنع عنه سماع كل كلمة أو حرف عن العلوم التجريبية ومناهجها؟؟!! أو حتى النطق بها والمعروف أن الأمر حين ذاك لا يتعدى معرفة الناس إلا علم الحساب لقضاء الشؤون اليومية البسيطة من عدّ وتجارة وما والاهما.
ومما لاحظه على هذه الطرق البالية وخاصة في المغرب الإسلامي الاقتصار على دراسة الفروع الفقهية دون الرجوع إلى الأصول، ودون الاعتماد على الاستدلال (ذكر الأدلة من الكتاب والسنة…) والتعليل والقياس ( الأدلة العقلية )، وهذا ما اعتبره الشيخ بعدا عن المنهج الصحيح لتدبر القرآن الكريم، تدبر ما يقول “واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفني الأعمار قبل الوصول إليها”[ج 12م 10 ص 518-521 شعبان هـ نوفمبر 1934م ] ( الآثار ص 110).
وهذا ما كان سائدا من عدة قرون وما أنكره ابن باديس أنكره من قَبلُ العلماء مثل ابن تومرت في عهد الموحدين وأبا بكر بن العربي ومن قبلهما ابن عبد البر- [جامع بيان العلم وفضله] – في بلاد الأندلس المغتصبة.
والنقد الذي أبداه الشيخ لطرائق التعليم في زمانه لأنه أوصل الحياة الفكرية والثقافية إلى طريق مغلق بسبب التقليد حسب المقولة المشهورة لأهل الجهل ” اعتقد ولا تنتقد! ” والاعتماد على كلام الرجال والاقتصار على الفروع وبالتالي أصبح الجمود هو السائد مما استنهض المصلحين من أمثال الشيخ لإحداث ثورة إصلاحية حتى وإن كانت عنيفة من حيث نشر العلم وتكوين قادة يحرسونه على المنهج النبوي وهي تلك المدرسة التي ترى أن الإصلاح الاجتماعي يقوم على أساس أن الأخلاق تنبع من الداخل، وأن الوسيلة هي تطهير القلوب وتغيير النفوس، وهذا يؤدي إلى تغيير المؤسسات الاجتماعية” (الآثار ص 108) وتدعيما لهذا التوجه البديسي يقول: عند تفسيره [للآيتين 84 -85 من سورة الإسراء] (إن الذي نوجه إليه اهتمامنا العظيم في تربية أنفسنا، وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر)، بل يرى أنه ” لا يمكن إصلاح ما أفسدته البدع والضلالات إلا بالعلم والعلم فقط، وإظهار الإسلام بسلوكنا في الحياة ، أمام الناس في مظهره الصادق الصحيح، ويرى أن المنهج الذي نجح به المسلمون الأولون في تغيير العالم، إنما هو سلوكهم وتطبيقهم الإسلام على أنفسهم وغيرهم في الحياة “[(الآثار ص 104) ج 7م15ص332-334].
إن المتتبع للمنهج الإصلاحي لابن باديس– رحمه الله – ليجده يعمل على تدوير عجلة الإصلاح وتحيينها فهو الذي نقد طريقة التدريس في جامع الزيتونة وغيرها من المعاهد وأعطى البديل لذلك، هو الذي طلب بعقد ندوات وملتقيات لتحديد المشاكل والعوائق، فهو مع التجديد والنقد والمراجعة ولكن دون الخروج عن مرجعية الأمة بثوابتها، ورغم الفترة الاستدمارية التي كان يعيشها ابن باديس وقومه لم يمنعه ذلك من دراسة الأوضاع وإيجاد البدائل والحلول وقد وفَّقَه الله وكان سابق لعصره، وقد يعيب علينا بعض المتشدقين بأننا ماضويين ؟؟ متمسكين بالقديم … نقول: وبالله التوفيق أيها الخصوم، إن أصول أفكاركم كلها أقدم مما عندنا [الأفلاطونية، الرومانية، النِتْشَوَيَة …..]، إن فكر ابن باديس كان متطورا وواقعيا وتفصيليا فاقتراحاته مدونة وهذا جزء من غيض أردنا من خلاله بيان كبرى قواعد التربية فقط ،- ( لدينا من التفاصيل ما قد يتفاجأ البعض بها، طبيعة المقال لا تسع لذلك)-.
فِريةٌ لابد من الردِّ عليها، اهتمامكم دائما بالدين ومواده (القرآن، الحديث، العقيدة ،…) نعم هو كذلك لأننا مسلمون وهذا مصدر سعادتنا وعزنا، والإصلاح يبدأ من تقويم فهمنا الصحيح لهذا الدين، ونحن نبدأ بإيضاح مفاهيمه لبناء شخصية الجزائري المسلم لأننا نعتقد جازمين ما أصابنا من هزائم وإحلال الاستدمار ببلادنا وقابلية بعضنا له، لبعد سلطان الإيمان الصحيح الناتج عن الجهل والتجهيل…، أما اهتمامنا بباقي العلوم دون تفريق بما يحقق لنا رِفعة الدنيا وفخارها فهذا لم نكن له من الناسين وإنما الأولويات اقتضت تطعيم وإشباع الروح والعقل لينطلقا في تجانس وتكامل، وهذا ما نلاحظه في تفكير ابن باديس وثمار مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من جيل قاد الإصلاح ونفّذَه….
نعم لن يصلح حالنا في هذا الزمان لرسم مستقبل واعد إلا بالعودة لجذورنا ذات الغايات الواضحات والوسائل الكبرى، دون إغفال لتطورات عصرية كمنكهات تجميلية ذات معطرات وروائح لا يتنكر لها ذووا الفِطر السليمة ومحبي الجمال لبعث الهمة والعودة بالأمة إلى الريادة والسيادة وحينها يهنأ الآباء والأجداد وننفي عقوق الأحفاد كما يُنفى الصدأ عن الحديد، هذا جزء مما حققناه وتحققنا منه والبقية تأتي منا أو من غيرنا في مناسبات أخرى إن شاء الله، وبالله التوفيق .
كمال بن عطاء الله
عضو باللجنة الوطنية للتربية والتعليم والتكوين – جمعية العلماء المسلمين الجزائريين